"علم الترجمة القانونية": هشاشة الفرد في النسيج الدولي المُعولَم

2023-01-24

نجم الدين خلف الله

في ظلّ العولمة الاقتصادية التي محت الحدود الجغرافية، ازدادتِ الحاجة إلى التعامل بين الدول ذات المنظومات القانونية المتباينة، والدخول في تبادلات لغوية وتجارية وجمعياتية معقّدة. لذلك، أضحتِ الترجمة القانونية نشاطًا مكثّفًا، لا تكاد تخلو منه دائرة رسميّة، سواء في المستوى الكتابي أو الشفوي، الأمر الذي جعل هذا الحقل في صميم التفاعُل بين الدُّول والجمعيّات والمنظّمات غير الحكومية. ونظرًا إلى هذه الأهمّية، خصّصت الباحثة الفرنسية وأستاذة الترجمة القانونية في جامعة السوربون، سيلفي مونجون - ديكودان، كتابَها الأخير "مبادئ في علم الترجمة القانونية" للقضايا النظريّة التي يَطرحها نقل مدوّنات القانون، وقد صدر مؤخّرًا عن دار "سبتانتريون" للنشر الجامعي.

يسهم هذا الكتاب في تدشين حقل جديد، تتناول من خلاله الباحثة أسئلة إبستيمولوجية متعلّقة في الآن ذاته بترجمة نصوص القانون وبقوانين الترجمة، ثم ما يُثار بمناسبتها من مباحث مُتعدّدة الاختصاصات، تدور حول اللغة والحقوق ومتغيّرات التاريخ الثقافي والسياسي المؤثّر في حياة الأفراد والمجتمعات.

نقطة انطلاق هذا العمل هي ما سمته مونجون - ديكودان "الهشاشة القانونية واللغوية" للفرد العالق في النسيج الدولي المُعولَم، ولا سيّما في البلدان الغربية التي يواجهُ فيها المهاجرون وطالبو اللجوء والنازحون "ماكينة" قانونية وإدارية قاهرة، يَجهلون لغتَها ولا يعرفون آلياتِ اشتغالها، ما يجعلهم "عُزَّلًا" من كلّ حماية، فيجد هؤلاء الأفراد أنفسهم في مواجهة تشريعات مختلفة عمّا عهدوه، صيغت ليس فقط بلُغة مجهولة، لا تساعد اللغة الإنكليزيّة في فهمها، وإنما أيضًا من خلال فلسفة مجرّدة، غالبًا ما تعجز معارفهم العامة عن استيعابها.

وقد قسّمت الباحثة كتابها هذا إلى ثلاثة أقسام: تناولت في الأوّل منها بدايات علم الترجمة القانونيّة ومقدّماته النظريّة، ساعيةً بذلك إلى وضع هذا الفنّ المستحدث في سياقه الإبستيمولوجي. وفي الثاني عرّجت على التاريخ السياسي الدولي الحديث الذي تميّز بنشوء دُوَل ذات سيادة، بعضها متعدّد اللغات والمنظومات القِيَمية، وقد تداخلت في ما بينها المصالح خصوصًا بعد انبعاث الاتّحاد الأوروبيّ، ما جعل ترجمة الوثائق والاتّفاقيّات والمعاهدات المشتركة، وحتّى نصوص القوانين الوطنيّة، أمرًا ضروريًّا للبلدان الأخرى، ضمن حيويّة تفاعلها اليومي. كما استعرضت وجهات نظر رجال القانون المقارن والقانون الدولي من منطلق التنصيص على الترجمة كأداة رئيسة في هذا التعامل. وفي القسم الأخير، تطرّقت الباحثة إلى القواعد والقوانين التي تحكم نشاط الترجمة بما هي مجموعة من الضوابط الشكلية التي تحسم صلاحيّة هذا النشاط من عدمها، ومن ذلك الحقّ في المساعدة اللغويّة ضمن الإجراءات الجنائية أو الخدمات العمومية وغيرها.

 وقد تقصّت مونجون - ديكودان العديد من المسائل الدقيقة، مثل القوة الإجرائية للّغة المُترجَم إليها، ومدى شرعيّة بعض اللغات دون بعض، وكذلك تباين المقاييس المنطقية والأسلوبية المطبَّقة على الترجمات. ففي ما يُعدّ - من الناحية اللغوية - ترجمة جيّدة متماسكة، قد لا يَعدّه رجلُ القانون كذلك، لأنّ تلك الترجمة لا تُنتج الآثار القانونية التي يسعى المُتقاضون إلى تحقيقها ضمن القضية المنظور فيها.

وقد ركّزت الباحثة في كلّ هذه الفصول على الأساس اللغوي للقيمة القانونيّة، بما هي ثمرة نسيجٍ من مُصطلحاتٍ فنّيّة وتراكيب نحوية وأسلوب صياغةٍ، لا بدّ أن تُنقل كلّها بأمانة حتى يحافظَ النصّ - الهدف على آثاره القانونية، ويتمكّن من تأدية وظائف الترجمة القانونيّة الثلاث: خلق القيمة فتطبيقها على طرَفَي العَقد أو النّزاع، ثم إمكان عَرضها رسميًّا والتعقيب عليها. كما استعرضت أدوات الترجمة من معاجم وقواميس مختصّة، سواءً في شكلها الورقي أو في صيغتها الافتراضية، مثل البرمجيات، متسائلةً عن إمكانية الملاحقة القانونية في حالة خطأ المُترجمين أو نقص نصوصهم وغموضها.

وختمت الباحثة عملها بالعديد من الملاحق ذات الطابع البيداغوجي التوضيحي، غرضُها مدّ جمهور الطلاب الذين يتوجّه إليهم الكتاب بأكثر عددٍ من الوثائق والمُستَندات التي تُساعد في ممارسة الترجمة القانونية والنهوض بها حسب مراحل منهجيّة سَلِسة ومتسلسلة.

وهكذا، فالكتاب سلسلة متتابعة من الأبحاث والتحريرات المرتبطة بالمسار الترجميّ للنصوص القانونية بمختلف فروعها، وتفكيكٌ لآليّات النقل وما قد يعتريه من فِخاخٍ ورهانات، وقد طافَت الباحثة بين دوائر اللغة والقانون ومتغيّرات التاريخ المُعَلْمَن الذي بات يفرض ما يشبه "النموذج الكوني"، في خلق القيَم الناظمة وتطبيقها، ثم الدَّرْس العِلمي لها.

ويُمكن لهذا الكتاب أن يُسهم في تنشيط حقل الترجمة القانونيّة ضمن نسيج الثقافة العربيّة للعديد من الاعتبارات: فَمن جهة أُولى، لا يُمكن أن يغرب عن البال، أنّ جُلّ التشريعات المُتّبعة في العالم العربي منحَدِرٌ من اللسانَين الفرنسي والإنكليزي عبر ترجمات أُنجِزت إبّان الحقبة الاستعمارية وبعدها، في سعيٍ من سُلطات الاحتلال آنذاك إلى القطع مع المجالس الشرعية والقضائية التي كانت سائدة، وفرض النموذج الوضعي ومؤسساتِه (أي المحاكم) عوضها. لذلك، لا بدّ من الحَفر في السياقات التاريخية التي حفّت بهذه الترجمات وأنتجتها لاستنطاق العوامل التي وجّهتها والايديلوجيات التي سوّغتها.

من جهة ثانية، ومنذ اعتماد العربية لغةً رسمية في الأمم المتّحدة سنة 1973، صارت الضادّ نقطة تتنقّل منها وإليها مصطلحات القانون الدولي ضمن دائرة التعاملات الواسعة بين العالم العربي وغيره من الدُّول. وبسبب مركزيّته في مجالات الغاز والنفط والأسلحة، بات لزامًا على مسؤوليه خوض غمار التبادُل الاقتصادي العالمي على ضوء نصوص العقود والمعاهدات والاتفاقيات. إذ قد تنجَرّ عن الإخلال بها نزاعاتٌ معقّدة، لا بُدّ من حلّها، لا سيما وأنّ العربيّة هي أيضًا لغةٌ رسميّة في هذه المعاهدات.

ولهذا يبدو فحص المصادرات المعرفيّة وتحليلها من بين الضرورات المُلحّة لعلم الترجمة القانوني الخاصّ بالضّاد، حتى يعود إلى تاريخ نشأتها، منذ القرن التاسع عشر على يد رفاعة الطهطاوي، ثم يتعقّب أطوارَ تحوّلها إلى اليوم. إذ تتّسم فصحى المجال القانونيّ باضطراب المفاهيم وعدم تجانسها، وأحيانًا بركاكة نصوصها التي تعجّ بالمقابِلات الأجنبية المنقولة بشكل حرفي، أو بسبب وجود متغيّرات ومقابلات إقليمية عدة للمفهوم الواحد. وقبل توحيد مفاهيم هذا الحقل، لا بدّ من البدء بتفكيك "الخطاب" الذي أنتج تلك النصوص وحَكم مراحل نقلها.

وهكذا، فَظهور هذا الفرع المعرفي الجديد هو تتويج لحقل الألسنية القانونية، وتطوير لمباحث مُعجمها وأسلوبها وتركيبها بوصف القانون لغةً وخطابًا. والأمل ألّا تنتظر الثقافة العربيّة عقودًا قبل أن يطوّره عقول أبنائها، بما أنّ الفقه والقانون من صميم الثقافة العربية - الإسلامية وفي القلب منها. ولا شك أنّ العرب اليوم أحوج ما يكونون إلى هذا الفرع المعرفيّ حتى تتكشّف دوائرُ مجهولة وممتعة في ثقافتهم: لغة القانون في مدارات الترجمة ومتاهاتها، ما يخفّف من "هشاشتهم" أمام قوى عُظمى، غالبُ لجوئها إلى "قانون الغاب"، وإنْ جمّلته بمقولات الشرعية الدولية.

كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي