فيلم يعلمنا قيمة الزمن والعمر طالما لا يزال لدينا وقت.

ماذا بعد ؟: "إن تايم" فيلم خيال علمي يناقش فلسفتي الوقت والموت

2023-02-09

الوقت في "إن تايم" هو أهم شيء ودون الزمان لا فائدة للمكان ولا للبشر، الوقت هو سيد القضية (تواصل اجتماعي)حنان مبروك*

يتعامل البشر مع الوقت بالكثير من الاستهتار وكأنهم يمتلكون عدادات عمر لا تنفد لا يعرفون كيف يصرفونها، ولا في ما يجب أن تصرف. في المقابل تجدهم مرعوبين من فكرة الموت، ويعشقون الحياة، دون أن يفعلوا شيئا يذكر ليستمتعوا بها، وهذه كلها أفكار قد لا تخطر ببال الأشخاص العاديين دوما وإنما تأتي السينما لتستفزهم للتفكير فيها، كما هو الحال مع فيلم “إن تايم”.

مهما تطور الإنسان وبلغ درجات من الوعي والقدرة على فهم نفسه والحياة فإنه قد يجد نفسه أحيانا أمام فكرة تنسف كل ما آمن به، وتعيده إلى طرح تساؤلات بديهية لطالما حاول من خلالها فهم أكثر الأمور إثارة له ولعلّ أهمها ماهية الحياة والموت وكذلك الزمن.

هذا ما حصل لي بعد مشاهدة فيلم “إن تايم” للمخرج النيوزيلندي أندرو نيكول، والذي استفزني لإعادة التفكير في هذه المسائل الثلاث: الوقت والحياة والموت.

لحظة ملل وفراغ دفعتني للبحث عن فيلم أرفّه به عن نفسي، أشاهده دون تدبر أو تركيز، “أضيع به الوقت”، فوجدتني أمام درس لا ينسى في أهمية الثواني التي تمر من العمر، فلا نحن قادرون على إيقافها ولا نملك إلا إدراك كيف وأين وفيما يجب استغلالها.

والمخرج والكاتب النيوزيلندي أندرو نيكول هو من مواليد بارابار أومو عام 1964 وبدأ حياته المهنية في لندن عبر بعض الإعلانات التلفزيونية قبل انتقاله إلى لوس أنجلس لإنتاج الأفلام التي يعرف أغلبها بطابعها الفلسفي والخيالي. وفي عام 1997 أنتج وألف أول أعماله ألا وهو فيلم “غاتاكا” الذي يتحدث عن الخيال العلمي والهندسة الوراثية، في حين كان أبرز أعماله فيلم “ملك الحرب” عام 2005.

خيال خصب

تدور أحداث فيلم “إن تايم” أو “في الوقت” الذي أخرجه أندرو نيكول وهو أيضا كاتب القصة والسيناريو والحوار، في المستقبل، وتحديدا في العام 2169 حين تتوقف الشيخوخة عند سن 25 وحينها يجد كل فرد نفسه مجبرا على توفير المزيد من الوقت لنفسه من أجل حياة أطول، حيث يعد الوقت هنا بديلًا للمال، مما يدعو الأغنياء إلى الاتجار فيه وامتلاك العديد من القرون التي تكاد تضمن لهم الخلود، ويلجأ بعضهم إلى تخزينها في “كبسولة للزمن”، بينما لا يمتلك الفقير إلا دقائق قليلة بعد وصوله إلى عمر الخامسة والعشرين، لذلك يعمل في أشغال شاقة تمكنه من ساعات قليلة وإن كان محظوظا قد يمتلك يوما آخر على أقصى تقدير، وهذا الوقت القليل ملك له، بإمكانه تقديم جزء منه أو وهبه كله لمن يشاء، وهو أيضا العملة المتداولة بين الناس، فإن أراد شراء شيء أو التنقل أو الحصول على أي خدمة عليه الدفع من وقته باعتباره “بطاقته الائتمانية” و”نقوده” التي تبقيه على قيد الحياة.

وبناء على ذلك، توجد عدة مناطق رئيسية في الفيلم وتسمى المناطق الزمنية؛ فدايتون هي المنطقة الأكثر فقراً، أين يوجد “غيتو”، المصنع الذي يعمل فيه مئات من الأفراد الذين نادراً ما يكون لهم أكثر من 24 ساعة في “عدادات أعمارهم”، بينما يقطن الناس الأثرياء في نيو غرينتش، بساعات عمرية تكفيهم ليكونوا خالدين.

ويصور لنا الفيلم كل هذه التناقضات بالتركيز على قصص وعلاقات اجتماعية، وصراعات ظاهرة وباطنية، بطلها الرئيسي هو ويل سالاس (جاستن تيمبرليك) الذي يعمل في المصنع ويبلغ من العمر 28 عامًا.

يعيش ويل مع والدته راشيل البالغة من العمر 50 عامًا، والتي تعمل بكد كي تضمن لنفسها أياما إضافية، لكنها في لحظة إخلال من مشغلها بحقوقها الوظيفية تجد نفسها أمام موت محتم. لا تستطيع المرأة ركوب الحافلة، فعداد ساعتها لا يكفي أجرة نقلها من مكان عملها، حيث ابنها ويل، ترجو الجميع لإنقاذها، لكن لا أحد يأبه بها، كل لا يشغله سوى مصيره، فتركض باتجاه ولدها، الذي ينجح في معانقتها مع آخر لحظات عمرها.

في إحدى الليالي، ينقذ ويل رجلًا مخمورًا يملك عدادا لا متناهيا من الوقت يدعى هنري هاميلتون من فورتيس، من مجموعة من البلطجية كانوا يتربصون به لسرقة وقته. وفي مكان سري، يكشف هاميلتون لصديقه الفقير معاناته مع الخلود، وكيف أن فكرة الموت وإن كانت مؤلمة هي في الحقيقة ضرورة حتمية لا مفر منها. في وقت لاحق من الليل، يستغل هاميلتون نوم صديقه، ليتبرع له بكل سنواته، ويغادر نحو الجسر أين ينتظر حلول ساعة وفاته، فيجد ويل نفسه رجلا ثريا يملك عداد عمر سرعان ما يعرضه للطمع في المدينة الفقيرة، مما يضطره لمغادرتها، وهناك تبدأ معاناته من المتربصين والشرطة التي تتهمه بقتل الرجل الغني وسرقة عمره وأهالي المنطقة الذين يدركون أنه غريب عنهم، ومن النساء الطامعات في وقته وغيرهم.

فلسفة مثيرة
الفيلم يسير طوال مئة وتسع دقائق في سيناريو وإخراج محكمين، يصعدان بالعقدة الفيلمية كل مرة نحو أقصاها

يسير الفيلم طوال مئة وتسع دقائق في سيناريو وإخراج محكمين، يصعدان بالعقدة الفيلمية كل مرة نحو أقصاها، لتنحل ثم تبرز عقدة جديدة تضاعف من مستوى الشعور بالإثارة والتشويق لدى المشاهد، لكنها قد تدفعه – كما فعلت معي – إلى إيقاف عرض الفيلم، والتفكر قليلا في بعض الكلمات التي يتلفظ بها الممثلون، أو الحوار الذي يدور بينهم.

ويستطيع الفيلم بمستوى الخيال العلمي الذي يطرحه دون الكثير من المؤثرات البصرية بل بألوانه وكادراته وديكوراته المتباينة، التي تصور التضاد بين حياة الفقراء والأغنياء، أن يستفز عقل المشاهد للتساؤل. فالوقت في “إن تايم” هو أهم شيء في الحياة، ودون الزمان لا فائدة للمكان، ولا للبشر. الوقت هو سيد القضية دائما وأبدا، وهو المتحكم في مقاليد الأمور باستمرار. وبما أنه العنصر الأهم في وجود البشر أنفسهم.

هذا الفيلم الذي خرج للنور لأول مرة منذ اثني عشر عاما، لا يزال صالحا لكل زمان ومكان ويمكننا مشاهدته والتعلم منه طالما لا يزال لدينا الوقت الكافي للحياة، ومنه سنفهم فعلا مقولة إن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.

قد لا تكون أوقاتنا كالساعات في الأيدي، تذكرنا في كل ثانية كم تبقى في حوزتنا من فرصة للحياة، لكنها هي بالفعل كذلك، تسير بسرعة جنونية وبدقة لا متناهية نحو النهاية.

ولطالما شغلت قضيّة الموت أذهان الفلاسفة والمفكّرين على اختلاف مَشاربهم ومَذاهبهم منذ فجر التاريخ، ودفعتهم لطرح أسئلة تتعلّق بما هو الموت، وكيفيّة حدوثه، وما مصير الإنسان بعد الموت في العالَم الآخر؟ ونتجت عن ذلك آراء فلسفيّة متعدّدة ومتنوّعة ترى في مُجملها أنّ الموت هو نقيض الحياة.


ويقدم الفيلم قراءة سينمائية لمسألة الموت، سنة الحياة المؤلمة، التي شغلت تفكير الإنسان منذ الحضارات القديمة، فمنهم من تخيل حياة أخرى بعد الموت، فجهز كنوزه وثرواته وحملها معه إلى القبر، ومنهم من اختار حرق نفسه ونثر رماده فوق أحب الأماكن لديه، لتظل روحه هائمة في الأرض، ومنهم من اقتنع أن لا حياة للإنسان إلا هنا والآن، فاختار أن يعيش الحياة كما يحلو له، ودون ضوابط اجتماعية ودينية.

لكن الفيلم يقدم على لسان شخصية هاميلتون نظرة مختلفة للحياة المطلقة أو للخلود تحديدا، نظرة يمكن أن تنسف قول الفيلسوف الأميركي إرنست هوكنغ بأن “الإنسان ينظر إلى الموت على أنّه شرٌّ صرف ومحض، وأقصى أنواع الشرور”، فإن امتلك الإنسان حياة خالدة، سيسير نحو اكتئات حتمي وسيدخل في دوامة من الحنين والتفكير في الماضي، سيعيش كل ما يمكنه في الحياة حتى يسأم منها ومن كل شيء، سيحب حتى يكره الحب، وسيأكل حتى يكره الطعام وسينام حتى يسأم النوم، وربما سيمنحه ماله القدرة على معرفة الأرض شبرا شبرا، سيجرب كل شيء حتى لن يعود شيء يغريه، وسيفقد من الأحبة الكثيرين، ولن تمنحه الحياة المزيد، لذلك فإن لكل شيء إذا ما تم نقصان، ولا بد للحياة من نهاية تمنح الإنسان السلام النفسي.

من هذا الفيلم تجددت لدي القناعة بأهمية الوقت، وبأهمية الحياة وكذلك أهمية الموت، والموت هنا قد لا يكون فعلا بشريا فقط، فأن نُميت في ذاكرتنا أشياء وأشخاصا وأحداثا مضت يمكّننا من أن نعيش الحاضر والمستقبل كما يجب، وطالما أن لدينا عداد عمر سينفد بالتحديد يوما ما، فنحن لسنا مسؤولين إلا عن اللحظة الراهنة، فلنعشها بسلام ونترك الحياة تسير بنا نحو المستقبل باطمئنان.


*صحافية تونسية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي