كلابُ الليل

2022-07-25

زولفو ليفانلي

ترجمة: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير

بعدَ ساعتين وتحتَ تأثير الكحول، مرّ ظلُّهما تحت ضوءِ أعمدة الشوارع، واتَّجها نحو المرفأ ثم تصافحا، واتَّجه أحدُهما نحو الشارع، وكان الآخر ينتظر الباص.

كان إمره مكسورَ الخاطر لدرجة شعوره بصعوبةٍ في التنفُّس، ولم يكن كذلك بسببِ كلام الناقد، لكنَّه رأى قبل ذهابه رجلاً وامرأةً يتناولان الطعام هناك، ولم يتعرَّف على الرجل، لكنَّ المرأة كانت زهرة. عندما رآها كأن شخصاً غرزَ سكيناً في قلبه. لم يفهم ما حدث له آنذاك. قال له الناقد:

- ماذا حدث، هل أنت بخير؟

لم ينتبه إمره لما يفعل. لم يكن أمراً مُنتظراً، ولو قِيل له هذا لما صدَّق بالتأكيد. لم يأت إلى عقله أبداً أن تذهب زهرة لتناول الطعام مع شخصٍ غيره، ومن المُمكن أن تعانقه وتقبّله، وحتّى من المُمكن أن تنامَ معه في سرير واحد. كيف أغلق عينيه عن هذه الحقيقة، ولم يستطعِ التفكير في أن زهرة سيكون لها حياةً أُخرى من بعده. كانت تتحدّث مع الرجل ويبدو عليهما الفرح. رأى إمره ذلك وقلبه يتعذّب. خرج من المطعم وهو يترنّح، ولا يتذكّر حتى كيف ودّع الناقد، ورَكِب أوّل باص يصلُ إلى المحطّة. جلس في المقعد الأخير، وبعد محطَّتين ألقى بنفسه خارج الباص، وهو يضع يده على فمه لأنه يشعر بالغثيان. وبمجرّد أن نزل من الباص بدأ يتقيّأ في إحدى الزوايا، حتى أخرج كل ما بداخله ثم بدأ يرتجف وهو يتصبّب عرقاً.

اتّسخت يداه ورجلاه من القيء وقد لفتَ وجودُه انتباه كلاب الحي التي تجمَّعت حوله، وبدأت في النظر إليه وكأنّها تُفكِّر في مصيره. ارتعد إمره وتذكَّر الخبر الذي قرأه في الجريدة عن الكلاب التي قطعت جسد شخص ما في الليل. فكّر في أنه سيصبحُ خبراً مثله، وهو يدرك في الوقت نفسه أنّه ينبغي ألَّا يُظهر خوفه للكلاب.

لم يكن الصراخ يُشبه صراخ الكلاب، كان كأنه صراخ البشر

كانتِ الكلاب ضخمةً جداً، وتقترب من إمره حتى إن رائحة أفواهها كانت تصلُ إلى أنفه. فكّر أن يركض سريعاً، لكنه لم يتمكَّن من فعل هذا. أرغم نفسه على الوقوف، ثم قامتِ الكلابُ بشمّه والدوران حوله وقد اقشعرَّ بدنه. كان يدعو الله أن يمرَّ أحدهم الآن من الطريق، ولكن في هذه الساعة لم يكن من أحدٍ على الإطلاق. السيارات التي تمرّ ربما لم تلاحظ وجوده بسبب العتمة أو رأته دون أن تتوقّف.

بدأ يشعرُ باليأس، وخطرت بباله فكرة غريبة، وهي أنّ موته سيكون بعد موت جدّته بأسبوع واحد. كان يرتعد بين الكلاب الضخمة، وفكّر أن هذه الكلاب تنتقم الآن لأسلافها، لأنه في عام 1910 قام أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا بعمل مذبحة لكلاب إسطنبول، والتي كانت كالبروفة لمذابح سيقومون بها بعد ذلك بحقّ بعض البشر. ففي شهر أغسطس وبينما كانت الحرارة لا تُحتمل تم جمع ثمانين ألفاً من كلاب الشوارع، وأُخذوا إلى الجزيرة التي يقولون عنها "عديمة الخير". لم يكن في الجزيرة ماء ولا عشب ولا أشجار أو ظلال، وقد جُنّت الكلاب هناك، وفي هذه الأثناء، كان أحد الصحافيين الفرنسيين يمرّ في العبّارة، وقد كتب عنهم:

"كان الجو حارّاً لدرجة لا تُحتمل، ومن أجل التخلّص من حرارة الجو دخلتُ إلى الكبينة الخاصة بي ثم توقّفت العبّارة. نمتُ قليلاً ثم استيقظتُ سريعاً وصعدتُ درج العبّارة على عجَلٍ، كانت جثث الكلاب متراكمةً، وتفوح منها رائحة سيئة للغاية...

كانت هناك جزيرة من الصخر تُرى على بعد ميلٍ، وفوق الصخر كلابٌ كالنمل، وأغلبُ هذه الكلاب كانت تحاول السباحة من أجل التخلّص من حرارة الجوِّ، وقسمٌ آخر كان يدور حول الجثث للبحث عن قطعةِ لحمٍ من جثث بقية الكلاب. وبعض الكلاب كانت تركض وكأنها قد جُنّت، وفي هذا الوقت تحديداً تمكنّا من سماع أصواتهم. لم يكن الصراخ يُشبه صراخ الكلاب، كان كأنه صراخ البشر. أطلقَ القبطان جرس العبّارة، وتحمَّستِ الكلاب المسكينة وكأنها سمعت صافرة الإنقاذ. لا أدري هل يمكنكم تخيُّل هذا؛ جزيرة صخرية لا يُسمع فيها غير الصراخ والأنين، وكأنها بركان، ولكن بدلاً من النار كان بداخلها صراخ، وبدلاً من الدخان كانت جثث الكلاب التي تجمَّعت النوارس حولها، وقد غيّرت الجثث لون البحر.

انطلقت العبّارة، وبدأت الكلابُ المسكينة تتخبّط في الأمواج التي صنعتها حركة العبّارة. لم يكن في البر أو البحر يدٌ تساعدهم غير الموت. رأينا سفينة صغيرة تأتي باتجاه الجزيرة، تحمل فوق ظهرها أقفاصاً ممتلئة بالكلاب. كانوا يُحضرون إلى سكان الجزيرة الجائعين، كلاباً طازجة من إسطنبول. ابتعدنا، لكن أعيننا ظلَّت على الجزيرة التي في بحر مرمرة…".

وهذا يعني شيئاً واحداً أن وجع الحب أهم من غرور المثقف

ينبغي أن تكون هذه الكلاب أحفاداً لكلاب الجزيرة. ولم يكن هناك ما يمنع من أن ينتقموا من إمره.

فكّر إمره بعد ذلك في تلك الليلة كثيراً. شعر بأنه عاش ثلاث حالات نفسية مختلفة. بدأتْ بكرهه للناقد، وبالهَمّ الذي يحاول أن يجبر به كسر غرور المثقّف داخله. ورؤيته لزهرة مع رجل آخر أثناء خروجه من المطعم جعلته ينقلب رأساً على عقب، وينسى مشكلته مع الناقد. هذا يعني أن وجع الحب أهم من غرور المثقف. أما حالته النفسية الثالثة التي أنسته حتى وجع الحب، كانت بسبب نظرات التهديد من الكلاب، وكان هذا الشعور من دوافع تمسّكه بالحياة. ربما كان هذا هو الشعور الأهم لدى الإنسان، وربما يكونُ أقوى حتى من الحب. إلا أن الخوف مؤقّت والحب مستمر، ولذلك نسي إمره خوفه من تقطيع الكلاب لجسده، وفكَّر في قلبه الذي يتقطَّع.

بطاقة

Zülfü Livaneli كاتب تركي وُلد عام 1946. يعَدّ من أبرز الأسماء التركية في مجالات الأدب والموسيقى والسينما، وحصل على العديد من الجوائز التركية والعالمية في هذه المجالات، مثل "جائزة البلقان الأدبية" عام 1997، و"جائزة أفضل كتاب" في فرنسا وإيطاليا. تُرجِمت أعماله إلى العديد من اللّغات. وبسبب أفكاره السياسية، سُجن عام 1972، وبعد خروجه عاش لسنوات طويلة في المنفى. يعيش في إسطنبول الآن، وما زال يمارس الكتابة الأدبية.

* ترجمة عن التركية: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير. والنص المقتطف هنا فصل من رواية "فندق القسطنطينية" الصادرة حديثاً عن "الدار الأهلية".







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي