نهاية فيلسوف

2022-10-15

رضا نازه

هل نام ليلته تلك؟ كيف نام ولم تنم يده؟ قبل الفجر امتدت تتلمس طريقها وسط الظلام كأن لأصابعها عيونا. تناولَتْ جرابا صغيرا تحت ذراعه. جذبته برفق. فتحته وأخرجت كسرة خبز بحجم الكف. كيف سُمح له بإدخال طعامٍ إلى الزنزانة، أم أن الحراس ذهلوا عن خبزٍ يابس بخس بما وجدوا في حوزته من قطع لويس الذهبية. نظر إلى الخبز في الظلمة ولم يبصر شيئا. لو كان الخبز من جنس تلك القطع لكان له بريق في تلك الحلكة، لكن القطعة لبثت كما هي، منطفئة، تقلبها أصابعه مرارا كأنها تريد أن تلقمها إياه، وهل تغني مضاجعة الذهب مِن جوع مَن كان الجوع ضجيعه، والهمُّ والخوف.

مكث على جنبه يقلب القطعة مليا حتى بدأت تتوضح معالمها لعيني رأسه في غبش الشروق. هناك قام من ضجعته بفعل قشعريرة عمت جسده. كأنها نوبة جوع ألمت به فجأة بعد صيام أيام وليال وهو في حالة فرار. لا لم يكن جوعا. بالعكس لقد كان ممتلئا لحد التخمة، لحد الهلاك وقد التهم ليلته تلك اثنتي عشرة بيضة في عُجَّة واحدة في مطعم الفندق الريفي الصغير. هل طلب ذلك العدد عن وعي، أم استبد به ثابت رياضي من الثوابت المبثوثة هنا وهناك، في عدد الشهور والأبراج، في عدد أوراق الزهور، في ساعات اليوم، في كتاب العالم وفي الكتاب المقدس الذي لم يعد يعنيه. زفر زفرة حارة. تحسر أن لم يتبع نصيحة روز أرملة صديقه التي أجارته ريثما تهدأ الملاحقة. أخفته عاما في بيتها في زقاق كان يتطير من اسمه «زقاق حفار القبور». تطير؟ وهل يتطير الرياضي الجبري العبقري؟ من أي حقبة من حقب الوعي البشري نبع له ذلك الشعور؟ من حقبة اللاهوت أم الميثولوجيا أم الميتافيزيقيا؟

لو كان مكان روز هل كانت لتكون له شجاعتها ليجير هاربا من تهمة الخيانة العظمى، وهو لم يعد يؤمن بمطلق ولا غاية سوى دين الطبيعة والتقدم العلمي الشامل الكاسح؟ وهل هناك عواطف تلهمها الرياضيات، والرياضيات روح الوجود؟ هل يعترف القانون الطبيعي في عرفه وعرف رفاقه الموسوعيين بالعاطفة؟ رغم ذلك فقد خشي على مصير روز وهي امرأة من عصر ما قبل العلم الصلب الصارم، إن هو أطال اللبث في بيتها. آثر أن يأوي إلى مكان بعيد في البادية أو جبال الألب أو البرانس، ريثما تهدأ المحاكم الثورية الهوجاء وتنهد، وتتوقف شفرة المقصلة الصاعدة النازلة. هيهات..

نظر إلى الخبز في يده فاصطكت أسنانه من غير جوع. إن لم يكن قد آلمه نهب قطع الذهب فقد آلمه نهبُ أوراق كانت في حوزته. ما مصيرها الآن وأغلب من قبضوا عليه من جنود الثورة أميون؟ تخيلها في كنيف مظلم يستجمر بها الواحد تلو الآخر بعد قضاء حاجته. ضاع المخطوط الذي سوده طيلة مدة اختفائه في بيت روز، ضاع الكتاب الذي رسم فيه خط الوعي البشري التقدمي المتجاوز دائما وأبدا. تلمس خبز الشجعان وتأوه. انقضى زمن المعجزات لإنقاذه ويبدو أن خبز الشجعان هو المعجزة الوحيدة التي يمكن أن يأتيها بنفسه، أما خوارق حقبة اللاهوت التي تلتها حقبة الميثولوجيا فقد محتها أنوار قرنه الثامن عشر. إن هي إلا طفولة بشرية وقصور وقلة رشد وقد ولت.. أحس بخشونة الخبز. تبا لك يا كابانيس لماذا ناولتنيه آخر لحظة؟ أنت لست صديقا. الصديق لا يقتل أصدقاءه. بلى، يا صديقي إذا حمي وطيس الثورة وأحرقت أبناءها..

لو كان أستاذه فولتير حيا هل كان يتشفع له عند روبسبير وبقية الشلة من الجلادين. هل كان يعبأ به وقد كان بائع سلاح كبير، نصيرا للملكيات المطلقة رغم ظاهر أنواريته وتقدميته. هل يفتديه بمال وقد جمع ثروة هائلة من المتفجرات وأدوات قتل العشرات والمئات والآلاف في المستعمرات، هل يعبأ له وهو فرد واحد ومفكر فوق ذلك ينافسه على فخامة التفكير وتاجِه. هيهات. إن نجا لويس السادس عشر الذي سعى هو بنفسه أن يستصدر قانونا يمنع عقوبة الإعدام لأجل إنقاذه، دون تورط في دفاع مكشوف عن آخر ملك يشنق بأمعاء آخر قسيس.. إن نجا لويس فسينجو هو كذلك. لكن.. كان على لويس السادس عشر أن يموت ومن شك في موته أو شكَّك فعليه أن يموت هو كذلك..

تسلل شعاع شمس يتيم من كوة زنزانته وحط فوق قطعة الخبز. خبز الشجعان. لم يشعر بأن القطعة سقطت من يده فتلقفها كما يتلقف غريق أي طوق. كل حساباته ذهبت أدراج الرياح. كل ذلك في كفة وعجة البيض في كفة. عاد على نفسه باللائمة. هل كان عليه أن يطلب كسر كل ذلك البيض من أجل عجة. لكن اثنتي عشرة بيضة ليست بشيء. ليست بشيء في زمن هادئ ساكن. لكن في مطعم بائس وسط قوم طحنتهم الثورة والجوع والبؤس، لكن اثنتي عشرة بيضة عددٌ كبير ويده الناعمة التي امتدت إليها كانت ناعمة جدا لا تناسب أسماله التي تنكر فيها، والبؤسُ يشحذ ملاحظة البؤساء. ما إن أتم صحنه حتى قبض عليه رجلان اقتاداه إلى أقرب مخفر..

– من أنت؟

– أنا بيير سيمون

– مهنتك؟

– بستاني..

تلمس دركي الثورة يده وقال له:

– هذه ليست يد بستاني.. والبستاني لا يأكل اثنتي عشرة بيضة في عجة واحد.. اثنتي عشرة بيضة.. لقد حار صاحب المطعم كيف يوفرها لك وحار في قطعة النقود اللامعة التي ناولته..

سكت المدعو بيير سيمون وغاص في صمته، وهم يودعُونه زنزانته، حيث يتأمل الآن نفسه وتاريخه الحافل العابر لكل المحافل. من فرط ذكائه واتقاده لم يضره الانتقال من أجواء الأرستقراطية إلى جو الثورة البورجوازية. التقدم تأقلم وتكيف أبديان. والعبقري من يغير بنيانه وكيانه تحت رعاية العقل الجبار نفسه، مثل دودة تتحول فراشة تحت إشراف دماغها الثابت الوحيد..

لكن اثنتي عشر بيضة يا أنت؟ كل حسابك حط رحاله عند العدد اثني عشر. هيا، هيا يجب أن تموت لتمتصَّ الخطمية من جذورها، أو تصيرَ سمادا لحقل البطاطس أو الطماطم، كما ينص قانون طبيعتك. هيا، هيا بما أن معدتك مكرت بك رغم نبوغ عقلك، هيا دع عقلك ينتقم منها، دعه يناولها خبز الشجعان المسموم وأنهِ القصة. لم يشعر أن تناول الخبز. جحظت عيناه. اليوم فقط تنبه إلى أن عملية الأكل حشو في وسادة الوجه لروح دون وجهة. ابتلت الكسرة الجافة وهو يلوكها ويعيد حتى آخر فتة واستلقى على جنبه يفكر.. هل ستكتب قصته حروفا أم تكتب في صيغة معادلته المتناقضة الشهيرة. متناقضة كوندورسي..

كاتب مغربي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي