
حسن داوود
كل ما سبق من حياة يوناس بلاوم ماثلٌ في الرواية التي كتبتها سفينا لايبر.. كلاهما، البطل وكاتبته، عاشا ظروفا مشابهة لا نعرف منها إلا أن كلا منهما عاش بعضا من سنوات طفولته في السعودية. أما البلدان الأخرى، مثل الأردن والأراضي الفلسطينية وأفغانستان، فمعرفة الكاتبة بها وافرة. لم تكن ملاحظات يوناس بلاوم لتأتي بدقة مماثلة، لو لم تكن الكاتبة قد عاشتها. الأغلب أن الكاتبة سفينا لايبر كانت ترجع إلى نفسها وتجاربها في ما هي تصف طواف بطلها متنقلا بين البلدان. هي حكاية تجربة شخصية لإمرأة لكنها مروية عن حياة رجل.
كان والده الطبيب قد انتقل بالعائلة من ألمانيا، حيث كان ما يتقاضاه من عمله لا يعد بحياة أفضل. السعودية هي البلد المرتجى، حيث كل شيء هناك ينمو بسرعة فائقة كأنه بتأثير دفعات فائضة من الفيتامين. لكن لم تجر حسابات الأب كما كان مخططا لها. فصغير أبنائه الثلاثة الرقيق الهش، بنية ومشاعر، لم يتكيف مع البلد الجديد فصار يمعن بالابتعاد والتوحد. كان على الأب الطبيب أن يعيد عائلته إلى ألمانيا، لتبقى السعودية ماثلة في وعي يوناس بلاوم، وهو الأوسط بين الأخوة الثلاثة، ليصير، بعد انقضاء سنوات الطفولة، طبيبا مثل أبيه. في مطلع الرواية نقرأ عن ضجره من إقامته في بلده الأوروبي، وعن مرارة انفصاله مع محبوبته، فيستعد للقيام برحلة إلى الأردن، حيث يقيم صديقه بسام.
رواية «غبار» متوزعة أحداثها على البلدان التي تنقل بينها الطبيب الابن، حيث نقرأ في مطلع كل من الفصول الصغيرة تعيينا للمكان الجارية فيه الأحداث: السعودية، الأردن، ألمانيا، أريحا، إلخ. أي أن الرواية دائمة التنقل بين البلدان المسترجَعة في سياق العيش اليومي ليوناس. كما يعني التنقل الكثير بين البلدان بقاءها طاغية الحضور في وعيه. وعلى الرغم من الاختلاف الكثير بينها، بيئة وعمرانا وبشرا، إلا أن ما تجده هناك في ألمانيا، يمكن أن تجد ما يشبهه، بل يطابقه في عمان.
فالأخ الأصغر الهش الجسد والروح والمختار لنفسه اسم «سميون» يظهر من يماثله هنا في الأردن، المرتَكز المكاني للرواية، بل إن حالة الصبي الصغير «عالم» المنتمي إلى عائلة أردنية ثرية، هي أكثر عمقا من حالة سميون. إنه يعاني مما يُعرف بالشيخوخة المبكرة، وها هو، من لحظة ما يلتقيه يوناس، يتحول إلى هاجس يطغى على كل ما سيعيشه في مدينة عمان. الصبي «عالم» لن يعيش طويلا، والطبيب يوناس لن يستطيع شفاءه. كل ما يستطيع بطلنا فعله هو الاستغراق في التعاطف مع الصبي إلى حد التفكير بمعنى، أو لا معنى، كل شيء في حياة البشر. تلك الرابطة العميقة بين الصبي ويوناس بلاوم تشكل عقدة الرواية، أو نقطة مرتكزها المأساوي. كل ما سبقها لا يتعدى كونه مهيئا لها بنائيا، ومن ضمنه حالة الأخ الأصغر، ومن ضمنه أيضا غلبة المأساوية على ميل الكاتب إلى وصف مشاعره حيال الأمكنة التي ينقل بينها روايته.
وما يتشابه فيه سميون وعالم هو رغبتهما في الاختفاء. ما دفع العائلة إلى مغادرة السعودية هو اختفاء الأول ثم ظهوره، أو العثور عليه، بعد يومين. أما عالم فإنه غاب، مع الفتاة اليهودية التي تعرف إليها في رحلة إلى القدس، بل اختفى، هو والفتاة، كأن في مكان بلغاه هو خارج جغرافيا الأرض. كان الطفلان يتابعان ماء النهر الجاري إلى لا مصب، حسب ما قد يفهم قارئ الرواية.
أحداث كثيرة، بل شخصيات كثيرة، أحاطت بحكاية الطفلين، وحول ما قصدت إليه الكاتبة من توصيفها لما يجمع أو يفرق بين البلدان التي تتنقل بينها فصول روايتها. من الشخصيات هناك بسام الصديق الأردني، وسوزان، محبوبة يوناس القديمة التي يتنازع عليها الصديقان قبل أن تعود إلى بلدها، دون أن تتقدم علاقتها بأي منهما. وهناك خالد والد الصبي عالم، وماريا التي عاش يوناس علاقة سابقة معها. الأرجح أن القطب الأساس للرواية هو ما يتداعى في رأس يوناس من حاضر أيامه وماضيها. كما هي عن حاضر العالم وماضيه وصولا إلى الأديان الباقية أبدا والنزاعات والحروب وتعاقب الأمم على جغرافيا الأرض.
هي رواية عن كل شيء، عن كل ما يُعمل الأفكار في الرأس ويشوشها في الوقت نفسه. وما يزيد الأمور تعقيدا هو عدم انحياز يوناس إلى بلد أو جهة أو عقيدة، أقصد كل ما يصنع استقرار البشر وانتماءهم.
رواية سفينا لايبر «غبار» نقلها إلى العربية سمير جريس وراجعها مصطفى السليمان. صدرت عن «مشروع كلمة للترجمة» في أبوظبي»
كاتب لبناني