من نفحات الحَكايا الشفاهية

2022-05-15

عبد الباقي يوسف

من الحَكايا التي يتم تداولها في الثقافة الشفاهية، التي تُبيّن للناس أهمية تقدير الأشياء الثمينة التي يمتلكونها، سواء أكانت مادّية، أو معنوية، كالموهبة، والإبداع، والاختراع، فعدم تقدير هذه النِعَم التي يحظى بها بعض الناس، قد يجعلها تضيع منهم دون أن ينتفعوا بها، أو يَنفعوا بها الآخرين.

من جهة أخرى، فإن هذه الحِكاية المُعبّرة والمكتنزة المعاني، تبيِّن كيف أن الذين يدركون قيمة هذه الأشياء الثمينة، يسعون إليها عندما يرونها، أو يسمعون بها، عندما يرونها وقد سقطتْ ربما سهواً في يدٍ لا تدرك قيمتها، أو حتى عندما يضطر صاحبها الذي يعرف قيمتها إلى العرض.

تروي الحِكاية التي يتناقلها بَياض الناس وسَوادهم، في بعض المواقف لأخذ العظة منها، ومضمونها أن رجلاً كان يُعلّم الناس المواعظ، فكان يتردد إليه البعض للاستماع إلى مواعظه، والانتفاع بهذه الدروس التي يلقيها عليهم، ومع الأيام لفت نظر المُعلّم أن شخصاً لا يستجيب لِما يسمع، ويبدو أنه لا يتلقى شيئاً مما يسمع، فيخرج من الدرس كما دخل دون أي فائدة، وذات مرّة أراد المعلّم أن يغيّر من أسلوب دروسه بشكل استثنائي خاص مع هذا الشخص حسب، وبعد أن أنهى الدرس على الحضور، طلب منه أن يبقى، لأنه يريد منه خدمة، فلبث هذا الشخص عندما انصرف الجميع. عندئذ غاب المُعلّم قليلاً، ثم جاء وبيده حجرة صغيرة سوداء اللون، وطلب منه أن يأخذها إلى السوق حتى يعرضها للبيع، ويعرف قيمتها، ثم يعود ويُخبره بما حصل معه بشأنها، فتناولها الشخص، وفي الطريق صار ينظر إليها، ويتمتم في نفسه: مَن سيشتري حجرة، وأي ثمن سيكون لها حتى أرسلني المعلّم بها إلى السوق كي أعرضها للبيع؟! ثم اهتدى إلى فكرة أخذها إلى بائعي الفحم، لعلّهم يبتاعونها منه، فاتجه إليهم، وصار كلّما يناولها لبائع، يتفحصها البائع ويقول: لا تلزمني، أو حتى لا يردّه خائباً، يدفع بها مبلغاً زهيداً جدّاً من باب الشفقة، ثم راح إلى بعض بائعي الخردة، يعرضها عليهم واحداً تلو الآخر، دون أن يزيد أحد شيئاً، عندئذ أصابه اليأس، فعاد أدراجه إلى حيث معلّمه، وفي الطريق بينما يمضي وهو يقلّب الحجرة بيده، ويتأمّلها، وقد دخل سوقاً للصاغة. لفتت الحجرة نظر أحد الصيّاغ الذي كان واقفاً أمام دكانه، فنادى به، تفاجأ الشخص بالنداء، وما لبث أن تقدّم إليه ظاناً بأنه سيسأله عن شيء ما، عندما وصله، مدّ الصائغ يده إلى الحجرة قائلاً وراح يُقلّبها في يده، وينظر إليها بدقة: ألا تبيع هذه الحجرة؟ ضحك الشخص وقال في قرارة نفسه: هذا الصائغ يريد أن يستهزئ بي، فما الذي سيفعله بحجرة سوداء، وهو يبيع الذهب؟

فقال له: لا.. لا أبيعها.

دخل الصائغ إلى محلّه، وراح يمسح الغبار عن الحجرة، ثم يتفحّصها بمنظار صغير وضعه على عينه، فابتسم الشخص ومضى تاركاً الحجرة تفادياً لتلقي السخرية من الصائغ، لكنه بعد خطوات تذكّر بأن معلّمه طلب إليه أن يُعيد الحجرة، فعاد إلى الصائغ وسحب الحجرة من يده، عند ذاك عرض عليه الصائغ مبلغاً كبيراً فاق تصوّره.

فعاد يتمتم في سرّه: لقد تأكد لي بأنه يستهزئ بي، وهو يظنني مجنوناً، ثم جرى تاركاً صوت الصائغ يلاحقه، وهو يزيد له مع كل نداء في السعر، فيلتفت إليه بين خطوة وأخرى وهو يبتسم، ثم يمضي حتى بلغ بيت معلّمه، فسأله عمّا جرى معه، عندئذ روى له كل ما حدث، فقال له المعلّم: هذه حجرة كريمة، لا يعرف قيمتها إلاّ الذي يخبرها، والصائغ لم يكن يستهزئ بك، بل كان سيشتريها بالمبلغ الذي عرضه عليك، لأنه كان سينتفع بها ضعف ذلك، وكان سيقوم بتلبيسها الذهب، ويسوّق بها ذهبه، هذه الحَجَرة الكريمة يا بني مكانها الذهب، وليس الخردة والفحم.

قاص سوري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي