حدّثتني أشجار البطّوم وكان بيتر بروغل الأكبر يسمع

2022-06-06

عاشور الطويبي

(إلى الروائي العراقي صموئيل شمعون)

أشجار البطّوم جاءت بالخبر

أشجار البطّوم جاءت بالخبر، قالت:

رأينا ثقباً في السماء، لم يكن ضيّقاً لا تدخل الإبرة فيه

ولا واسعاً تدخل فيه الغابة وأصوات الغابة.

رأينا سُفناً تأتي من جهة الغرب،

دخانُها عالٍ وأصواتها توحش القلب.

رأينا صاحبَ الحرث وثورَ الحرث، يرفعان رأسيهما

مرّة إلى ثقب في السماء

ومرّة إلى سُفن تأتي من جهة الغرب.

رأينا أطفالاً يركضون على طول النهر،

ملابسهم تقطر بالدم،

وأيديهم تلوّح إلى شيء يرونه ولا نراه.

رأينا كاهن الملك يذبح قرابين الملك،

ورأينا الملك في عريشته عرياناً يضحك.

رأينا حِمماً تسقط على السهل،

ورأينا الموت أبيض كصوف سحابة مرّت أيضاً من هنا!

■ ■ ■

ساحة المقهى

حين جلس الغريب في مقهى ساحة المدينة،

لم يلتفت إليه بائع الذرة المشويّة، ولا بائع الأقمشة المزركشة.

كانت نادلة المقهى تحلم، ليست بعيدة عن صبيّ الفرّان

والمجنّد العائد إلى قريته تحت سفح الجبل. 

شاحذ السكاكين يصل لاهثاً

شجرة الزيتون التي سُمّيت على وليّ المدينة. 

هو لم يعد يقدر على حمل أثقال قلبه

حسبه أن يرفع سبّابته إلى أعلى وتنهمر أمطار الأنين.

هنا بيتٌ، وعمّال يرفعون القرميد على سقف البيت.

هنا سكّيرٌ رأسُه على الطاولة ويداه ممدودتان،

واحدة قرب نهد المرأة الناعسة، والأخرى في دلو ماء.

الحمّال يشتُم الريح والكلاب السائبة. 

صيّاد السمك يسحب شبكته،

يسحب سماءً حيرانة وأرضين ترتجف.

كبير السجّانين في باحة التريّض،

ينخلُ الوقتَ وينخل حصى الضلالات.

■ ■ ■

الجموع

إلى أين تذهب هذه الجموع؟

من أين أتت هذه الجموع؟

الجموع فوق جسر الاستقامة حيث لا ظلّ ولا ظليل!

الوقت في حاشية الجموع أكلَ نصف البرّية ولسانه صار أخرسَ.

مَن قتل هذه الجموع؟

الصيّادون الذي عادوا إلى القرية، وجدوا البيوت قد غرقت في النهر،

الأغاني تشقّقت والكلام لهُ صدى طبلٍ أجوف.

الليل خانته الذئاب.

القمر لم يعد يجلس فوق شجرة السدر.

حتى الطيور اختفت مع الحجارة التي سقطت من الجبل

صار لها عواءٌ يشبه الشتائم واللعنات.

"من أين أتى هؤلاء الذين يرقصون تحت ضوئي؟

لماذا في قلب كلّ واحدٍ منهم ثمرة بلّوط؟

أهذه أغنياتهم أم أصداء همهمات العبيد من وراء الصحراء؟"

تساءل القمر، قبل أن تنحني الأرض للمالِك الجديد.

■ ■ ■

المتطهّرون

تخرج النسوة من القبو المعتم، في أيديهن صُررٌ، خلفهنّ أطفال يلعقون أصابع حلوى.

يدخل التاجر بيته، على كتفه بطّيخة ناضجة، خلفه قطّة بيضاء تضلَع.

المطلّون من نافذة النُزل، ينتظرون الشواء الساخن، ويضحكون.

الشرطيّ يقلّب الثوم، يفكّر كيف نسيَ أن يلمّع حذاءه.

السمك في السلّة ملقىً على جنوبه، عيونه مطفأة،

ما أقرب السماء للميت!

النازحون جوعى، حزانى، ألقت بهم الأرض إلى الهموم.

الأيدي الممدودة دوماً خفيفة

أمّا الخطوات المتردّدة، حدّها أن تصل إلى حوصلة الغريق.

ساقُ الشحّاذ وقلادة العروس، كلاهما في خزانة الملك.

على مهلٍ تأخذ الفلّاحة الثوم والبصل إلى بئر في وسط الساحة.

■ ■ ■

أحمالٌ وأثقال

اجعلْ حساءك من عدسٍ يأتِكَ صانعُ البيرة،

على رأسه قلنسوة القُضاة وفي يده مسبحة شيخ ميت.

اجعلْ دلو السقّاء خروجك من هَمّ.

لا تقترب من كفٍّ عليها سمكتان،

ذلك هَمّ لا تقدر عليه.

حاملُ الفحم على رأسه،

كيف يحمل في يده خبزاً تأكل الطير منه؟

كيف يضحك طائرٌ وحشيّ لنهار لم يعد أبيضَ؟

هلمّ إلى مائدة الصائمين الحالمين،

خبزٌ يابس، تين مجفّف، لحمٌ مقدّد وثريد بحليب معزٍ رائب.

هلمّ إلى غناء أرقّ من ندى الربيع، وأشفّ من آهة عاشقة.

رجال ونساء يخرجون من الأقبية، تتبعهم التقوى وخائنة الأنفس. 

هَمٌّ فوقَ هَمّ!

الثعالب على الربوة، ينتظرون صفير قطار الليل،

الوليمة لن تبدأ قبل وصول القطار.

صحون الفقراء تمتلئ بالحكايات. 

جُرَّ العربة الخشبيّة إلى حافة الحقل، انظرْ

كيف تدخل الشمس على جنب

كيف يستقيم الكلام في فم الرضيع!

■ ■ ■

الأسلاف

أسنّة الرماح عالية والكتاب مطويّ.

لم يغب أحد عن القسمة، حتى وبّار النخيل ذو العين البيضاء.

لا أحد يعرف مَن أشعل النار في الخمّارة،

ولا كيف سقط إزار الفقيه على ظهر الفتى الأبكم!

المسلحون حطّموا الباب، سرقوا قلائد النسوة،

سلخوا كلّ وشمٍ وجدوه على ساق أو خدّ أو جبين.

أسلافهم أطلّوا من وراء الأسوار، مثل طائرات مسيّرة

كانت الكتائب تحيط بهم من كلّ جانب

يبست ضروع نوقهم وغار ماؤهم.

سُفن الحديد بدت على المدى كأنها حبّات عقيق منضود

وحده الملك يحمل سفينته فوق ظهره ويصرخ على الواقفين على الجسر.

"إنْ أسرعنا، سنعلّق كلّ رؤوس الخونة على الرماح قبل غروب الشمس"، يقول كبير الحرس.

هذا بحرٌ بألف لجّة ولا ساحل!

الذين رفعوا الأعلام القديمة عالياً رحلوا مع ريح "القبلي"

الذين جاءوا مع المدِّ شقّوا قمصانهم ولوّحوا بالمشاعل

الذين بقوا في بيوتهم تهتّكت صورهم على الحيطان 

وفي كهوف عيونهم تبيض الغربان.

هذا ساحل ليس فيه من الحياة إلّا الموت!

■ ■ ■

حقل الجرجير

التاج ثقيلٌ على ملكٍ يمشي في الشارع،

البرنوس ثقيل على فقيه يحرث حقل جرجير.

سِنٌّ من حديد تُدوّر الغابة على صدر حجر،

بُرقعٌ من هوىً يدوّر الفضيحة على وجوه الغانيات.

أخذوا الناقة من تحت الهودج،

أخذوا الفجيعة إلى الخيام الموحشة.

جميعهم يهيمون في صحراء عظيمة.

حامل الشموع يتبعه المغنّي وامرأةٌ

على ظهرها رحى، تنثر على الزنابق نخالةَ القمح الذهبية.

مِن على السور يتبرّز السكّير على العالم،

أشجار السرو تُسقط أقماعها اليابسة فوق ضريح الوليّ.

سوف تأكل السمكات فطائر الخبّاز،

ويقفز الضفدع قفزته الأخير في بركة الماء.

في الجنينة، اندلق اللبن على عشبة الإكليل،

من الحجرة العالية يتابع السيّد سرب طيور مهاجرة.

الثور يتبع حروف المحراث، يتبع حروف قلبه،

يتبع أغانيَ لحصّادين غطّاهم غبار الوقت.

■ ■ ■

الخنجر

أين يضع اللصُّ الخنجر؟

في حقل البازلاء.

أين يضع القاتل الخنجر؟

في خاصرة النهر.

أين يضع الملك الخنجر؟

في يد الشرطيّ.

أين يضع الرضيع الخنجر؟

في صندوق الجدّة.

أين تضع العروس الخنجر؟

في قطفة نعناع.

■ ■ ■

الجنديّ

النسور تتبع الجندي العائد من الحرب، تنسَلُّ من جسده:

صيحات القتلى، عسلُ القرى البعيدة،

خُمار الليالي الموحشة، المليئة بالفجائع.

الجندي العائد من الحرب:

أعطى لمختار القرية خوذةً مثقوبة،

أعطى للعشيقة صفرة الغروب

أعطى إلى الخبّازة صفّارة الإسعاف

أعطى لأخيه الأكبر حدوة الحصان

أعطى إلى جاره رائحة البارود

أعطى لمحصّل الضرائب حقيبة الموتى

أعطى لنفسه رصاصة واحدة في القلب.

* شاعر ومترجم من ليبيا

** بيتر بروغل الأكبر (1525 ـ 1569): رسّام هولندي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي