شجاعة وفخر ..ما بين النكسة والاستنزاف: شهادات جريئة للسينما المصرية

2022-06-09

من فيلم الرصاصة لا تزال في جيبيكمال القاضي *

إذا كانت السينما المصرية قد قدمت شهاداتها عن حرب أكتوبر/تشرين الأول 73 في بضعة أفلام احتفالية أعقبت الانتصار العظيم، فإنها عبرت أيضاً عن لحظات الألم والانكسار برؤى سينمائية مثلت نوعا من المحاكمة السياسية لأسباب النكسة أو الهزيمة، وتميزت بعض الأفلام الناقدة للأوضاع السياسية آن ذاك بالجرأة والموضوعية، رغم أنها أفلام حربية لم يكن منوطاً بها النقد السياسي كغيرها من الأفلام، لكنها تحت وطأة الإحساس بالألم والمسؤولية تطرقت إلى أبعد مما هو مطلوب منها، فعبرت بشكل ضمني عن وجهة النظر السائدة في تلك الفترة كنوع من التفريغ الانفعالي لشحنات الغضب والكبت.
لكن في الوقت ذاته لم تتجاهل السينما المصرية ما أحدثته حروب الاستنزاف المتوالية على إسرائيل من خسائر فادحة في الأرواح والمعدات وتأثيرات سلبية بالغة في الروح المعنوية والقتالية للجندي الإسرائيلي الذي أفقدته معارك الاستنزاف طويلة الأمد الثقة في كفاءة جيشه وقواته العسكرية، وهي المشكلة التي حاولت الدعاية الصهيونية تغطيتها بالأكاذيب للمُحافظة على البنية العسكرية لجيشها المأزوم والمتورط في الخسائر والهزائم .
في أعقاب النكسة ترجم المخرج الراحل يوسف شاهين بعضاً من آلام المصريين وإصرارهم على الاستمرار في الحرب، والأخذ بالثأر عبر فيلمه السياسي الشهير «العصفور» ولعل المشهد شبه الوثائقي لمظاهرات الطلبة آن ذاك اعتراضاً على الهزيمة كان دالاً وبليغاً بما يكفي، غير أن العبارة التي ترددت على لسان بطلة الفيلم محسنة توفيق بتكرار مقصود «هنحارب ـ هنحارب ـ هنحارب» كانت شديدة التأثير والوقع على الجمهور، حيث صارت العبارة المذكورة من الأيقونات الراسخة والعلامات الأساسية في أرشيف السينما المصرية والعربية. ولم يكن هذا الفيلم استثناءً وإنما جاءت أفلام أخرى تعكس الشعور الوطني نفسه لدى الغالبية العظمى من المصريين، رغم وقائع الاعتراض والرفض للسياسات التي أدت لوقوع النكسة، فعلى سبيل المثال فيلم «الكرنك» الذي سجل مخرجة علي بدرخان حيثيات الأزمة من وجهة نظرة، جاء رافضاً للواقع القاسي ومُنتقداً بشده لحالة اللاسلم واللاحرب وفق التسمية الساخرة لفترة ما قبل حرب 1973.
وعلى الجانب الآخر جاءت الأفلام الحربية لتُدلي برأيها في الواقع السياسي مُتخفية وراء طبيعتها، فمن بين النوعيات السينمائية المهمة التي ناقشت الهزيمة بشكل صريح، ودون مواربة فيلم «أغنية على الممر» للمخرج علي عبد الخالق، بطولة محمود مرسي الذي لعب دور الجاويش المُجند الذي أبى التخلي عن موقعة على جبهة القتال وأصر على المقاومة إلى آخر لحظة في المعركة رغم فقدانه لكل المقومات واستشهاد عدد كبير من زملائه الجنود.
وتكمن أهمية الفيلم في أنه قدم النموذج الإيجابي للبسالة القتالية، وأوضح الفروق الجوهرية بين الروح القتالية للجندي المصري ونظيره الإسرائيلي المُفزع باستمرار والخائف دوماً بلا مُبرر. أما فيلم «أبناء الصمت» للمخرج محمد راضي فقد كشف عن دلالات الإحباط والاكتئاب بشجاعة مُتناهية وأوضح أسباب العُزلة التي كان يعاني منها بعض الجنود جراء الشعور القاتل بالهزيمة، وهي الشخصية التي رمز لها المخرج بالدور الذي جسده شقيقة السيد راضي في صورة الجندي المكتئب طوال الأحداث، والمشغول معظم الوقت بانتظار ساعة الصفر وتنظيف بندقيته استعداداً للقتال، وبالفعل كان هذا الجندي أول الشهداء في حرب السادس من أكتوبر عام 1973 إثر قيامه برفع العلم المصري على الضفة الثانية من القناة فور إتمام عملية العبور العظيم.
ولم تكن البدايات الدرامية للأفلام الأخرى سوى استعادة لأجواء 67 الحزينة، تمهيداً للدخول في غمار حروب الانتصار، سواء بالاستنزاف العسكري للقوى الإسرائيلية من خلال تدمير النقاط الحصينة أو المواقع الاستراتيجية أو التسلل لإتمام عمليات حربية على قدر من الخطورة خلف خطوط المواجهة مع العدو، وفق ما تم تصويره في أفلام مهمة كـ»العمر لحظة» و»الرصاصة لا تزال في جيبي» و»يوم الوفاء العظيم» و»بدور» وخلافه. لكن تظل هناك أفلام أكثر مباشرة نحت نحو التوثيق لفترة ما قبل 73 كفيلم «يوم الكرامة» للمخرج علي عبد الخالق وفيلم «الطريق إلى إيلات» للمخرجة إنعام محمد علي والأبطال، عزت العلايلي ونبيل الحلفاوي ومادلين طبر، فالفيلم الأخير بصفة خاصة اعتنى بإظهار البطولات القتالية للقوات البحرية المصرية في حرب الاستنزاف، ووثق لعملية تدمير السفينتين الحربيتين الإسرائيليتين، بيت يم وبيت شيفع في المهمة السرية الحربية التاريخية المعروفة باسم إيلات.وقد تم استقاء المعلومات العسكرية الخاصة بهذه المهمة بشكل كامل من أرشيف القوات المسلحة المصرية، بما فيها الجهود التي بُذلت من جانب بعض المناضلين والفدائيين في الفصائل العربية التي أشير إليها بشخصية مادلين طبر كإحدى الشخصيات المُقاتلة التي ساعدت في نجاح العملية الأكثر حساسية.
ومن بين الأفلام أيضاً التي ناقشت هذه الفترة فيلم «حكايات الغريب» المأخوذ عن رواية الأديب الراحل جمال الغيطاني، الذي عمل مراسلاً حربياً وكتب روايته من واقع تجربته الشخصية، وهذا الفيلم هو العمل التلفزيوني الثاني للمخرجة إنعام محمد علي، التي اهتمت بتناول المرحلة التاريخية بشكل دقيق غلب عليه الطابع الوثائقي إيماناً منها بأهمية السينما في تسجيل وقائع الحرب والانتصار باعتبارها جزءا لا يتجزأ من التاريخ البطولي والإنساني لمصر وشعبها. وبالطبع كانت آخر التجارب في هذا المضمار تجربة المخرج شريف عرفة في فيلم «الممر» الذي بدأت أحداثة من النكسة ووقفت عند حدود حرب أكتوبر، مروراً بحرب الاستنزاف التي مثلت بؤرة الحدث العسكري البطولي وتناولت التفاصيل بشكل مُركز ومقصود لإثبات حالة الانتصار الفارق في الحرب المنسية أو المُعتم عليها من جانب إسرائيل لعدم الاعتراف بما لحق بها من هزائم ساحقة.

*كاتب مصري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي