المنزلق

2022-07-15

غسّان كنفاني

سار الأستاذ محسن في المَمرّ الطويل المؤدّي إلى صفّه بخطوات بطيئة متردّدة. كانت تلك هي تجربته الأولى في عالم التدريس. ولمّا كان لا يعرف ماذا يتعيّن عليه أن يفعل حين يدخل إلى الصفّ، فقد حاول جهدَه أن يبعدَ تلك اللحظات قدر ما يُمكن.

في الليلة الماضية تقّلبَ على فراشه حتى الصباح وهو يفكّر في الأمر: "إنّ من العسير على المرء أن يقف أمام الناس... ولماذا؟ ليعلّمهم! ومن أنتَ لتفعل ذلك؟ لقد عشتَ حياتك البائسة دون أن يعلّمك إنسانٌ أيّ شيء ينفعك، أتعتقد أنّه بوسعك أن تُعلّم الناس ما ينفعهم؟ أنت نفسك آمنتَ بأنّ المدرسة هي آخر مكانٍ يتعلّم فيه الرجل الحياة، فما بالكَ الآن وقد صرتَ مدرّساً فيها؟ في الصباح حملتَ نفسك إلى غرفة المدير، جلستَ هناك تستمع إلى بقية الأساتذة، وهم يناقشون الأمر الذي شغلك، ولكن من زاوية أُخرى".

- ماذا عسانا نفعل في الصفوف إذا كان الصغار دون كتب؟.

وأجاب المدير من أنفه باختصار:

- أيّ أستاذ قدير يعرف كيف يشغل حصّته دون كتب!

ثم أنكفأ شارحاً بلؤم:

- تطلُب من أحد الأطفال أن يشغل الحصّة عنك إذا عجزت.

قال الأستاذ محسن لنفسه: "ها هو ذا مدير مدرسة يريد أن يلقّن أساتذته درساً بالانتظام والطاعة منذ اللحظة الأولى، لقد قبض الأقساط قبل أسبوع وعليه الآن أن يقبض أرواحنا".

جرع الشاي وقام.

الممرّ الطويل مملوء بصخب الأطفال وصياحهم، والأستاذ محسن بخطواته الثقيلة يحسُّ بأنّه إنّما يسير في دوّامة تؤدّي إلى مستقبلٍ قميء مترعٍ بالضجّة والسخف.. الضجّة والسخف وليس غيرهما!

- لدي قصة جميلة يا أستاذ!

صاح طفل كان مكوّماً على نفسه في آخر مقعد فقدّم حلّاً ملائماً لذلك الموقف المُضطرب. وقبل أن يوافق الأستاذ محسن على الاقتراح كان الطفل قد صار خارج صفوف المقاعد، وواجهَ رفاقه ببنطال قصير أوسع من حجمه، وقميص ذي قماش نسائي عتيق، وشعر أسود غزير يصل متهدّلاً إلى حاجبيه.

اذهبْ إلى الرجل الغنيّ وانظُر إلى أحذيته فستجد عليها أطرافاً من لحم أبي

كان والدي رجلاً طيّباً... كان شعره شائباً، وكانت له عين واحدة، أمّا عينه الأُخرى فقد اقتلعها بنفسه حين كان يخيط نعلاً سميكاً لحذاء رجل ضخم، لقد كان مُكبّاً على الحذاء يحاول جاهداً أن يُدخل الإبرة الكبيرة في النعل، إلّا أنّ النعل كان قاسياً جدّاً، ضغط كلّ ما في وسعه، بلا فائدة، ضغط أكثر، لا فائدة، ثم رفع الحذاء إلى صدره وضغط بكل قوته فخرجت الإبرة فجأةً من الناحية الأُخرى ودخلتْ في عينه...

كان أبي رجلاً طيباً، لم تكن لحيته طويلة، لكنها لم تكن قصيرة أيضاً، كان يعمل كثيراً، وكان يجيد عمله، كان لديه دائماً الكثير من الأحذية ليصلحها ويجعلها ملائمة من جديد.

ولكنّ أبي لم يكن يملك دكّاناً صالحة، ولم يُساعده أيّ إنسان في عمله. كانت دكّانه عبارة عن صندوق من الخشب والصفيح والورق المقوّى، ولم تكن تتّسع إلّا له ولعدد من المسامير والأحذية والسندان، وفيما عدا ذلك لم يكن يوجد متّسع لذبابة، وكان يتعيّن على الزبون أن يقف خارج الصندوق. إذا أرادَ أن يُصلح حذاءه.

كان الصندوق هذا موضوعاً على مُنحدر هضبة يعلوها قصر رجل غنيّ، ولم يكن بوسع أيّ إنسان أن يكتشف وجود هذا الصندوق إذا بحث عنه من شرفة قصر الرجل الغنيّ. ذلك أن الحشائش كانت قد نبتت فوق سطحه التَرِب، لذلك فإن أبي لم يكن يخاف من أن يكتشف صاحب القصر مخبأه فيطرده. صاحب القصر لم يكن ينزل من قصره أبداً، كان الخدم يقومون بإيصال كلّ ما يشتهيه إلى قصره، وقد اتّفق أولئك مع أبي على أن يكتموا السرّ عن مخدومهم مقابل أن يُصلح لهم أحذيتهم مجاناً!

لقد واظب أبي على عمله دون خوف أو تردّد، وكان الناس يكتشفون أنّه يستطيع إصلاح الأحذية ببراعة حتّى يجعلها تبدو وكأنّها جديدة تماماً، لذلك فإن مزيداً من الأحذية كان يأتيه كلّ يوم، وكان يمضي نهاره، ونصف ليله في عمل متواصل. وكان يقول لأمي: "غداً سيذهب الأولاد إلى المدرسة".

وكانت أمي تقول له: "إذن سوف تستريح قليلاً من عناء العمل".

عاد الطفل إلى مكانه، إلّا أنّ رفاقه لم يحرّكوا ساكناً، فصاح الأستاذ محسن:

- لماذا لم تصفّقوا لصديقكم، ألم تعجبكم القصّة؟

- نريد أن نعرف بقيتها.

- هل توجد بقية لقصّتك؟

قبل شهر أو أكثر تكوّمَ عنده عمل كثير فلم يعد بوسعه أن يعود إلى البيت، كانت أمي تقول إنّه يعمل ليل نهار دون أن يخرج من صندوقه. لا وقت عنده للخروج. كان الرجل الغني يجلس طوال النهار وطول الليل على شرفته يأكل موزاً وبرتقالاً ولوزاً وجوزاً، وكان يلقي بالقشور، عبر سياج شرفة قصره إلى منحدر الهضبة، وذات صباح كانت الهضبة قد امتلأت بالقشور، ولم يستطع الخدم أن يجدوا صندوق أبي بين كل تلك القشور. أمّي تقول إنه كان منهمكاً بالعمل إلى درجة أنه لم ينتبه أبداً إلى كلّ ما كان يُلقى فوق صندوقه، كما اعتاد أن يفعل، أغلب الظنّ أنّه ما زال جالساً في صندوقه يعمل جاداً في إصلاح ما لديه من الأحذية كي يسلّمها في موعدها، وحين ينتهي من ذلك سوف يعود إلى البيت... ولكنني أعتقد أنه مات هناك.

صفّقَ التلاميذ، وعاد الطفل إلى مكانه فجلس بهدوء، وعادت العدسات الستوّن تحدّق، برّاقة لامعة، بالأستاذ محسن.

اقتاد الأستاذ محسن الطفل إلى غرفة المدير، وفي الطريق سأله:

- هل تعتقد حقاً أن أباك مات؟

- أبي لا يموت، لقد قلتُ ذلك فقط كي أُنهي القصة، لو لم أفعل ذلك لما انتهت قطّ، بعد شهور سيأتي الصيف وسوف تجفّف الشمس أكوام القشور حتى يخفّ ثقلها فيستطيع أبي أن يزيحها من فوقه ويكرّ عائداً إلى الدار.

وصل الأستاذ محسن إلى غرفة المدير وقال له:

- لدي في الصفّ طفل عبقري. أعتقد أنه رائع، دعه يُسمعك قصة أبيه.

- ما هي قصة أبيك؟

- كانت دكّانه صغيرة جدّاً وكان بارعاً. ذات يوم وصلت شهرته إلى صاحب القصر الذي كان يطلّ فوق دكانه الصغيرة، فأرسل له بكلّ ما لديه من الأحذية العتيقة ليصلحها ويعيدها جديدة مرّةً أُخرى. لقد اشتغلَ جميع الخَدم في نقل تلك الأحذية إلى الدكّان الصغيرة لمدّة يومين كاملين، حينما انتهوا من نقلها كان والدي قد اختنق تحت أكوامها، فالدكّان الصغيرة لا تتّسع لكل تلك الأحذية...

وضع المدير إبهامه في جيب صدّارته، وفكر قليلاً ثم قال:

- هذا طفل مجنون، يجب أن نرسله إلى مدرسة أُخرى.

قال الطفل:

- ولكنّني لستُ مجنوناً، اذهب إلى قصر الرجل الغنيّ وانظر إلى أحذيته فستجد عليها أطرافاً من لحم أبي، بل ربّما تجد عينيه وأنفه في نعل حذاء ما... اذهب إلى هناك.

قال المدير:

- إنني أعتقد أنه طفل مجنون.

أجاب الأستاذ محسن:

- ولكنه ليس مجنوناً، أنا نفسي أصلحتُ حذائي عند والده، حينما عدتُ لأصلحه مرّةً أُخرى قالوا لي إنّه قد مات.

- كيف مات؟.

- "كان يدقّ نعلاً لحذاء عتيق، ولقد دقّ يومها كثيراً من المسامير في ذلك النعل كي يجعله متيناً تماماً، وحين انتهى من ذلك وجد أنّه قد دقّ أصابعه بين الحذاء والسندان، تصوّر! كان قوياً إلى حدّ كان يستطيع معه أن يثقب السندان الحديدي بمساميره ولمّا حاول أن يقوم لم يستطع، كان مثبّتاً إلى السندان بإحكام، ولقد رفض المارّة أن يساعدوه، بقي ملصوقاً هناك إلى أن مات.

نظرَ المدير إلى الأستاذ محسن من جديد، كان واقفاً هناك إلى جانب الطفل، مُلتصقين ببعضهما كأنّهما شيء واحد، وهزّ رأسه مراراً دون أن يقول شيئاً، ثم عاد، فجلس في كرسيه الجلدي الوثير وأخذ يُراجع أوراقه فيما كان يرمق الأستاذ محسن والطفل بطرفي عينيه بين الفينة والأُخرى.

بيروت، 1961

من مجموعته القصصية "عالم ليس لنا" (1965)







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي