فيكتور فرانكل: علم النفس الوجودي والعلاج بالمعنى

2023-02-07

أوس حسن

تجري الحياة بطريقة خارجة عن طبيعة العقل وقوانينه، لذا فإن سؤالنا عن وجود معنى مجرد للحياة، سؤال يناقض هدف الإنسان وكينونته المنفتحة على العالم.

كذلك فإن بعض المحاكمات العقلية والتصنيفات الذهنية، لا تغدو كونها آراء وتجارب شخصية تلصق صفات وخصائص معينة للعالم من حولنا.

يشير فيكتور فرانكل وهو طبيب أعصاب نمساوي ومعالج نفسي، وأحد الناجين من معسكرات الاعتقال النازية في كتابه «الإنسان يبحث عن المعنى»؛ بأن ما هو متوقع من الحياة ليس في واقع الأمر موضع أهمية، لكن الذي يعنينا هو ما الذي تتوقعه الحياة منا؟ هناك بعض المواقف التي تشكل مصير الإنسان وتجعله منفردا ومختلفاً، ولا يمكن مقارنته بمصير إنسان آخر. فالمواقف تختلف في استجاباتها التي تسعى إلى تشكيل مصير الإنسان بأفعاله وأعماله. إن التفرد الذي يميز كل إنسان عن غيره هو الذي يعطي معنى لوجوده، فالمعنى ليس شيئا ينبثق من الوجود ذاته، وإنما شيء يواجه هذا لوجود، شيء ما يعيش من أجله الإنسان. تعتبر المدرسة النفسية التي ينطلق منها فرانكل ثالث أكبر مدرسة للتحليل النفسي بعد مدرسة فرويد ومدرسة آدلر، لكنه لا يرفض نظريات فرويد في اللذة واللاشعور، ولا يرفض السعي إلى السيطرة وإرادة القوة، كما يعرضها آدلر؛ بل يجمع كل هذه النظريات ضمن القالب الوجودي للإنسان. تتخذ المدرسة النفسية عند فرانكل من علم النفس الوجودي عمادا لها، إذ تنطلق من الفكرة الوجودية التي تقول، إنه لكي يعيش الإنسان عليه أن يعاني، ولكي يبقى عليه أن يجد معنى في المعاناة.

الوجود العاري في معسكرات الاعتقاليسرد فرانكل تجربته الأليمة والمؤثرة في معسكر الاعتقال، ويعاين بعض الأنماط السيكولوجية التي يعانيها المساجين هناك. تبدو الحياة في معسكرات الاعتقال الرهيبة وكأنها لا تنتمي لعالمنا، حيث يتجلى التحدي الواضح لإرادة الإنسان وصراعه من أجل البقاء، فالموت هناك على تماس مباشر مع الحياة، وهو واقع حتمي على السجين أن يألفه ويتعايش معه. فجأة وجد فرانكل نفسه سجينا في المعسكر، في ذلك الجحيم الذي يطل على عالمنا من نوافذ السجن ضيقة، ومن الهذيانات والأحلام العديدة، حيث تصبح مشاهد الجثث والتعذيب اليومي شيئا يعتاده الذهن البشري. فقد فرانكل كل صلة تربطه بالإنسانية، وكان عاريا من وجوده ومن كيانه، فعائلته لقت حتفها في عمليات الإبادة الجماعية، بعدما تم إرسالهم إلى محارق الجثث وأفران الإعدام بالغاز. وهو أيضا عانى من الجوع والبرد والمرض، وتوقع الموت في كل ساعة، بل في كل لحظة من لحظات حياته، لكن كيف استطاع الصمود، وكيف وجد من عمق هذا العذاب حياة جديرة بالبقاء؟ يقول دوستويفسكي: «إن الإنسان كائن حي بمقدوره أن يتعود على كل شيء»، فقدرة الإنسان على العيش والبقاء تتناسب مع قدرته على التكيف والتعود على كل شيء.

تعلن الرغبات الأولية عن ظهورها بقوة داخل حياة السجن، ويرتسم أمام أبصارنا نمط بدائي من الوجود الإنساني، فيضطر الإنسان أن يتخلى عن عاداته وسلوكياته السابقة، وتتوضح لنا قدرته على التحمل والتحرر من أوهام العقل، عندما يكون واقعا في قلب المأساة، وفي الخطر الذي يهدد حياته ووجوده العاري. كانت تجري معاملة السجناء ككيانات في العدم، فالسجين العادي يشعر بنفسه ومن دون تفكير واع بأنه منحط ولا قيمة له، فهو يرى الحياة من خارج الجدران بأنها نائية ومنعزلة وغير حقيقية، حيث ينعدم الزمان ويضيف المكان شعورا بالعدم. لكن ما الذي يكمن وراء الحافز الحقيقي لخلق المعاني في حياة تنسجها المأساة ويتهددها الموت؟ يرى فرانكل أن الحياة الداخلية للسجين كلما صارت أكثر عمقا، أصبح السجين أكثر نزوعا إلى اختبار جمال الفن والطبيعة بطريقة لم يعهدها من قبل، فهذا الوعي بالقيمة الداخلية للفرد جعله يعلو في أشياء أسمى وأكثر روحية، ولا يمكن أن تهزها حياة المعسكر القاسية. إن الوجود الإنساني قبل كل شيء هو اختيار ومسؤولية، حتى في أحلك الظروف التي يمر بها الإنسان، فما يختبره الإنسان وما يختاره لا تستطيع قوة على وجه الأرض أن تسلبه منه. ومن هنا تأتي فكرة الحرية والاختيارعند فرانكل، فالإنسان ليس مجرد نتاج لعوامل بيئية وظروف ذات طبيعة بيولوجية ونفسية، فهو في أشد المواقف بؤسا وانهيارا لا يتخلى عن اختياره، فكل شيء من الممكن أن يسلب من الإنسان، عدا شيئا واحدا يمثل حريته، وهو أن يختار المرء اتجاهه في ظروف معينة. فالنمط الذي يتشكل عليه السجين في المعتقل ليس نتيجة لمؤثرات المعسكر وحدها، وإنما نتيجة قرار داخلي أيضا.

متى تكون حياتنا جديرة بالمعاناة؟

إن المعاناة جزء أصيل ومتجذر في الوجود الإنساني، لكن المعاناة تتوقف عن كونها معاناة في اللحظة التي تكسب فيها معنى من المعاني، ويعتمد هذا على طريقة تشكلها، وعلى الطريقة التي يتقبل بها الإنسان قدره ويتحمل مسؤولية آلامه. هناك بعض القيم التي تتفتح من عمق الألم الإنساني، وتجعل الإنسان قادرا على الاحتفاظ بحريته الداخلية، ما يوفر له قوة باطنية تعلو فوق قدره. يقول دوستويفسكي: يوجد شيء واحد فقط يروعني، وهو ألا أكون جديرا بمعاناتي. ربما يكون الإنسان فريدا ووحيدا ومختلفا في معاناته، وبالتالي يستحق أن يكون جديرا بهذه المعاناة. تضيء المعاناة عالما باطنيا واستثنائيا عند الإنسان، فتجعله يشعر بذلك المعنى وذلك الغموض، وتلك الفرادة التي يعلو بها فوق البشر. إن الشجاع هو ذلك الذي لا يخشى من دموعه المنهارة فوق خديه، ويختبر إلى أقصى حد الألم الناجم من الوحدة والكآبة. يشعر بتلك العزلة المرعبة التي تجعله مهجورا في ظلام الكون. الشجاع وحده من يختبر تلك العظمة الروحية في أعماقه، فلا يهرب من آلامه ولا يصارعها، بل يحبها بكل ما فيها من مجهول، ويتعايش معها إلى أقصى حد ممكن.

العلاج النفسي بالمعنى

يركز العلاج المعنى، أكثر على المستقبل عندما يواجه المريض فعلا بوجود معنى في حياته انطلاقا من وجوده الفردي، وتحفيز إمكاناته المتاحة. فالبحث عن معنى هو قوة أولية في حياة الإنسان، وليس تبريرا لدوافعه الغريزية ويتحقق هذا بواسطة الفرد وحده عندما يسعى لإشباع إرادة المعنى عن طريق مواجهة كل ما هو حقيقي وأصيل في حياته. يتم توجيه الشخص عادة إلى الدخول في البعد الروحي والمعنوي لديه، ولكن ليس الروح بمعناها الديني، وإنما على تحقيق المعنى والقيم، فقلق الإنسان ويأسه وإحباطه في الحياة لا يخرج عن كونه ضيقا معنويا وروحيا، وهنا تتركز عملية العلاج على جعل المريض واعيا بما يتوق إليه في أعماق كيانه. يتركز العلاج الوجودي على الإنسان الذي يشعر بالعدمية والفراغ، أو على الذي تتعرض عنده إرادة المعنى إلى إحباط عن طريق ثلاثة أمور وهي: كينونة الإنسان، معنى الوجود، ثم التوصل إلى معنى ملموس في الوجود الشخصي عن طريق جعل المريض واعيا كل الوعي بالتزامه بمسؤوليته، وبالمجال الكلي للمعنى وما ينطوي عليه من قيم.

أن التوتر كامن في الوجود الإنساني، وإن الاعتلال النفسي يستند إلى درجة من التوتر بين ما أنجزه الفرد بالفعل، وما لا يزال عليه أن ينجزه، وتزداد درجة التوتر كلما ازدادت تلك الفجوة بين واقع الفرد وما ينبغي أن يصير عليه، ومن هنا تأتي أهمية العلاج بالمعنى في إبقاء التوتر قائما بوضع الإنسان داخل تحديات جديدة تحفز عنده معاني كامنة عليه أن يحققها، فما يحتاجه المريض ليس استعادة التوازن، وإنما الديناميات المعنوية في مجال التوتر، ويكون أحد قطبيها المعنى المراد تحقيقه، والثاني إمكانيات الإنسان التي ينبغي عليه أن يقوم بها لتحقيق ذلك المعنى.

لكن المعنى عند الإنسان، ينبغي أن لا يقتصر على تحقيق الذات، أو السعي الدائم نحو اللذة والتوازن مع العالم الخارجي، فالوجود الإنساني قد يكون تساميا بالذات وتجاوزا لها، أكثر من أن يكون تحقيقا للذات، فتحقيق الذات ليس هدفا ممكنا إذا جعله الإنسان غاية في حياته، فبقدر ما يسعى إليه، بقدر ما يخفق في الوصول إليه، فالعالم الخارجي ليس أداة أو وسيلة لتحقيق غايات الفرد، وسعادة الإنسان غير مشروطة باهتمامه باللذة والسعادة، أو بسعيه الحثيث إليهما، فقد يتحققان بطريقة تلقائية ومفاجئة عن طريق بلوغ الهدف.

الفراغ الوجودي والعصاب

يعاني أغلب المرضى النفسيين من الشعور المطلق باللامعنى لحياتهم نتيجة تعرضهم للظلم أو للحرمان من أشياء أساسية، فيعوزهم معنى حقيقيا يجعلهم يستمرون في الحياة من أجله، يسمى هذا الموقف بالفراغ الوجودي ويكون منشأ العديد من العصابات والأمراض النفسية. عادة ما يكشف الفراغ الوجودي عن نفسه بالملل، وعادة ما يقود إلى الجريمة أو الانتحار، وفي أحيان كثيرة يجد نفسه في التعويض الجنسي، فالطاقة الجنسية تصبح متفشية أكثر في حالة الفراغ الوجودي.

إن الفراغ الوجودي هو العصاب الجماعي لعصرنا، الذي يتخذ من العدمية شكلا يجرد الحياة من كل معنى وقيمة، ولا يرى في الإنسان سوى كائن آلي يخضع لمؤثرات الوراثة وظروف البيئة الاجتماعية والنفسية، وبالتالي فإن هذا الإنسان ليس حراً، وغير قادر على إنتاج أي شيء ذي قيمة.

الكينونة والمعنى

يتغير معنى الحياة بتغيير العالم، وعلاقته بالزمن والصيرورة. يتغير المعنى، ولكنه لا يتوقف أبدا من أن يكون موجوداً، وعلينا أن نكشف عن المعاني إما بواسطة العمل، أو اختيار قيمة من القيم كالحب أو الفن أو الدين. يذهب فيكتور فرانكل إلى أن كينونة الإنسان هي توجهه نحو شيء آخر يوجد خارجه، إلى العالم الغني بالكائنات التي عليه أن يواجهها، وأن يملأها بالمعاني، فالإنسان حر بالقدر الذي تشكله مواقفه وخياراته في الحياة، وبالقدر الذي يصمم فيه ماهيته، ليكون المبدع الأكبر للمعنى والخالق للقيم، وهذه المعاني يجب أن تتوجه إلى الحياة أكثر من كونها تحقيقا للذات. إن السعي الدائم نحو المعنى يطيل أمد الحياة ويحافظ عليها. فالمعنى الأصيل الذي يولده التسامي بالذات، هو اكتشاف الشخص لحياة كاملة، يكون فيها مدفوعا بقيم روحية وبطبيعة عليا للوجود ذاته.

‏كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي