الفاشية في الذاكرة الإيطالية

2022-10-01

ترجمة: حيّان الغربيّ

صدر مؤخراً عن دار نشر جامعة أكسفورد كتاب بعنوان: «موسوليني ما بين الأسطورة والذاكرة» لمؤلّفه بول كورنر، الذي يسبر فيه أغوار الذاكرة الإيطالية حول الفاشية، ويستكشف حجم الخطورة الناجمة عمّا يشوبها من انعدام الدقة والتشوّه في هذا الصدد. نادراً ما يجري نشر كتابٍ يضع إصبعه على الجرح تماماً كما هو حال هذا الكتاب. ففي تاريخ 25 سبتمبر/أيلول، شهدت إيطاليا انتخاباتٍ عامةً ذهب ربع الأصوات تقريباً إلى حزب «إخوة إيطاليا» الذي يعود في أصوله إلى الفاشية الجديدة، ويتبنى رمزها ضمن شعاره، وترؤسه حالياً جيورجيا ميلوني، التي انتسبت خلال سني مراهقتها إلى الحركة الاجتماعية الإيطالية الفاشية الجديدة البائدة، التي تصبّ الترجيحات في صالح فوزها بمنصب رئيسة الوزراء الإيطالية المقبلة.

يعود ذلك لعدة أسباب، من بينها الصورة المتسامحة لدى الطليان حول النظام الفاشستي الذي حكم بلادهم ما بين عامي 1922 و1943. ويسعى المؤلف بول كورنر، من جامعة سيينا الإيطالية، من خلال كتابه التنويري الذي يتناوله هذا المقال، إلى إثبات مدى التناقض الكبير بين هذا التصوّر من جهة والسجلات التاريخية من جهة أخرى. عكس سيلفيو برلسكوني هذا التصور السائد لدى الكثيرين من مواطنيه حين صرّح خلال مقابلةٍ مع بوريس جونسون وصحافي آخر عام 2003 بأن الديكتاتور الفاشي، بينيتو موسوليني، اتسم «بالرأفة» وبأنه «لم يقدم على قتل أحد». بيد أنه يصعب القبول بتصريح كهذا على من يعلم بأن ميليشيا «القمصان السود» التابعة له أزهقت أرواح 3000 شخص قبل تسنّمه سدة الحكم، ناهيك من مئات الآلاف من قتلى الغزو الإيطالي الوحشي لإثيوبيا عام 1935.

لقد أرست الفاشية دعائم أمة تدعمها جزئياً وتبدي حماساً ظاهرياً، وإذعاناً أيضاً، للذاكرة الحيّة بشأن الحكم الإرهابي للقمصان السود، ونظام الرقابة الاجتماعية الذي لا يقلّ ضراوةً عن نظيره المطبق لاحقاً في ألمانيا الشرقية إبان الحكم الشيوعي، فقد توقفت كل شاردةٍ وواردةٍ في حياة الفرد وشؤونه على موافقة الحزب: «كم هو ملائم للعمل، أو لاستصدار ترخيص ما، أو إذن عمل، أو لتقاضي راتب تقاعدي، وهي أمورٌ خضعت للتقدير الحصري للمسؤولين الفاشستيين». تولّت شبكةٌ من المخبرين، بالتعاون مع جهازي شرطةٍ سريين، مسؤولية مراقبة المنشقين المشتبه فيهم. مع ذلك، ينوّه كورنر إلى أن الشرطة السرية الألمانية – غيستابو والاستخبارات السوفييتية – كيه. جيه. بي نالا حظاً وافراً من الشهرة والسمعة السيئة، إلا أن ذكر منظمة اليقظة وقمع مناهضة الفاشية أو الشرطة السرية الإيطالية لا يرد إلا نادراً، علاوةً على ذلك، يتم حالياً استبعاد التفكير بهذين الجهازين الاستخباريين بشكلٍ تام تقريباً، كما يبدو من وجهة النظر السائدة في إيطاليا بأن موسوليني «قام بالكثير من الأمور الجيدة» غير أنه ارتكب «خطأً واحداً» ألا وهو التحالف مع هتلر. ولعلّ موسوليني قام ببعض الأمور الجيدة حقاً، شأنه شأن أي حاكمٍ يستمر في السلطة لفترةٍ طويلة، فقد قامت الحكومات التي عيّنها بإعادة تنظيم وتوسيع نظام الرعاية البدائي في البلاد، ومدّت الطرقات وشيدت المنازل. بيد أن كورنر يسوق الحجة بأن الحكومات الديمقراطية في تلك الآونة فعلت أموراً مماثلة، وعلى نحوٍ أفضل، فخلال ثلاثينيات القرن العشرين بلغ عدد المنازل المشيدة في فرنسا ضعفي ما بني في إيطاليا. زد على ذلك، مثّلت منجزات الفاشيين الأخرى مجرّد استمرارية لخطط تم البدء بتنفيذها قبل استيلائهم على السلطة، الأمر الذي ينطبق على تجفيف المستنقعات جنوبي روما، وهو إنجاز لطالما تبجح به الفاشيون.

إذاً كيف انتشرت وجهة النظر المشوّهة هذه بين الطليان، وبما يتجاوز الحدود الإيطالية أيضاً؟ يورد كورنر بين دفتي كتابه عدة تفسيرات مختلفة، بما في ذلك استمرارية النظر إلى الحقبة الفاشية بعيني ماكينة الدعاية المتفوّقة التي أسسها نظام موسوليني، الأمر الذي ينطبق تماماً على فيديوهات الصحافة السينمائية الصادرة عن الاتحاد السينمائي التربوي (استيتوتو لوس) الخاضع لإدارة الدولة. ومن بين التفسيرات التي يقدّمها كورنر أيضاً حجة «أهون الشرين» إذ يجري التهوين من الفظائع التي ارتكبتها الفاشية الإيطالية من خلال مقارنتها بما فعله هتلر وستالين.

غير أن كورنر يورد تفسيراً آخر مثيراً للجدل بقدر ما هو مقنعٌ، وهو تفسيرٌ متأصّل في صلب اقتناع الكثيرين من الطليان بأنهم «شعبٌ طيبٌ» في الجوهر. وفي سبعينيات القرن المنصرم، أخذت الأسطورة التي سادت ما بعد الحرب العالمية الثانية بأنهم مجرّد ضحايا للفاشية بالانحسار لتحلّ محلها قناعةٌ أخرى متطرّفة ومبسّطة، وهي أن الجماهير الإيطالية كانت مجمعةً على تأييدها. وقد عادت هذه الاستدارة بتأثير متناقض على حدّ تعبير كورنر، إذ نفخت الروح في حجةٍ مفادها أنه طالما أن الإيطاليين شعبٌ طيب، وطالما كانوا مجمعين على دعم الفاشية، فمن غير المنطقي التصديق بأنها كانت نظاماً سيئاً لهذه الدرجة. لعلّ أحداً لن يجرؤ على الطعن في هذا التفسير، في حال اعتلاء ميلوني وإخوتها سدة الحكم في البلاد.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي