وهل يكفيك أَنْ صِرْتَ كلامًا في فمِ الآخَرين؟

2023-01-05

كاصد محمد

كلامٌ في فَمِ الآخرين

هَا صُفْرَةُ وَجْهِكَ المُتَصَلِّب،

ولِسَانكَ الأَحْمَر قَدْ غلَّفَهُ الصَّمْتُ بالبَياض

عَيْنَاكَ المُطبقَتانِ تَركتا النُّورَ

لأَعْيُنِ الآخَرِين، حتَّى حين

الحَيِّزُ الّذِي ما زِلْتَ تَشْغلُهُ

لِمنْ سَتَتركه؟

كلامُكَ الّذِي أَنْفقتَهُ طوالَ العُمْر

كلامُكَ الهادِرُ تحْتَ الشَّمْسِ وتحْتَ النُّجُوم

عَنْ نفسِك، عَنْ الآخَرِينَ

عمَّا يُجْدِي نَفْعًا وعمَّا لا يُجْدِي

أَينَ سَتتْركُه؟

وهَلْ يَكفِيكَ أَنْ صِرْتَ

كلامًا في فَمِ اَلْآخَرِين؟

لِسانُ الهَاويةِ انْطَلق

يَلحَسُ قَدمَيْكَ

يا هذا

■■■

ظِلال

الظِّلالُ التي على السَّقْفِ والجِدار

يَرْسُمُها ضَوْءُ فانوسٍ نَفْطيٍّ خافِت

لَيْسَتْ ظِلالَهُم

رُبَّما هي دُخانُ الفانوسِ يَتَسَلَّق الجُدْران

الظِّلالُ الّتي تَعِبتْ ضُرُوسها مِنْ طَحْن الفَراغ

الظّلال التي ربّتِ الجوع في بطونها

حتى صار غولًا يقضم الأحشاء

ليْستْ ظلالَهُم.

والأبُ الّذي يَدخُلُ وهو يَحمِل

خيْبةً في يَدهِ اليُسْرى

يُخبِّئُ يَدهُ اليُمنى وراءَ ظَهْره

كيلا يَدخُلُ بِخيْبَتيْن

ها هو يُضيفُ إلى الجِدارِ ظِلًّا.

والأُمُّ الّتي تُديرُ المِغرفَةَ في قِدْرِ المَاء

وليْسَ مِن عَليٍّ أو عُمرَ يَمُرُّ مِن هُناك

ها هي تُحرِّكُ المَشهَدَ فَوقَ الجِدار.

تِلكَ الثُّقوبُ الّتي في أيْديهِم

ليْسَتْ سِمات المَسيحِ الصَّليب

بلْ هي فَراغُ السُّؤال

إذْ قَبَضَ المَسْؤول.

(البَطنُ الّتي لمْ تخْبُرِ الجَوعَ

تَنأى عَنِ التَّصديقِ بالجَائع).

تِلكَ الظِّلالُ الّتي تَملأُ البَيت

ليْسَت ظِلالَهُم

لَعلَّها أرْواحُهم

تَتَسلَّقُ الجُدرانَ والسُّقُوف.

■■■

شَمْسُ الجَنوب

وأبْطأَ القِطارُ

تَوقَّفَ

في بَلدةٍ صَغيرةٍ، على جُدرانِها تَسيل

ضَحوكةً شمس الجنوب.

وكانتْ ثَمَّة نافذةٌ

تَتَراقصُ في فَمِها سِتارةٌ بَيضاء،

أزاحَتْ يدٌ السِّتارة، فارْتَمتْ شَمْسُ الجَنوب

على وَجْهٍ باهِرِ الجَمال

صارَ كَنبْعِ ضوْء.

لا أذْكرُ العَيْنيْن، ولا الوَجْنَتيْن

لا أذْكرُ الفَم،

أذْكرُ وجْهًا فَقَط

توهَّجتْ فيه شَمسُ الجَنوب.

كانَتْ تَنظُرُ صَوبَ نافِذةِ القِطار

بذهن شاردٍ رُبَّما!

وانْطَلقَ القِطار، واخْتفَتِ النَّافِذة،

وغابَ ذاكَ الوَجْه

وغابَتِ الشَّمْس.

وسنونٌ مَضتْ وشُموسٌ كَثيرَة

لكنَّ ذاكَ الوَجْهَ وشَمْسَهُ

شَمس الجَنوب

إلى اليَومِ يَتوهّجُ في ذاكِرَتي.

أيْنَ سَيذْهبُ يا تُرى

بَعدَ انْطفاءِ الذَّاكِرة؟

■■■

ريحٌ قاتِلة

كانَتْ ريحًا قَاتِلة

تِلكَ التي بَعثَرتْ شَعرَكِ

رَفعَتهُ عَن رَقبَتِكِ

وحَمَلتْ عِطْركِ

مِثلَ حُبوبِ الطَّلع

نَثرتْهُ في الأُنوف،

فانْدلعَتْ نِيرانُ الرَّغبَة

في خيالاتِ الرِّجال.

أنْتِ بَريئَةٌ والرِّجالُ بَريئون

كانَتْ فَقطْ ريحًا قَاتِلة.

■■■

حَياة

هي أَنْ تَجلِسَ على حَافَّةِ النَّهر

تَحتَ غُيُومٍ مُثْقلَةٍ بالمَطَر

تُفتِّتُ الخُبزَ وتُطعِمُهُ صِغارَ السَّمك

فتَجيءُ امرأةٌ أو يَجيءُ رَجلٌ

يَسألُكَ عَمّا تَفعَل.

تَرفعُ رَأسَكَ نَحوهُ هُنيْهة

والنَّهرُ يَجري غَيرَ عابئ بِكُما

تَبْسُمُ في وَجهِهِ وتَقُول:

"هذا شَأْنٌ لا يَعنِيك".

■■■

طَمأنينَة

أحْتفِظُ بالرَّعشَةِ والحَيرةِ على الدَّوام

مُذ تَساءَلتُ، ذاتَ يوم، هَلْ أَنا

سِوى تِلكَ الرَّعشَةِ والحَيرةِ أمامَ المُبهَم؟

ولا جَوابَ يَجيء، فاحْتفَظتُ بلا جَوابي.

اليَقينُ حُجرةٌ مُصفَّحةٌ مُحصَّنة

تَقبعُ فيها، بِطَمأنينَة، عُقولُ المُوقنين،

تَقيهُم المَجاهيلَ التي تَفغَرُ أفْواهَها

مِثل هاوياتٍ قَعرُها الظَّلام.

وأَنا المُشرَّدُ أنْظرُ حُجرَ الآخَرين،

وأَفواهُ المَجاهيلِ غابَةٌ مِن حَولي

أَسْقيها حَيْرتي ورَعْشَتي،

فتَنبُتُ أَسئِلةٌ فَوقَ أُخرى.

مَتى، أيُّها المُبهَم، تَنضَبُ حَيْرتي

وتَؤُولُ رَعشَتي إِلى طَمأْنينَة؟

■■■

لَوْ أَنّكَ تَعلَم

لَوْ أَنّكَ تَعلَم

بِأنَّكَ وظِلَّكَ سَواء،

بَلْ ظِلّكَ أَبْقى.

يا هذا الذي يُثْقِلُ الأَرْض

حتّى حينَ يُغادِرُها

فَثمَّةَ دائمًا

بَديلٌ يَشْغلُ حَيِّزك.

يا هذا

مَسرحٌ هي الحَياة

ونَحنُ كومبارسها

أَتَحسَبُ أنَّكَ بَطل؟

سَلْ ظِلَّ أبِيكَ

سَلْ هذا النَّهر يَرغُو.

يا هذا

يَومُك أمسٌ تَصفعُهُ الرِّيح

ومَديدٌ لَيلُكَ لا ضَوْءَ يَحدُّه

عَبثًا تَبحَثُ عَنْ قِنديلٍ ما

فَها لِسانُ الهَاويةِ انْطَلق

يَلحَسُ قَدمَيْكَ

يا هذا.

■■■

قاسِيةٌ هي الحَياة

قاسِيةٌ هي الحَياة

كَجِدارِ جُنْدٍ مُسَلّحين

قاسِيةٌ هي

كَبُقْعَةِ دَمٍ ما زالَ حارًّا

كَطِفْلٍ حافيَ القَدَمَيْنِ، يَلْعَبُ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ

دُونَ أَنْ يَعْلَمَ أَنّهُ فَقَدَ للتَوِّ أَباه

مَعَ ذَلِكَ

فَإنّ حَرَكاتَهُ

وَانْحِناءَةَ رَأْسِهِ

وَنَظْرَتَهُ

تَشي بِيُتْمِهْ.

■■■

أَبي

يُقْبِلُ صَوْتُكَ إِليَّ

مِنْ قَاعِ بِئْرٍ غَائِر

لَوْ أَنَّ صَوْتِي حَبْلٌ

وَقَلْبِي دَلْوٌ

لرُبَّمَا . . .

■■■

كلام

كمْ أُحِبُّ الأفواهَ الصَّامِتة

كأنَّها مَعابدُ مُقفَلةٌ أبْوابُها

كمْ أُحبُّها يا إلهي

شِفاهُها المُطْبقَةُ كُثبانُ صحراءٍ

لا ضَجيجَ فِيها سِوى هَدير النُّور

تَتسرَّبُ الحِكمةُ مِنها والجَمالُ

ما اسْتَطالتْ تَراتيلُ الصَّمت.

أَعلمُ يا ربِّ أنَّ شَفتيْكَ المُطْبقتيْن

قالتا الحِكْمَةَ كلَّها، لفَظتا هذا الخَلْق

دُونَ أنْ تَنفَرِجا.

فَما انْفرجَتْ شَفَتانِ إلّا عَنْ كَهفٍ غائرٍ

تَندفِعُ منهُ وُحوشٌ وكَواسِرُ وأفاعٍ وعَقارب

ويَسيلُ دمٌ مِنهُ يَصبُغُ اللِّسان.

فليتَ صَمْتكَ يا ربِّ مَلأَ الأفْواه

ولَيْتَ شِفاهَنا ظلَّتْ عَقيمَة.

بطاقة

شاعر وكاتب ومترجم عراقي من مواليد بابل عام 1981، تخرّج من "جامعة بغداد" في اللغة والأدب الإيطاليّين، ونال الماجستير ثمّ الدكتوراه في الأدب المقارن من "جامعة بولونيا" التي يعمل أستاذاً فيها. يكتب بالعربية والإيطالية، ويترجم من اللغتين وإليهما، حيث نقل أعمالاً عديدة بينهما. من كتبه: "الحياة ليست مقبرة جماعية" (مجموعة شعرية بالإيطالية، 2017)، و"أفاعي لاماشتو" (مجموعة قصصية بالعربية، 2022).








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي