«عصر مُظلم جديد»:العيش في الحاضر وعدم اليقين أملاً في النجاة

2022-09-30

محمد عبد الرحيم

«… ما كانت الغاية منه تنوير العالم هو نفسه ما دفع بهذا العالم إلى العتمة. فغزارة المعلومات وكثرة الآراء السائدة المتاحة لنا الآن عبر الإنترنت لا تتمخض عن واقع توافقي متماسك، بل واقع مزقه الإلحاح المتشدد على السرديات التبسيطية ونظريات المؤامرة وسياسات ما بعد الحقيقة، في ظل هذا التناقض تنشأ فكرة عصر مظلم جديد».

رغم حالة التشاؤم التي تسيطر على الكاتب والصحافي الإنكليزي جيمس برايدل في مؤلفه «عصر مظلم جديد.. التقنية والمعرفة ونهاية المستقبل» والصادر مؤخراً عن سلسلة (عالم المعرفة) إلا أنه وعبر فصول الكتاب يحاول الانفلات من هذه الحالة، بالكشف عن تفاصيل وتكثيفها مهما كانت مرعبة، فالهرب من المواجهة سيزيد الأمر سوءاً. فكرة الآلة والتقنية والعالم الافتراضي، ومن ثمّ التحكم في البشر وصياغة العلاقات الاجتماعية وفق منطق (التقنية) أصبحت صورة أقسى من الحروب الكبرى وتداعياتها.

السيطرة على طرائق التفكير

«لقد قوّضت الاتصالات العالمية الزمن والمكان، وكذلك الحوسبة التي تخلط بين الماضي والمستقبل. فما نستخلصه من بيانات جرت صياغتها وفقاً لما هو قائم قبل أن يُدفع به إلينا، مع الافتراض الضمني أن الأحوال لن تتغير، أو تحيد عن التجارب السابقة، وفي هذه الطريقة فإن الحوسبة لا تسيطر على أفعالنا في الحاضر فقط، بل تبني مستقبلاً ينسجم بدرجة أكبر مع معاييرها». يضرب الكاتب العديد من الأمثلة عن السلطة التي تتحكم في كل ما يحدث حولنا ولا نستشعره. بداية من تطبيق الـ (GPS) ـ نظام تحديد المواقع العالمي ـ الذي أطلقه رونالد ريغان عام 1983 للمدنيين، الذي أصبح أساساً لعدد هائل من التطبيقات الحديثة، وبالتالي تنظيم الحياة اليومية للبشر. إلا أن المُتحكم في هذا النظام ومن ضمنهم الولايات المتحدة بالطبع، يمكنه حرمان أي منطقة يختارها من إشارات تحديد المواقع. ففي 2017 كشفت تقارير واردة من البحر الأسود عن تدخل مُتعمّد جعل أنظمة الملاحة في السفن تعيّن مواقعها على مسافة تبعد عشرات الكيلومترات من مواقعها الحقيقية، فوجدت نفسها قد جنحت فعلياً إلى إحدى القواعد الجوية الروسية. وحتى على مستوى (الكتاب الإلكتروني) يستشهد الكاتب بموقع (أمازون) الذي حذف آلاف النسخ من روايتي (1984، ومزرعة الحيوان) لجورج أورويل. كما تنجز الريبوتات حوالي 16% من عمليات التحرير المرتبطة باليوكيبيديا، وأصبح (غوغل) المصدر والوسيط للمعرفة الإنسانية، ويتولى (فيسبوك) رسم خريطة الروابط بين البشر، بل يعيد صياغة هذه العلاقات، ورغم ذلك تعجز هذه البرامج عن التفرقة بين نموذجها الذي وضعته للعالم والواقع، وكذلك نحن متى تأقلمنا مع هذه المواقع، وذلك لعدم شفافية وتعقيد هذه العمليات، كما أننا ننظر إليها على أنها محايدة سياسياً، بمعنى الانحياز أو الثقة في الآلة، حتى أننا نتجاهل تماماً المشاهدات والآراء التي تتعارض ووجهة نظر الآلة.

تغيّر المناخ

ويُشير الكاتب إلى مشاركة ومسؤولية تقنية الحاسبات (الحوسَبَة) عن تغيّر المناخ، فقد استهلكت مراكز البيانات في العالم عام 2015 نحو 3% من الطاقة الكهربائية الموجودة في العالم، وهي مسؤولة عن 2% من إجمالي الانبعاثات العالمية، وهي تكاد تكون كمية انبعاثات الكربون نفسها التي تسببها صناعة الطيران، وتتجاوز استهلاك المملكة المتحدة بأكملها. هذه النسبة في تزايد مستمر، خاصة مع نمو البنية التحتية الرقمية.

التقنية واللامساواة

ونأتي إلى الأسواق المالية وإحلال التقنية وحروبها المستترة، فأساليب وطرق نقل البيانات وتحليلها، وسرعتها المخيفة أصبحت مقتصرة على فئة بعينها، من خلال عمليات تداول للأموال تقترب من سرعة الضوء، وقد دفع الأثرياء تكلفة هذا التطور، وجني ثماره في ما بعد، بينما هناك كثيرون أصبحوا لا يدركون ما يحدث. ويستشهد الكاتب بالفرنسي توما بيكيتي في كتابه «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» بأن الثروة المتراكمة، التي أغلبها متوارث، تقترب في أوروبا من مستويات لم تشهد من قبل، منذ نهاية القرن التاسع عشر، وهذه انتكاسة للفكرة الشائعة عن التقدم التي ترى أن التطوير المجتمعي يقود لا محالة إلى مساواة أكبر، وبالتالي فأي اعتقاد في أن التقدم التقني سوف يؤدي إلى انتصار رأس المال الإنساني على رأس المال والعقار، وأن تحل المهارة محل المحسوبية، هو من قبيل الوهم إلى حدٍ بعيد.

ويعرج الكاتب بعد ذلك إلى مسألة إحلال التقنية والروبوت محل الإنسان في العمل، ذاكراً العديد من المآسي، بداية من إجحاف وقهر العمال، وصولاً إلى تسريحهم، وبالتالي انتشار البطالة وتبعاتها الواقعة على رأس هذه الفئة، التي أصبحت بعيدة عن المشهد، أو بمعنى آخر تمثل عالماً لا يريد المتحكمون رؤيته، كعالم من النفايات يجب محوه والتخلص منه في أسرع وقت.

السُلطة

ومن فكرة عدم المساواة نفسها تتشكل (السُلطة) فالتقنية تعمل على نشر الفهم، وبالتالي السلطة، ودون مساواة تتركز هذه السلطة في يد فئة قليلة، ويرى الكاتب أن تاريخ المعرفة الحوسبية، بدءاً من مصانع الغزل والنسيج وصولاً إلى المعالجات الدقيقة، ليس مجرد تاريخ آلات فائقة البراعة تحل محل العمال من البشر، بل أيضاً قصة تركيز السلطة في أيدٍ أقل، وتركيز الفهم في عدد أقل من الرؤوس، وثمن هذه الخسارة الأوسع للسلطة والفهم في النهاية.. هو الموت.

وفي الأخير.. يرى المؤلف أنه في ظل هذا العصر المظلم الجديد، يجب أن ينصب الاهتمام على ما يوجد هنا والآن، وليس على الاهتمام بما يبذله التنبؤ والمراقبة والأيديولوجيا والتقنية من وعود وهمية. فالحاضر هو دائماً حيث نعيش ونفكر، ويقع في الوسط بين تاريخ مُستبد ومستقبل لا سبيل إلى معرفته.

كاتب مصري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي