الكينونة الأصيلة عند هيدغر: قلق وحركة في اتجاه الموت

2022-07-29

أوس حسن

إنّ المكانة الكبيرة للفيلسوف الألماني مارتن هيدغر تكمن في تلك اليقظة المفاجئة والانعطافة الكبيرة التي أحدثها في تاريخ الفلسفة، من خلال قلب المشروع التأسيسي للفلسفات السابقة، التي ابتعدت عن مهمتها الرئيسية في حجب السؤال عن الوجود الحقيقي. هذا السؤال أغفلته جميع الفلسفات قبل هيدغر وظلت تدور في دائرة مفرغة من المعاني، عندما توجهت إلى الحقائق الموضوعية والذاتية الخالصة، وحاولت تسليط الضوء على مفاهيم مثل الجوهر، الفكر والمادة متناسية أهم سؤال يربطنا بالعالم المتغير، وهو سؤال الوجود الإنساني. فليس للعالم معنى بلا إنسان، وليس للإنسان معنى بلا هذا العالم. وهنا تكمن عبقرية الطرح الهيدغري في الهدم والبناء، عندما أعاد بناء الفلسفة على أنقاض متهاوية. لتبدأ مهمة الفلسفة الصريحة في البحث عما يهمنا شخصياً، وما يؤثر فينا بالصميم تأثيراً يمس ماهيتنا.

في المحاضرة التي ألقاها هيدغر في مقاطعة النورماندي في فرنسا عام 1955،

يطرح هيدغر سؤالاً في صيغة سؤال.. بأي معيار تصبح الفلسفة معياراً للتساؤل؟

إنّ الفلسفة تبحث عمّا هو موجود، فالوجود يجمع الموجود من حيث هو موجود.

ليصبح السؤال كالتالي.. ما الموجود من حيث هو موجود؟ عندئذ يغدو التفكير فلسفة، وتصبح الفلسفة هي الاستجابة لنداء ذلك الموجود، ونحن لا نصبح عارفين بالفلسفة إلا عندما نتعلم كيف وفي أي طريقة تكون هذه الاستجابة المتناغمة مع نداء الموجود.

إنّ ما يحويه العالم الخارجي من أشياء وموضوعات، ما هي إلا تمظهرات للوجود، ولا يكون الوجود وجوداً إلا بتفاعل الإنسان مع العالم بذاته الواعية وأحواله الشعورية المختلفة، بحيث يكون هذا العالم مجالاً للاهتمام الإنساني وإمكانياته المتاحة. لذلك لا يمكننا أن نقترب من تصور حقيقي للوجود إلا بتلك الوحدة الأساسية بين التجربة الذاتية والعالم الموضوعي على أنهما كيان واحد. بهذا فقط صحح هيدغر مسارالفلسفة، وحسم صراعها التاريخي بشأن أهم جدلية شغلت الكثيرين؛ ألا وهي جدلية الذات والموضوع.

الكينونة.. والزمان

نشر هيدغر كتاب «الكينونة والزمان» عام 1927 وأهداه إلى أستاذه هوسرل الذي تأثر بمنهجه الفيمونولوجي، وفي هذا الكتاب أسس هيدغر علماً أنطولوجياً

وجودية الموجود مضمونها، والفيمونولوجيا منهجها لتوضيح معنى الوجود. في كتاب «الكينونة والزمان» يحلل مارتن هيدغر الموجود الإنساني، وهذا التحليل بمثابة الطريق المؤدي إلى فهم الوجود ذاته، وقد استخدم في تحليله للكائن الإنساني المنهج الفيمونولوجي، الذي يعود إلى الأشياء ذاتها وإلى المعطيات المباشرة للخبرة، وأن يصف هذه المعطيات كما تظهر نفسها في تكشفها الأولي. فالإنسان ليس بالذات العارفة أو المنعزلة، التي تدرك وجوداً ما، أو لا تدركه، بل إنّ الإنسان يدرك العالم إدراكاً أولياً في خبراته واهتماماته المباشرة، كذلك أنّ تجربتنا ليست منطقية أو علمية بالكامل، لذا فإنّ إحساسنا أيضاً يلعب دوراً كبيراً في تفسير العالم. يولد الإنسان في عالم من الاهتمامات العابرة، والمخلوق الإنساني مخلوق مهتم. إنّ الاهتمام هو العامل المحدد للوجود الإنساني، ويكون الاهتمام على نوعين في العالم؛ اهتمام عملي من خلال استخدام الأدوات، أو الوسائل في العالم البيئي، واهتمام شخصي من خلال علاقته بالمجتمع والعالم الجماعي.

إذن، فالإنسان ملقى في حقيقة الوجود، لذلك ففي وجوده الخارجي لا بد من أن يكون حارساً للوجود، ولا بد للأشياء الموجودة أن تتبدى له في ماهيتها. فالموجود هو الشيء المحدد الذي له طبيعة ثابتة كالجماد والنبات والحيوان، أمّا الوجود فهو صفة للموجودات الواعية وتحديداً الإنسان، وهو المدرك لوجوده وهذا الوجود يتسم بالحركة والصيرورة والوعي. إنّ الإنسان يتساوى وجوده مع ماهيته، ولذلك فهو وحده يوجد وجوداً ماهوياً، فالأشياء الأخرى موجودة كالصخرة أو الشجرة أو الحيوان، لكنها لا توجد وجوداً ماهوياً، تعي فيه كينونتها ووجودها. وهذا الوجود الماهوي للإنسان معناه أنّ الإنسان يتميز وجوده بالوقوف المنفتح في اكتشاف الوجود. إنّ عملية فهم الوجود تبدأ من فهم الموجود الإنساني ضمن تمرحله الزمني، وهذا ما سيكشف عن طبيعة الوجود أو الكينونة بوصفها أنطولوجيا للإنسان.

يتناول هيدغر مفهوما أساسيا في كتابه «الكينونة والزمان» وهو الدازاين، وهو عبارة عن مصطلح ألماني مركب من كلمتين تعني/ الكائن هناك /أو الموجود هناك/ وهذا يدل على أنّ الكينونة عند هيدغر عبارة عن صيرورة تشير إلى الوجود الإنساني في العالم. إنّ الإنسان هو الكائن الوحيد في الوجود عند ولادته يكون متجهاً نحو الموت منذ لحظته الأولى، وكما أنّ لكل شيء زمنه الخاص، فالإنسان أيضاً له زمنه الخاص في الكينونة، وهذه الكينونة تكون محددة كحضور من قبل الزمن، والإنسان هو في حركة تجاه الموت، الذي من الممكن أن يباغته مع كل قفزة في الحياة تفرضها قراراته وخياراته والظروف المحيطة به. الدازاين هو كائن يفهم كينونة ذاته بوصفها كينونة انتقالية ومتغيرة، تحاول أن تجد ذاتها الحقيقية، وأن تحقق وجودها الحر والعميق داخل هذا الزمن، لكن هذه الذات تكشف لنا عن طبيعة قلقة باستمرار، عندما تدرك تناهيها في الزمان الذي يكشف أمامها العدم أو الموت. يعي الدازاين ذاته (كأنا) متفردة، ويدخل فهم الوجود في صميم وجوده الخاص، ويضع نفسه في موضع التساؤل الدائم. والإنسان الدازاين ليس وجوداً ثابتاً، وإنما هو دائماً مشروع وجود مستمر، يتفاعل مع العالم لكن ليس العالم الموضوعي أو المادي أو المثالي، وإنما العالم الذي يقصده هيدغر هو، تفاعل الذات مع الزمان والمكان والأشياء، إنه العالم الذي ينكشف له ويتجلى في عالمه الخاص كتفاعل واهتمام، ويكون المجال الذي تدور فيه حياة الإنسان من وعي وإدراك وعاطفة وخبرات متراكمة. لذلك فالكينونة هي الزمان، والزمان هو حضور الوجود بوصفه حقيقة، لا بد أن تختبر وتعاش.

من خلال حالات القلق التي يعانيها ويكابدها الإنسان، ومن خلال ذلك القلق الجوهري الذي يشعرنا بتناهي وجودنا أمام الموت المتربص بنا، والداخل ضمن نطاق تفكيرنا، نقتنع بعدم جدوى الحياة، وبأنّ حياتنا عدم.

الوجود الأصيل والوجود الزائف

إنّ الإنسان الدازاين هو الذي يسعى دائماً إلى وجوده الأصيل والمتفرد في العالم، فهو منفصلٌ عن القطيع في الأحكام والآراء السائدة، وتشغله أسئلة كونية ومصيرية. فهذا الإنسان يسمو فوق تفاهات الحياة وضحالتها، ويستشعر ألمه الدائم من خلال معاناة الآخرين. يحيا الدازاين كينونة أصيلة ومتأصلة في هذا الوجود، عندما يكون على وعي حقيقي بالموت، يدفعه الحدس الباطن إلى تصور موته في المستقبل في تلك اللحظة التي يكون فيها عدماً، لذا فهو يقلق ويسعى لترسيخ وجوده الأصيل في زمانه المتناهي. فلا يسقط في اللغو والثرثرة وحب الاستطلاع، وهو الذي يدرك نفسه بوصفه مشروعاً وإمكانية، فالإنسان ليس ما كانه، بل ما سيكونه أيضاً، والإنسان هنا حرية ومسؤولية له قدرة على فهم العالم وتغييره، فالوجود الماهوي للإنسان يُفهم على إنه إمكانية في المستقبل، ومثلما جذوره ضاربة في الماضي، فإنّ وجوده الماهوي من الناحية الزمانية كامنة في المستقبل.

ينشأ الاغتراب عند هيدغر من الوجود الزائف عند الإنسان الذي يسقط في مشاريع الآخرين ويكون مجرد رقم في جماعة وهذه أيضاً إمكانية في الوجود، لكنها إمكانية تجعل من الإنسان يسقط في هاوية التشيؤ، فهو مجرد حاضر فاقد لذاته الشرعية الأصلية التي تشمل ماضيه ومستقبله على حد سواء. فالاغتراب هو احتجاب إمكانات الوجود الفعّال، ومن ضمنها تجنب التفكير بالموت الذي يبقي الإنسان في نطاق الوجود المزيف، لذلك فالإنسان الذي يفكر كما يفكر الآخرون ويتكلم كما يتكلمون، عادة ما يكون خامل الذهن ومحدود الأفق والرؤية يهرب دائماً من هذا القلق الوجودي الذي يذكره بالموت، بالثرثرة، وحب الفضول والسخرية من الآخرين، ويبقى في دوامة من التفاهة والابتذال المستمر حتى على صعيد اللغة التي تفقد قيمتها ووظيفتها، فيصبح وجوده مجرد عرض أو ليس وجودا حسب تعبير هيدغر. إن إمكانات الوجود الحقيقي هي جدار صلب يسند الحياة الهشة وينتشلها من الوقوع في الضحالة، وأحد دعائم هذا الجدار هو التفكير بالموت وفي احتمال وقوعه في أي وقت، وبهذا يتميز الوجود الأصيل عن الزائف بأنّ العدم يتخلل نسيج الوجود كاملاً ولا يكون مكشوفاً إلا في عاطفة القلق الذي من الممكن أن يستيقظ في أي لحظة.

العدم والقلق

يكشف القلق عن العدم، والقلق هنا هو ليس القلق المرضي، أو الخوف من شيء محدد. فالإنسان الخائف دائماً ما يكون مقيداً إزاء الشيء الذي يخاف منه، فيفتقر إلى الأمن في علاقته مع الآخر وبالتالي تنعدم الحرية. إنّ القلق هنا هو ليس إزاء شيء محدد، ولا من أجل شيء. فالقلق هنا وجود ذاتي وحرية تسعى إلى نفسها. ومثلما يكشف القلق عن العدم ويميط اللثام عنه، فالعدم يكشف عن نفسه في القلق ويتبدّى هذا عند الفرد ويكشف عن تلك الذات الحرة في مواجهة مصيرها، وهي تحمل على ظهرها أعباء المسؤولية وتعدد الخيارات، فتقلق عند حجب الإمكانات المتاحة لتحقيق ذاتها في واقعية الموجود الإنساني التي تفرض عليها مواقف وظروفا تحد من وجودها. إنّ العدم عند هيدغر هو داخل في نسيج الوجود ومتغلغل فيه، لذا لا يمكننا أن نصل إلى حل مشكلة الوجود إلا عن طريق مواجهة العدم. لكن العدم عند هيدغر ليس العدم المجرد، إنما عدم الإمكانية التي تواجه الفرد، فالعدم أحياناً هو ذلك الوجود الذي ينفلت من الإنسان، فالألم هو غياب اللذة، والظلام هو عدم النور، وكل الأشياء التي لا وجود لها في الآنية هي عدم. والآنية هي تحقق الوجود العيني برتبته الذاتية.

من خلال حالات القلق التي يعانيها ويكابدها الإنسان، ومن خلال ذلك القلق الجوهري الذي يشعرنا بتناهي وجودنا أمام الموت المتربص بنا، والداخل ضمن نطاق تفكيرنا، نقتنع بعدم جدوى الحياة، وبأنّ حياتنا عدم. إنّ الذات الأصيلة تكون في مواجهة العدم عن طريق هذا القلق، لذلك تسعى دائماً إلى تحقيق تلك الآنية المتناهية في الزمان، وتحقيق هذا الوجود عند هيدغر يتسم بالأصالة، ولا يقبل التأجيل تحت أي ظرف، بل لا بد أن يبدأ دائما وفي كل مرة من (هنا.. والآن). إذن فالعدم يكشف عن نفسه في الموجود عندما يصبح هذا الموجود مزعزعاً بأسره ليفلت أو ينزلق من كينونة الإنسان.

يتبدّى القلق في أوضح صوره عندما يضيء ليل العدم حياة الإنسان الملقى وحيداً في صدفة جاءت به إلى هذا العالم، فتدرك الذات أنها فانية، وأنها حقيقة واقعة كغيرها من الحقائق وأنها جزء من اهتمام زائل. إنّ هذه الذات المسكونة بالوحشة والغربة عندما تنفلت منها جميع الكينونات تستحوذ عليها نزعة عدمية تجعلها تعلو وتتجاوز كل موجود من الموجودات، وهذا التجاوز أو العلو هو الميتافيزيقيا عند هيدغر، لكن ليس الميتافيزيقيا التي يفترضها اللاهوت ولا الميدان المغلق للشطحات الخيالية، إنها الميتافيزيقيا التي تؤلف طبيعة الإنسان بوصفها فكراً وتاريخاً من الكينونات. عندها فقط تبدأ الذات بطرح أهم وأعمق سؤال يتعلق بمعنى الكينونة.

لماذا كان ثمة وجود؟

ولم يكن عدما؟

كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي