"اليزابيث الصغيرة": كيت وليمز تستحضر طفولة أشهر ملكة في العالم

2022-09-23

مولود بن زادي

في مساء يوم 8 سبتمبر/أيلول 2022، أوقفت قناة «بي بي سي نيوز» الإخبارية بث برامجها المعتادة التي كان يسودها الحديث عن تولي ليز تراس منصب رئاسة الوزراء بعد استقالة بوريس جونسون، وأزمة الطاقة الخانقة، وغلاء المعيشة، والحرب في أوكرانيا، لتسلط الضوء على الملكة إليزابيث الثانية بعد تدهور حالتها الصحية وخضوعها للرقابة الطبية. وفي حدود الساعة 6.30 مساءً، أعلن مذيع بي بي سي إدواردز عن رحيل أطول الملوك اعتلاء للعرش في العالم بعد ملك فرنسا لويس الرابع عشر. كانت السماء فوق قصر بالمورال، محل إقامتها في المرتفعات الإسكتلندية في تلك الساعة من البث المباشر المتواصل مغشاة بسحب داكنة متفرقة. وإذا بغيوم الحزن والألم تزداد قتامة وكثافة، فتجتاح كامل أرجاء المملكة المتحدة وتخيم على أنفسنا بعد فقدان أشهر وألطف ملكة في تاريخ البشرية.

دوق ودوقة يورك

تستهل المؤرخة البريطانية كيت وليمز كتابها «اليزابيث الصغيرة: صنع الملكة» المؤلف من 326 صفحة، والصادر عن كتب بيغاسوس، بفتح نافذة على حياة والدي إليزابيث. كانت أمنية والدتها إليزابيث الأولى، دوقة يورك، إنجاب بنت. وقد شاءت الأقدار أن يتحقق حلمها في ربيع عام 1926 عندما أنجبت «طفلها الأول بعملية قيصرية في الساعة 2.40 صباح يوم 21 إبريل/نيسان 1926. كانت إليزابيث ألكسندرا ماري أميرة يورك رضيعةً ممتلئةَ الجسم، وكانت نعمةً على زواج سعيد، وإن كانت تحتل المرتبة الثالثة رسميا في ترتيب ولاية العرش إلاَّ أنّ شأنها كان عظيما». كان والداها في سعادة، لا ينقصهما في واقع الأمر إلاَّ طفل يكمل تلك السعادة، وهو ما قاله الدوق بعد ولادتها عندما كتب: «لطالما رغبنا في إنجاب طفل يكمل سعادتنا».

الأميرة الشابة

لقد كتب عن الملكة إليزابيث الثانية كثيرون لكنّ كيت وليمز اختلفت عن هؤلاء كافة بانفرادها بالتركيز على الحقبة الأولى من حياة الملكة، مسلّطة الأضواء على فترة ولادتها، وظروف نشأتها، واعتلائها العرش من بعد وفاة والدها. وبذلك يكون عنوان الكتاب مرآة تعكس مضمون النص، والعنوان سراج يضيء فضاء النص، ويعين على استكشاف أغواره وفك رموزه. نقرأ في الجزء الأول من الكتاب ظروف ولادة الأميرة بعملية قيصرية معقدة في عصر لم يبلغ فيه عالمنا تطورا علميا كافيا للتعامل مع مثل هذه العمليات خطيرة. «لم يكن من عادة أفراد العائلة المالكة الحضور إلى المستشفيات، فتم إنشاء غرفة عمليات في شارع بروتون» خصيصا لهذه العملية.

الأزمة الاقتصادية

رأت إليزابيث نور الحياة في مجتمع بريطاني يعاني من مشاكل اقتصادية واضطرابات عمالية، من مخلفات الحرب العالمية الأولى. «أبلغ أصحاب المناجم موظفيهم بقرارات تخفيض الأجور وزيادة ساعات العمل. فأنذرت النقابة بشن إضرابات عن العمل. فأذنت حكومة المحافظين بزعامة ستانلي بالدوين بتشكيل لجنة ملكية للنظر في هذه المسألة. ولما حُسم الخلاف لصالح مالكي المناجم، أعلنت النقابة إضرابا عاماً في 2 مايو/أيار، داعية العمال الآخرين بمن في ذلك موظفي السكك الحديدية وعمال الموانئ للمشاركة في هذا الإضراب». على الصعيد العالمي، أخذت الأوضاع الاقتصادية تتدهور يوما بعد يوم، بما في ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية، ممهدة السبيل إلى انهيار وول ستريت، واندلاع الكساد العظيم في عام 1929 الذي امتد أثره إلى غاية نهاية الثلاثينيات.

صعود النازية

وتسلط المؤرخة البريطانية في هذه البيوغرافيا الأضواء على الأوضاع السياسية التي ميزت بريطانيا والعالم قبل تولّي إليزابيث العرش. كان الخطر الألماني النازي يلوح في الأفق آنذاك. «كانت القومية الألمانية في تصاعد.. وها هو هتلر يضرب مبادئ الدبلوماسية الدولية عرض الحائط. فبعد توقيعه الاتفاقيات مع إيطاليا واليابان، استبد به شعور أنه لن يوقفه أحد، ومثلما كانت حال العديد من الديكتاتوريين الغزاة من قبله، شرع في تهدئة مخاوف ضحاياه المقصودين بتوقيعه معاهدات ضبط النفس، ثم يخرق شروطها فورا» وهكذا في 11-13 مارس/آذار 1938، قامت القوات الألمانية بغزو النمسا وضمها إلى الرايخ الألماني، ما مهّد السبيل لارتكاب أشنع جريمة في تاريخ البشرية ـ الهولوكوست من عام 1941 حتى 1945.

تولي العرش مصادفةً

على الرغم من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية الصعبة، شاءت الأقدار أن «تولد إليزابيث في عالم يتمتع بامتيازات عالية» من جملتها تطور وسائل الاتصال، إذ «قبل شهر واحد فقط من ولادتها، تأتى إجراء أول مكالمة هاتفية عبر المحيط الأطلسي من لندن إلى نيويورك. فكانت إليزابيث أول طفل ملكي يولد في عصر الاتصالات». اللافت للانتباه أيضا في حياة هذه المرأة اعتلاؤها العرش مصادفةً، بحكم أنّ العرش من قبل كان بيد عمها وليس والدها. وفي المملكة المتحدة، لا يتم تنظيم خلافة العرش وفقا للنسب حسب، وإنما أيضا وفقا للقانون البرلماني، الذي ينصّ على أنّ ترتيب الخلافة يخضع لترتيب أفراد العائلة المالكة في صف العرش. فقد تم تحديد أساس الخلافة في التعديلات الدستورية التي جرت في القرن السابع عشر، والتي توجت بصدور وثيقة الحقوق (1689) وقانون التسوية (1701). فقد شاءت الأقدار أن يحكم عمها المعروف باسم الملك إدوارد الثامن أشهرا قليلة، بعد وفاة والده، قبل أن يتنازل عن العرش، ليتزوج واليس سيمبسون، المطلقة مرتين. فتولى العرش من بعده شقيقه الأصغر، ووضع ابنته إليزابيث في الطريق المستقيم لخلافته.

التتويج

كان لإليزابيث وهي صغيرة نشاطاتها وهواياتها من ركوب الخيل واللعب بالمهور الصغيرة وإزالة الأعشاب الضارة من الحديقة رفقة والدها. بيد أنّ انتقال العرش إليها، من بعد وفاته، غيَّر مجرى حياتها ورسم لها طريقا مختلفا محفوفا بالالتزامات والواجبات الملكية، التي تتطلب تفرغا تاما وجهدا وتضحيات ـ كان من جملة هذه التضحيات التخلي عن جلّ نشاطاتها وهواياتها بعد تتويجها. وقد أحسنت كيت وليمز تصوير مراسيم التتويج. كان ذلك في 2 يونيو/حزيران 1953 في دير وستمنستر في لندن، وهي لا تتعدى من العمر 25 سنة. وحصل التتويج بحضور ثمانية آلاف ضيف، فضلا عن ملايين الجماهير التي تابعت البث التلفزيوني المباشر لهذا الحدث الخاص. قُدّر عدد هؤلاء بـ»ما يناهز سبعة وعشرين مليون نسمة، أو ما يعادل نصف عدد السكان. وتم إعداد أحد عشر مليون جهاز لاسلكي بريطاني ومليونين ونصف مليون جهاز تلفزيون».

وقد استمدت الملكة الجديدة عظمتها ونفوذها من تجارب والدها وسلفها، فهم جميعا ساهموا في بلورة شخصيتها، وهو ما اعترفت به شخصيا، «مع أن تجربتي قصيرة جدا ومهمتي جديدة جدا، إلا أن لديّ في والديّ وأجدادي مثالا يمكنني اتباعه بثقة». كما استمدت قوتها من عظمة وطنها بريطانيا وتنوعها ونفوذها التاريخي الطويل في العالم، وهو ما كشفته أيضا في كلمتها، «لا أملك ورائي فقط التقاليد الرائعة وسجلات أكثر من ألف عام، لكن القوة الحية وعظمة الكومنولث والإمبراطورية؛ فضلا عن المجتمعات القديمة والجديدة، من أراض وأجناس مختلفة في التاريخ والأصول، لكن جميعها، بمشيئة الله، متحد بالروح والهدف».

خدمت بريطانيا والعالم

في خطاب ألقته في يوم تتويجها في 2 يونيو 1953، قالت إليزابيث، «عندما تحدثت إليكم مؤخرا، في عيد الميلاد، طلبت منكم جميعا، بغض النظر عن ديانتكم، أن تدعوا لي في يوم تتويجي ـ بأن يمنحني الله الحكمة والقوة للوفاء بوعودي». كان من جملة هذه الوعود السهر على خدمة المملكة المتحدة ومجموعة الكومنولث، فضلا عن الدفاع عن مبادئ الحرية والتسامح وحق الأقليات في الحياة الكريمة، وهو ما أشارت إليه في خطبتها الشهيرة، مؤكدة على «حرية التعبير واحترام حقوق الأقليات، ونشر التسامح الواسع في الفكر والتعبير ـ كل هذا نتصور أن يكون جزءا ثمينا من أسلوب حياتنا وتطلعاتنا». وها هي اليوم ترحل بعد وفائها بوعودها تاركة خلفها مجتمعا موحّدا متعدد الأعراق والألوان والديانات والثقافات، تستمتع فيه الأقليات بكامل حقوقها. وها هي اليوم ترحل تاركة خلفها دولة عظمى موحدة حاضرة بقوتها ونفوذها في مشارق الدنيا ومغاربها حضورَ الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس سابقا.

قالت عنها إحدى الصحف عند ولادتها إنها استطاعت بسرعة أن تكون «أشهر طفلة في العالم». وها هي اليوم أنظار وقلوب الجماهير في كل شبر من عالمنا تتجه إليها في ساعة رحيلها. كانت إليزابيث الثانية أشهر طفلة في العالم عند ولادتها، وأعظم ملكة في العالم في فترة حياتها، وستُذكر على أنها أروع امرأة في التاريخ بعد وفاتها.

كاتب جزائري









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي