يولاندا سولير أونيس: هذه هي بعلبك

2022-04-23

ترجمة وتقديم: جعفر العلوني

المادّة، كما قيل سابقاً، لا تزيد ولا تنقص. هذا معناه أنّ الأشياء هي دائماً نفسها، أي أننا لا نستطيع أن نخرج من مادّتها إلى مساحات أوسع. هنا الأمر مختلف تماماً. فشاعرتنا تجعل الأشياء تدخل في دوّامات مضطربة وكأنها تتراقص بشكل عفوي. وهي، فيما تُخضع الأشياء إلى هذه القوة الديناميكية، تمنحها معنى جديداً، تُحوّلها إلى أشياء جديدة، وتزيد عليها.

تؤمن الشاعرة الإسبانية يولاندا سولير أونيس أنّ الشعر هو ضوء يجعلنا نرى ما لا يُرى. إنُّه تلك الكلمة الدقيقة التي ترفرف وتطير انطلاقاً من عتمة الأشياء، وصولاً إلى النور. الشعر هنا جرمٌ أو كوكب أو مذنّب، إنه أوّل الذاكرة وآخرها، وهو الذي يسمح لنا بالنفاذ إلى طفولة هذا العالم من خلال اللغة.

ضمن هذا السياق، ستتجاوز القصيدة التي تكتبها الشاعرة الإسبانية أفق الكلمة، لتخلق كلّ ما يمكن إعادة خلقه. هكذا يتحوّل الغياب إلى نوع من أنواع الحضور، ويصير الفقدان شرطاً أساسياً وجوهرياً للكتابة. تعرف سولير أونيس أنّها فيما تفعل ذلك، تسكن على حافة الأشياء، على ضفافها، وهي في ذلك تشعر أنّ السفر هو هاجس هويتها الوحيد، وفي هذا السفر الشعري الدائم تبحث عن نبض جديد لفهم العالم وأشيائه.

القصيدة هنا هي إيحاء دائم وإثارة مستمرّة. وفي هذا كلّه هامش كبير من المساحة الحرّة التي تخلقها الشاعرة لنفسها وتطلق فيها العنان لمخيّلتها، للذاكرة، للجسد، ولعناصر الطبيعة: الحجر، العشب، الضوء، والألوان.

تذكّرنا يولاندا سولير أونيس في قصائدها بأنّ الشعر وُجد لكي نكشف عبره أعداداً لا تُحصى من الأسرار، تذكّرنا أنّ ثمّة قصائد تحتوي على ثلاث أو أربع كلمات، ولكن بفضلها وصل إلينا جزء من الجمال لم يُكتشف بعد.

هنا مجموعة من قصائدها، هي التي تترجَم للمرّة الأولى إلى العربية:

الغريب

يصمتُ كمن يرقص تحت الماء

ويحلم.

كل ليلة يعود إلى مدينة

تجنح في عتمة الأشجار،

هناك حيث يوجد طفل يجمع أسماء الأشياء،

تلك الأشياء التي ستبعثره

وهو يكتب بأصابعهِ على دفتر الهواء

أبجديةً جديدة.

■■■

من العتبة

أراقب بأيّ سكينة

تقبلُ أصابعُكَ الكلمات.

وحين يهبط الليل

أخترق صمتك

وتستقبلني يداك كمثل إسفنجةٍ:

مساحاتٌ باردةٌ أخمّن أنها موشومة.

■■■

أحببتُ لحظةَ رجلٍ مرّ كالوقت

ورحتُ أبحثُ عنه في عقلِ الأيام،

في سرير الأنهار

وعبر مرايا لا نهاية لأشكالها.

لم أجد سوى ظلّ ظلٍ.

هكذا،

عاريةً،

أعود اليوم لماء هذا الحلم الأخضر

دون أيّ عذر رمادي

لكي أسكن هذا الشك،

وهذا الانتظار الصامت

وانعكاسه المشوّه.

■■■

أحببني

في الظلّ،

في ظلّ الصنوبر البرّي،

على حافة المدن الجنوبية

والقطارات،

هناك

بعيداً عن أيّة مداعبة،

حيث لا هواء،

في فرج شجرة تين تحنو

حلوةً كامرأة.

■■■

كلمةٌ

والظلام يرفرف،

تتعرّى

وتطير في غيمة من فراشات سوداء

وتتحدّى المطر.

خلفها تسير شمس،

كرمةٌ

وتحلّق فراشات ملوّنة،

وثمار السهل والحجر.

كلمة- كوكب

تسافر بك إلى لهو

الطفولة وضحكتها

بين أعمدة المعابد المنهارة...

بعلبك،

هذه هي بعلبك.

■■■

غالباً،

يحدث في الأنهار

تماماً كما يحدث مع الكلمات:

تجفُّ،

وتصبح بلا معنى.

■■■

كلّ شيء حدث الآن،

في هذه اللحظة:

عناق الهواء

صوت يحنٌّ،

غيابه الوردي،

حتى شفافية ما تبقّى من الذكرى.

■■■

في السرِّ

أختار لنفسي هذه النافذة المطلّة

على البحر

بالطريقة نفسها التي تقدر فيها أشجار الطفولة

المتواطئة والكونية،

على حمل تقلّبات الزمن

بين أغصانها.

■■■

عبثاً،

كمثل حبٍّ يصلّ متأخراً،

عبثاً،

كمثل حبٍّ ينادينا،

تسيل هذه الأنهار القديمة مدفونةً

بين مدنٍ رملية غير مرئية.

لا مجرى، لا مصب،

كثبان ذاكرةٍ أو نسيان

ولا ذكرى الآن تنبح عليها.

■■■

أنتَ أيضاً كنت أخضر

في تلك اللحظة،

باباً حلواً في أعالي ضلوع الغيوم

التي كانت تركب هائجة على ظهرك،

في سماء بلد غريب.

كضوء يُخفي

أنهار المدن التي نسكنها في وقت خاطئ

كنتَ، حينها، أخضر كذلك.

■■■

الصيف هنا

طريقٌ على حدود الجرف،

عذوبةُ ماء بين جُزر متناثرة،

حجارةٌ تشعّ نوراً

وكهوف تربط الشاطئ بالأفق.

في جوف الأرض،

ثمّة من يحمل البحر بعينيه

إلى الآخرين. 

■■■

أحبّك بقسوة،

حتى عندما أُرهق نفسي في هذا الفيض،

في مهمّة أن أكون كل مرّة عارية

إلى أن أختفي.

بطاقة

Yolanda Soler Onís شاعرة وروائية إسبانية، من مواليد كومياس في مقاطعة كانتابريا عام 1964. حاصلة على دكتوراه في الأدب الإسباني. حازت العديد من الجوائز الأدبية الشعرية، أبرزها "جائزة خوسيه هيرو للشعر". من أبرز أعمالها: "أسماء غريبة" (1989)، و"هجرات" (2002)، و"وعن الأنهار الغامضة" (2010). شغلت العديد من المناصب الثقافية في عدّة عواصم عربية، وهي حالياً مديرة "معهد ثيربانتس" الإسباني في بيروت.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي