«العملاق النسّاء» لدافيد فاغنر: استعجال القراءة للوصول بالخرف إلى تمامه!

2022-11-02

حسن داوود

هي لقاءات متقطّعة يجريها الرجل الأربعيني مع أبيه الخرِف. دائما تفصل بينهما مدن ومسافات، فيصل الابن مرهقا تعبا من طول الطريق ووسائلها التي تتعدى القطار والسيارة إلى الطائرة. ذلك أن الابن كثير التنقّل بينما الأب ماكث في مكانه. في كل لقاء لهما يتناولان الغداء معا، ثم يتجولان في المتنزّه أو يتمشّيان على ضفة النهر، ويتبادلان الكلام، بدون توقف غالبا.

الرواية أقرب إلى أن تكون نصّا حواريا طويلا بين الرجلين نظلّ فيه، نحن قرّاءها، مترقّبين أن يحدث ما يشير إلى سقوط الأب، يسقط الأب، هكذا فجأة، في لجة النسيان الأكثر عمقا. لا يحدث ذلك، إذ تبدو فصول الرواية، وهي تتعاقب، مكرّرة لما جرى الكلام فيه قبلها. ويزيد من ذلك الركود الحدثي، أو حتى الكلامي، كون ما يمكن تداول الكلام فيه مع الرجل الخرِف، قليل وضيّق المجال. أما موضوع الكلام فهو البيوت التي سكنها الأب، والسيارات التي كان اقتناها والتي بقيت منها سيارتان في مرآبه استعجل الابن، ومعه شقيقته، بيعهما واحدة بعد الأخرى. ثم بين ما يجري الكلام عنه: العائلة، أخوات الأب وإخوانه الكثرالذين شكلت وفياتهم، واحدا بعد الآخر، مناسبة لخروج الرجلين للمشاركة في الجنازات.

للماضي حضور طاغ، لكنه حضور قليل هو أيضا. ما يجيب به الأب أشبه بالعناوين، إذ قليلا ما يستفيض بالجواب حين يُسأل عن شيء، لكن هناك الجمل الجاهزة التي يعيدها، مرة بعد مرة بعد مرة، وفي كل لقاء له بابنه. يقول مثلا، معلقا على نسيانه، إن العمة غريتل كانت تقول دائما إن آل دوبلاني يتمتعون بالذكاء البالغ، لكنهم يصابون جميعا بالخرف. وهذه الجملة تكاد تصف آلية عمله العقلي بجمعها بين فهمه لنسيانه، وخرفه المقبل من جهة، وغفلته عن أنه يكرّر هذه الجملة للمرّة المئة.

في رحلتهما لحضور جنازة أحد الأخوة يسأل الأب ابنه إلى أين هما ذاهبان، لينسى، وهما لم يبلغا بعد مسافة من الطريق، فيسأل مرة أخرى إلى أين نحن ذاهبان؟ لكن على الدوام كان هناك منفذ للدخول إلى الأب مدركا وعاقلا، الأب كما هو، أو كما كان. هي لحظات يذكّر فيها بنفسه وهو في كامل أناقته وحضوره ممارسا ثقافته الواسعة ومهاراته الكثيرة، كان عملاقا، حسبما يصفه الابن، لكن بعد انقضاء تلك اللحظات الكاشفة التي يُظهر فيها عما يشبه الإشراق التأمّلي، يعود الرجل إلى نسيانه. هكذا بما يشبة عملية سريعة للدخول والخروج هو ما يحدث في تلك الرحلات. وهي رحلات رائقة على الدوام، أو مسالمة، ما دام الأب لم يخرج عن طوره أبدا، باستثناء قيامه بجولة في السيارة، هو الممنوع من ذلك قطعا حسب أوامر الطبيب.

هي رحلة إلى الخرف، أو الزهايمر، بطيئة، بل وتكاد تكون راكدة. حتى إن القارئ الفضولي، المتعجّل أيضا، كان يصاب بقدر من الخيبة حين يرى أن الفصل التالي، الذي أنهى قراءته، أتاه بما كان فيه حال الرجل الخرف، في الفصول الي سبقت. ذلك السقوط المحتّم في الخرف، أو الزهايمر، يجري هنا خاليا من أي ديناماتيكية منتظرة، خصوصا أن القارئ هذا كان قد علم، منذ الصفحة الأولى، أنه سيشهد مأساة رجل يسقط في ليل النسيان. أما الروائي دافيد فاغنر فقد أبقى قارئه ذاك منتظرا حتى جملة الحوار الأخيرة، تلك التي تنتهي عندها الرواية: «مَن هما والداك؟» يسأل الأب ابنه غافلا، بل ماحيا، للمرة الأولى عن الصلة التي تجمعه به.

بين الإشراقات التي تنكشف في العقل المريض، من طريق الحوار مع ابنه، يظهر أن ليس الوعي وحده، بل الطرافة العميقة، باقية هي أيضا، إما طافية على السطح، أو غائصة في مكان قريب من القاع. بعد أن جعل الابن يذكّره بأسماء عمّأته وأعمامه هانز، هازا، هرمان، نوربرت، غونتر، فلغوندا، فلوسهيلدا، وفوغليندا، (شقيقات الأب وأشقائه) مقارنا بها أسماء أولاده وهي: هانا، ميريم، ودايفيد، سأله: هل يلفت نظرك شيء؟ أجاب الأب على الفور، معلّلا ذلك الاختلاف: «كان علينا أن نمنح أطفالنا أسماء يهودية، لأن آباءنا قتلوا كل اليهود». كانت تلك لفتة، يضيف، «لفتة تكمن خلفها أُمنية بأن أكون ضحية لا جلّادا. لكن هنا أيضا، في ما خصّ الوقوع في ذنب ما كان قد اقترفه جيل الأهل، أبقت الرواية المعاناة من ذلك في خفاء أحداثها.

إشراقة أخرى في وعي الأب النسّاء، يسأله ابنه: «هل لديك موعد يا أبي،؟ أنت تنظر باستمرار إلى الساعة. أما ما يجيب به الأب فهو: «هل أفعل ذلك حقا؟ لا أعتقد، لم تعد لديّ مواعيد. أريد فقط أن أعرف الساعة، لكنني أنسى بعد ذلك، فأنظر إلى الساعة مرة أخرى. كما أنني أريد أن أعرف كم من الوقت ما زال باقيا لنا…

رواية دافيد فاغنر «العملاق النسّاء» نقلها عن الألمانية سمير جريس لشركة المطبوعات الشرقية في 291 صفحة لسنة 2022.

كاتب لبناني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي