رايات إنسانيَّة مُنكَّسة

2022-06-15

عبد الباقي يوسف

طَرَقَتْ بابي عند الغروب وكانت في وضعٍ نفسيٍ سيئ للغاية وهي تقول: أرجوك أن تستقبلني، أنا بحاجةٍ إليك. عندئذ أدخلتها إلى البيت، وهنا لا بدّ من أن أقول لكِ إنها ورغم كل شيء كانت تحتقر معاشرة الرجال كما لا تحتقر شيئاً، وكانت تمتلك بروداً أنثوياً غاية في الغرابة، فلم تجعلني أشعر للحظة واحدة، رغم الحالات المختلفة التي كنت أستقبلها فيها، بأن أنوثتها تَحَرَّكَت لهنيهةٍ، وأحيانا تقول بأن أكثر الرجال الذين تكنّ لهم احتراماً، هم أولئك الذين لا ينظرون إليها نظرات شَبَقية، ذاك الرجل هو المثال لديها.

علاقات التعارف العفيفة، علاقات المحبة النقية، حتى لو استاءت منها المرأة فإنها ستبقى الأثيرة في حياتها ويبقى ذاك الرجل لوحده يحمل ذكرى طيبة لديها: كل هؤلاء الذين أتعامل معهم أوغاد، لكن لا أستطيع أن أقول ذلك عن أولئك الذين نظروا إليّ ونظرتُ إليهم بعفة.. لكنهم يكادون يُعدّون على أصابع اليد.

رمت جسدها على الكنبة وكأن إرهاق العالم لبسها، أغمضت عينيها وغفت نحو ساعة ونصف الساعة، ثم استيقظت وتمتمت كمريضة بشفتين مرتعشتَين: كم أنا مشتاقة لكأس من الشاي، أرجوك.. والله أنا منهكة.

لاعليكِ.. قلتها واتجهتُ إلى المطبخ، أعددتُ إبريقاً من الشاي بالقرفة، وعدتُ إليها، سحبتُ كرسياً صغيراً إلى جوار رأسها وقعدتُ أصبّ الشاي.

عندئذ مَدَّت كفها إلى كأس، رشفت رشفة من الشاي الساخن، ثم أخرجت علبة دخان من حقيبتها، ألقتْ إليها نظرات، وقذفتها قائلة: أريد أن أتخلَّص من كل شيء.. يا رب ساعدني. وأجهشتْ بكاءً وهي تتمتم: كنت على البحر، ظننت بأنني سأمضي أياماً جميلة مع أحد الأثرياء الذين دعوني، مكثتُ يومين، لكن لم أستطع الانسجام ككل مرة.

عاد ذاك الشعور القاتل يعكّر مزاجي في أكثر الأماكن هدوءاً وسكينة.

هذه هي مشكلتي الأكثر دماراً لأعصابي التي أعانيها، كلما أقول إنني سأبحث عن المتعة كي أنسى، ينتابني هذا الشعور ويصرخ في حواسي: أنت آثمة. فلا أستقر على حال، وأبدو ملغومة في داخلي، مشكلتي أنني لا أستطيع أن أخرج من تحت ثقل الإثم الذي يجهدني، وعند لحظات الاستمتاع يأتي هذا الشعور ليفسد عليّ كل شيء، أو لأصارحك، كي يُنبّهني بأن عليّ عدم الاستمرار في هذا المسلك.

بعد ثلاثة أيامٍ هربتُ دون أن أعلمه بذلك، لم أعد قادرة على التحمّل، حتى الدخان سأقلع عنه، أرجو أن تبقيني عندك ولن أخرج من هنا حتى اليوم الأخير من عمري، الشعور بالإثم يشل كل حركة في جسدي، يبدو أنه كان عليّ أن أمر بكل تناقضات الحياة حتى أبلغ مرحلة الهدوء النفسي.

صَوّبَت إليّ نظرةً ذات معنى مردفةً: هل تظن أنه سيأتي اليوم الذي أبلغ فيه مرحلة الهدوء النفسي؟

ما أزال أذكر أنني قلت لها: كثيرون يعيشون هذا الهدوء الذي تنشدينه بمستوى الغباء الذي لديهم، وكثيرون يعيشونه بمستوى الذكاء الذي يتمتعون به، لكن الفرق أن الأذكياء يستمتعون بهذه السكينة ويتذوقون هدوء روحها لحظة بلحظة حتى يخالون أنفسهم في جنة، بينما الأغبياء يفوتهم أن يستنشقوا أنساماً كهذه.

بعد قليل رأيتها تنهض وقد دبّ شيء من النشاط إليها، توضأت وعادت تُصلّي ثلاث ساعات متواصلة، وهي المرة الأولى التي رأيتها تُصلّي، لكنها كانت صلاة عميقة، لم أر إنساناً صلّى بذاك العمق مثلها.

كانت عباراتُها التوسلية الخافتة تنتشر في الغرفة المغلقة وقد تجاوز الليل منتصفه، بدا أن الهدوء أخذ ينتشر قليلا في أوصالها، وغدت نبراتٌ خافتةٌ تخرج منها وهي مسبلة العينين: تعلمتُ من كل هذه التجارب أشياء لن أنساها، تعلمتُ أن المرأة كائنٌ مباركٌ وهي أسمى من أن تعرض مفاتن جسدها لتكون أثيرة عند الرجل، ولن تكون أثيرة عنده إلا بقوة عفافها، وقوة استقامتها، يمكن لها أن تلفت نظره بمفاتنها لنظرات أو للحظات، لكنها تلفت انتباهه إلى الأبد بقوة شخصيتها وفضيلتها، وما تمتلك من ميزات حتى لو اختصرت في صناعة طعام طيب، أو في الإبداع بترتيب البيت.

ينظر الرجل إلى المرأة بعينيه، لكنه ينتبه إليها بعقله، تلك المرأة الخالدة لدى الرجل هي التي لفتت انتباهه ولو مرة واحدة وغابت إلى الأبد، لكن العشرات يلفتن نظره ويختفين دون ترك أي أثر سوى أثر اللحظة.

علّمتني نكساتي وإخفاقاتي بأن المرأة التي تثير غريزة الرجل، هي امرأة آنية، وأن الرجل الذي ينظر إلى جسدي لا يلزمني، يلزمني الرجل الذي ينظر إلى ما أملك من مزايا. عندما رأيتها تركن إلى الصمت، نهضتُ تاركاً الغرفة، وبعد نحو ساعة عدتُ، فرأيتها جالسة على سجادة الصلاة، مستغرقة في قراءة القرآن الذي يبدو أنه كان في حقيبتها.

جلستُ على الكنبة، وهي ما تزال تقرأ، والدموع تنهمر من عينيها حتى غلبني النُعاس، فتركتها واتجهتُ إلى الغرفة الأخرى للنوم، لبثتُ حتى أفاقتني في التاسعة صباحاً، وكانت قد أحضرت الفطار دون أن تشاركني لأنها كانت صائمة، وهو اليوم الأول الذي أراها فيه تصوم. عندها علمتُ بأن موقف صدقٍ يمكن له أن يغسل الروح من آثام عمر بأكمله، الصدق يا رضوى، إنه الدواء الأكثر فاعلية لأمراض الروح، حتى المتسوّل لا يمكن أن نحترمه عندما لا نلمس الصدق في تسوّله.

أردتُ أن أتركها كما شاءت أن تكون ولم أتدخل في هذا التغيير الطارئ الذي حدث معها خوفاً من أن أفسد عليها حالة الصفاء التي بدت واضحة في ملامحها، فغدت تذرف الدموع وتتمتم بحزن عميق: دوماً تأتي العفة لتطهر الروح والجسد من آثام العالم، وأنت تشعر بأن عفتك ترفعك بكامل نقائك إلى ملكوت الرب على جناحَين من طهر.

ثلاثة أيام مرّت على بقائها في بيتي وهي محجّبة تُصلّي وتقرأ القرآن وتصوم، وتقول بأنها أهدأ أيام عمرها على الإطلاق، وذات يوم رأيتها ترشدني كي أصلّي وهي تقول بأن الله فرض الصلاة علينا ليس لنصلّي فقط، بل لنصل من خلال الصلاة إلـى طمأنينة الروح، وعند ذاك نكون قد قدّمنا عبادة لله، لأننا حقّقنا الهدوء لأنفسنا وأنقذناها من اضطرابات الآثام. وتقول: كم أنا سعيدة وكم أنا سيدة الآن، شيء رائع أن تشعر بأنك سعيد وأنك سيّد، ولا تصدق بأن أي خطيئة في العالم تحقق لي هذا الشعور بقوة الأمن، ربما ما أقول عبارة عن هلوسات امرأة طائشة، وأنا أدرك بأنك فقدت احترامك لي، لكن هذا ما تعلّمته خلال هذه التجربة القصيرة من رحلة التوبة، أنا سعيدة بهذه الهلوسات.

في اليوم الرابع وعند عودتي من العمل لم أجدها في البيت، وبعد يومين وجدها أحد الرعاة مقتولة بالقرب من النهر. كان الخبر الذي هزّني أكثر مما هزّ أي كائنٍ آخر، وما تزال ذاكرتي الضعيفة تذكر كلماتها الأخيرة التي تَرَكَتها في سمعي: علينا أن نكون أكثر تحملاً، وكلّما وقَعت علينا الضربات الكبرى الموجعة، نزداد قوة وصلابة في احتمال مرارتها.

ما يهم أن نمتلك كل تلك الطاقة التي تمكّننا من الوقوف بشموخ أمام مختلف ظروف الحياة القاسية وألا نستسلم للوساوس الخبيثة، ليس بالضرورة أن نكون سعداء في الحياة حتى نستطيع أن نعيشها، لكن بالضرورة ألاّ نقبل السقوط ونرفضه بكل إمكاناتنا، يمكن أن نعيش دون سعادة في آخر درجة من درجات الألم، ونحن نحمل كبرياء الإنسان في أعماقنا وننجح في أن نحب الحياة ونعتبرها كنزاً نتمسك به رغم أوجاعنا، لكن لن ننجح في أن نحب الحياة بأي شكلٍ، ولا أن نتذوق لذة المواجهة ونحن نحمل في أعماقنا رايات إنسانية مُنَكّسة.

كاتب سوري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي