لست إمرأة واحدة

2022-10-08

إنعام القرشي

أنا امرأة طاعنة في السن، أرغب في مُشاركة الآخرين تجربتي، هل تظنين أن الحكايات لا تأتي إلا من النساء اليافعات؟ لماذا تستنكرين من كل ما أود قوله؟ لماذا تتميزين بالأنانية في هذا الشكل السافر؟! كيف لامرأة مثلك أن تبدي امتعاضها لسماع قصة امرأة أخرى مُسنة، دون أن تنسى إنسانيتها قبل كل شيء وأن من حقها أن تحب؟ للمرة الأخيرة أطلب منك أن تسمعيني! هكذا صرخت في وجهي بطلة قصتي وهي تلقي الأسئلة تباعاً، شعرت، للحظة، بمدى محاباتي وتمييزي بينها وبين الأخريات، انكمشت مُفكرة، ربما تمتلئ حياتها بالسرد الجميل، أو ببقايا أسطورة ضاعت بين الكتب. أنظر إليها وهي تشرب قهوتها بيد مُرتجفة، ألمح خاتماً رقيقاً في إصبعها النحيل، لا تدعوني للجلوس.

ـ لم أكن أحبه.

قالت وهي تشد على الكلمات من بين أسنانها مُحدقة فيّ؛ لترى ردة فعلي، رفعت وجهي أنظر إلى السماء قائلة:

ـ إذن الحكاية.. الحكاية نفسها وما تنطوي عليه قصص النساء.

هزت رأسها كطائر مذبوح قائلة:

ـ أبداً، هي قصة عادية، لكنها مُعقدة بعض الشيء؛ لذلك فأنت تحتاجين للورقة والقلم.

انشغلت مُتجاهلة إياها حتى كان لقاء بيننا في اجتماع مُشترك. كنت قد حضرت باكراً خوفاً من أزمة الطريق، لمحتها من بعيد جالسة على رأس الطاولة بينما ابتسامة غامضة تعلو شفتيها الرقيقتين.

ـ لم أحبه يوماً.

قالتها وهي تشير إلى قلبها مُحركة إصبعها نفياً. ضحكت وقد شعرت بها تقحمني في زاوية من زوايا حياتها في هذا العمر المُتأخر رغماً عني، مشيت حتى أصبحت قبالتها، سحبت كرسياً وأشارت لي بالجلوس، ثم طلبت فنجان قهوة مُرة.

ـ ظلم أستطع أن أحبه. كانت أمي تنعتني بالبنت «البايرة» همستها فجأة بعد صمت عميق وابتسمت، هل تعلمين ماذا تعني كلمة «البايرة» لفتاة في عمر الخامسة عشرة؟ كنت أحلم بمُستقبل مُختلف، لكنني مُنذ ذلك اليوم قررت أن أتخلى عن هذا المُستقبل؛ إرضاء لأمي لأنني لن أستطيع الوقوف أمام جبروتها، كنت على يقين بأني سألتقي الرجل الآخر الذي أريده يوماً ما وأحبه، وسيكون شعاع حياتي وسر قلبي. زارنا قريب لأمي من المدينة مع أخته وفرحت أمي كثيراً، تسللت إلى غرفة أختي الصغيرة، وأخذت تدفع بها لتحمل القهوة إليهم، كانت طفلة سعيدة ترتدي فستانها الأصفر ولا تعي ما تضمره بعض الأمهات، لم تمض سوى دقائق على دخولها حتى كانوا يتأهبون للخروج، وعم الصمت، دخلت الغرفة حتى أعيد فناجين القهوة إلى المطبخ لغسلها قبل غضب أمي، لكن قريبها لمحنى وهو يقف مُتحدثا إليها سائلا إياها عني، ثم تقدم نحوي مُحتضنا يدي بالسلام، لم أمانع وابتسمت، كانت خطوة فكرت بها كلمح البصر وعليّ أن أتحمل عواقبها، أدركت، لحظتها، أنه هو من سيسلبني سعادتي. رفعت بصري إليه ورأيت نظراته تخترق صدري، إنها الصدفة التي قادتني إلى قريب أمي. كنت قريبة جداً لمن كان في الأربعين من عمره، وأصبحت كذبة حياته لأنني لم أستطع أن أحبه، أو أن أجد طريقاً يؤدي بي إلى حبه، رغم ما كانت تقوله لي أمي التي لم أعد أنظر في عينيها. كيف لها ألا تدرك أن الحب ليس تمثيلية، بل طاقة قوية تأتي هبة من الله، ولا أحد يستطيع أن يتسولها أو يتصدق بها؟! مضت الأيام وأينعت الحياة في قلبي ونضجت، بعدما التقطت عيني نظرة من عينيه وأصابت قلبي الحزين؛ ففرح وأنعشت جسدي النحيل؛ فاشتد، لحظات لا تستطيع المرأة أن تعبر عنها في وجود رجل تحبه أو زوج لا يحرك قلبها، أو أن تستطيع النظر في عينيه لشدة الفراغ فيهما، كنت أتحرك كدمية دون روح وشيء يدفعني بعيداً عنه، كان هذا حالي الذي رضيت به بعدما نسيت نفسي وأرضيت الغير.

«رفعت يدي راغبة في سؤالها عن شيء، لكنها وضعت إصبعها النحيل فوق شفتي إشارة لأن أصمت، ثم تابعت:

ـ لقد نضجت وأصبحت امرأة تمتلك كل شيء، ومن شدة انتظاري لهذا الحب أتى بصورة مًختلفة! الحب غريب فعلاً يا ابنتي.

قالتها، وأخذت تهز برأسها مُبتسمة. جاء في الزمن الصعب، كنت أتقصد الذهاب إلى الأماكن التي يوجد فيها، كان يملأ أحلامي ودروبي، يمشي خلفي وأراه، كان ضرورياً كي أعيش وأنام وأحلم بحياة لن تتكرر ثانية، ولن أستطيع أن أعيد أيامي الضائعة التي أخذتها أمي ورحلت. يقولون إن الحب غنوه؛ لذلك كنت أغني دائماً في أي مكان أكون فيه، في الجبل، في البيت، في الصحراء، تحت المطر وندف الثلج، مع الريح. أقول كل ما أريد بغنائي في الأماكن التي أذهب إليها وأجده فيها. لم يكن أحد يفهم غنائي غيره، كنت أقول له كل شيء، وروحه تقترب مني وتنقي حبه، غير أني لم أنطق له بكلمة أحبك.

صرخت:

ـ حقاً؟!

ألقت رأسها، فوق صدرها مُتابعة:

– النظرة التي يمنحها الله لعين الرجل هي شعاع الحب الذي يلامس قلب المرأة دون كلام.

– أشعر بأني أستمع لشيء من الخيال!

– من قال: إن الحب لا خيال فيه؟ إنه خيال فوق المُستطاع أحياناً، ولأنني أحبه، ولا أريده أن يشقى بعد أن توفي زوجي، رفضت الزواج منه وقررت التوقف عن الغناء!

– كيف؟

– استبدلت غنائي بالكتابة إليه؛ فانتعش الحب من جديد في قلبينا، وأنقذت نفسي وحبي من طرق مُتشعبة مُغلقة في داخلي لا تخصني كامرأة واحدة فقط، بل ربما تنتظرها نساء الأرض كلها.

كاتبة من الأردن








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي