سماءٌ أخيرةٌ بين الأبنية

2022-04-20

فادي طفيلي

 (إلى ف. أ. خ)

ليل

إنّه ليلٌ ما زال كما هو

منذ زمنٍ طويلٍ

وأعيننا في مكانها.

انظرْ بِهما إليهِ

على صفحة كوبِ الشايِّ

يتشبّثُ بسيقان النعناع،

والسُكّرُ الكثيفُ يشدُّه

إلى

الأسفل.

انظرْ إليه...

ليلٌ واضحُ العينين

الغائرتين،

يذوبُ ولا يبقى له

أثرٌ في القعر

لكنّه سرعان ما يعاود الأنين من عروقِهِ

على امتداد الممرّاتِ التي نخوضها معًا،

فنسمعه ونعاينه معًا

بقلبينا،

في وضح النهار

أو في هوّة الظلامِ،

حيث تنبعُ أحلامنا.

■ ■ ■

محاولة

أحاولُ استعادتَك الآن

ربّما من دونِ نتيجة.

أتذْكُرُ حبَنا الدفين للذئاب؟

حبنا اليوميَّ

والسرّيَّ ذاك،

الذي كان يلحّ في أوّل المقاهي

وفي الطريق الليليّ

إلى الجبال؟

وهذَياننا الأشبهَ بالعواءِ

ونحن نُردّدُ؛

"من بْلِس إلى جاندارك،

ومن جاندارك إلى بْلِس"!

وأيدينا بقوَّةٍ تصفع الهواء

بلا سببٍ

أو هدف؟

ووقوفَنا عند تقاطعِ

شواء اللحم والأنفاس،

والسيّارةَ عابرةً في الظلام

بوهمِ النفقِ

بين الصنائعِ

ومدخلِ الأشرفيّة؟

ودخولَنا في غمامة

البيوت الهامدة،

حيث الجعيتاوي معتمٌ

ورطبٌ مثل كهفٍ عميق؟

والبائعَ في محلّ الغاتو

يُعدّل لنا قطعتيّ الـ"بابا أُو رُم"

بسكبتين طويلتينِ

من "الرُّم" الأرمنيّ؟

إنّه ليلٌ

ما زال كما هو،

منذ زمن طويل،

وأعيننا في مكانها،

ولا شأن لنا

بذلك أبدًا.

غير أنّني الآن أحاول استعادتكَ،

من دون نتيجة ربّما،

ولن أتوقّفَ عن المحاولة.

علّني أستعيد وصفَك

الذي نسيتُه للتَوِّ،

وكان ينطبقُ عليكَ

أكثرَ من حضورِكَ

الجسيمِ والمتوتّر.

أعاينك الآن من بعيد،

عابرًا ممرّات مخنوقةً

من كثرةِ الاستخدام،

مستثنيًا الدخان من معاينتي

كونكَ أقلعتَ عنهُ

وانتقلتَ إلى الحُبوب.

صورتك باتتْ في عينيَّ

أكثرَ وضوحًا من ذي قبل.

صدّقني،

لقد ازداد وصفك تعقيدًا

وامّحاءَ ملامحَ،

لكنّ هذا أخرجكَ

من الكثافةِ التي كانت

تُثقلُ عليكَ

وتُبقيكَ

في

بؤرةِ

نفسِك القصيّةِ،

بؤرةِ أحلامِكَ

المقفلةِ بإحكامٍ شديد.

■ ■ ■

كمأ

ثماني حبّاتِ كمأ مجبولةٍ برمادٍ كهربائيٍّ

انتشلوها من ضلعِ بناءٍ

مثقوبٍ ومظلم.

إنّه بيتكَ الآنَ

دافئٌ وألِيْف.

بيتٌ مليءٌ بالصورِ والكتبِ

واللوحاتِ،

ومنارٌ بأضواءٍ خافتةٍ

تليقُ بالشعراء.

ونحنُ نشربُ كأسينِ على الشرفة.

لكنّ المشهدَ العنيدَ يتراءى أمامنا

في الكتلِ المتزاحمةِ،

وفي السوائلِ

والغبائرِ

والفراغ.

ثماني حبّات كمأٍ

بالعدد المُقدّر.

واحدةً تلو الأُخرى

أخرجها الرجالُ

وذرّوها في هواءٍ

ساخنٍ

ورطب.

نعبر في ذلك الموضعِ كلّ يومٍ

والطريقُ تنحني قليلًا

حيث الماءُ غائرٌ في الأرض،

ويخفتُ الإسفلتُ في حفرةٍ

بحجمِ دولاب سيّارة.

الهواء ساخنٌ وثقيلٌ

والوحلُ في المكانِ

وتجلسُ السيّدةُ في دكّانِها

مُجلّلةً بضوءِ النيون

بينَ ثمانيةِ أفرادٍ غير مرئيينَ من عائلتها.

لم يبقَ شيءٌ من الأنينِ الآن،

تُذكّرُني أنتَ بهذا.

كلّ شيءٍ ثابتٌ في المكان.

كلّ شيءٍ جامدٌ في الصور.

صليبٌ باردٌ على الجدارِ

رجلٌ يابسٌ على الخشبِ

صديقان تائهانِ

في الساعات المظلمة.

لم يبقَ شيءٌ من الأنين الآن.

تذكّرني أنتَ بهذا.

نعبرُ كالمعتادِ

كذئبين مستوحشين،

ونصغي إلى صوتٍ ضئيلٍ

يرفعُهُ الرمادُ

نحو شاشةِ ظلالٍ

تغلّفُ الأبنية.

■ ■ ■

مستشفى

تلمعُ الأسِرّة المتقاعدةُ

في باحةٍ قاحلةٍ قرب المستشفى.

شراراتٌ صغيرةٌ

تسطعُ تحتَ الشمس.

البِنَاءُ الشاحبُ يحجُبُنا بظلاله الثقيلة.

نرى الحديدَ يومضُ من بعيدٍ

كالتحامِ فرسانٍ مُدجّجين.

هياكلُ أسِرّةٍ تتراكمُ في باحةٍ كبرى،

ويبلغُ أزيزُها الواقفينَ على الشرفاتِ

في الأبنية المحيطة.

معدنٌ يصطكُّ في مسامعنا

كأسنانِ آلةٍ هرمة،

كتلقيمِ أسلحةٍ في زقاقٍ

بمعركة بين عائلتين،

أو بين فصيلين مُقاومين.

وتتراءى في وسطيّة الطريقِ

نخلةُ نُثارٍ صاعدةٌ بلا سَعَفٍ

بين شجرٍ معدنيٍّ وثمرِهِ الصدِئ.

برجُ ملحٍ يرتفعُ في الليلِ

بين أطياف راحلين؛

غابةُ توت بائدةٌ

وأرتالُ صبّارٍ بائدٍ

وآثارُ عابرينَ

بين صنوبرٍ بائدٍ

وترابٍ مجبولٍ

بالحصى وبقايا الرصاصِ

وشظايا القنابل.

نعبرُ طلقتين طائشتين،

ذئبين مذعورينِ

في غابة عاريةٍ

التهمتها النيران.

إلى يميننا نهرُ أحشاءٍ وأوردة.

وإلى اليسار شوارعٌ مظلمةٌ

يشدُّنا العتمُ إلى مستنقعاتِها الآسنةِ

المجبولةِ بانبعاثاتِ المسالخِ

وورش الإنشاء.

نضيعُ صوتينِ خافتينِ

في أحياءِ عويلِ آليّاتٍ

وهياكلِ غضَبٍ سعيد.

نرتفع قليلًا

صرختينِ صغيرتينِ

جارحتين.

نصعدُ منطادينِ تائهينِ

في سماءٍ مُنهكةٍ

تضجّ بآلافِ

الوجوه الممزّقة.

قوّةٌ تدفعُنا في اتجاهٍ

لا تلبثُ أن تأخذَنا في اتجاهٍ آخرَ

نحو قطاعات الأبنيةِ الأكثر بؤسًا.

أشياءُ مجهولةٌ تقذفها الروائحُ

من مساربِ المرفأ الضيّقة.

نتبعُها رعشتينِ نابضتينِ

في أطرافٍ يابسة.

نتعقّبُها مُريدَيْنَ طائعينِ

هائمينِ

كي نضِلَّ،

أو نتفكّكَ

وننكسرَ

جملتينِ متردّدتينِ،

عبارتينِ متلعثمتينِ،

هناكَ... حيثُ يهدُرُ

عاتيًا

ضجيجُ الحانات.

■ ■ ■

شجرٌ مائل

يهبُّ الهواءُ مُحرّكًا مؤشّرَ الرياحِ بأعلى

الكنيسةِ الكبرى.

ويكادُ مؤشّرُ الرياحِ فوق البرجِ

أن يختفيَ أحيانًا مِنْ سرعةِ الدورانِ

فلا تُعرفُ جهةُ الهُبوبِ

إلّا من السحابِ والشجرِ المائلِ

نحوَ الجنوب.

قاماتٌ عنيدةٌ تنحني لأمرٍ لا يَظهرُ،

لكنَّ الرياحَ تَصفرُ من أجلهِ

في عصفاتِ غضبٍ

لا تنثني.

يبقى السكّانُ

حيثُ هُمْ

في المنازل،

ونحن مُعَلَّقَان

بالهواءِ

طائرينِ وهمِيينِ،

غُرابينِ

تائهينِ،

هديرين

بعيدينِ

مجهولين.

■ ■ ■

كُوّةُ مار مخايل

يتناثرُ القمرُ الكونكريتيّ قطَعًا رماديّةً صغيرةً

فوق كُوّةِ مار مخايل.

يجمعُ الرجالُ قطعَ الرمادِ من الزوايا.

يَقْشطونَ البرصَ عن الجدران.

ثمّ يأتي المسعفونَ

يرفعونَ العيونَ والإيماءاتِ عن جذوعِ الأشجار.

ويضربُ العمّالُ البناءَ مِنْ جانبهِ

كي يُخرِجوا العالقينَ فيه.

وتظهرُ أمامَ أعينِنا

كُوّةٌ عميقةٌ بلا قعرٍ

هيَ الكهفُ الذي دخلَ فيه شفيعُ الحيِّ

منذ مائتيْ عامٍ

ولم يخرجْ

أبدًا.

■ ■ ■

رتابة

الجمودُ هنا ليسَ أبديًّا رَغْمَ دورةِ المناخِ الغريبةِ

التِي تُوحِي بِأبَدٍ يدورُ كَرَحًى سريعةٍ

لا يكسِرُ رتابتَها الزمَنُ.

مطرٌ خفيفٌ وشمسٌ،

مطرٌ مسعورٌ وضباب وشمسٌ،

ومطرٌ خفيفٌ ومجنونٌ ووحشيٌّ،

ونوباتُ بَرَدٍ وعصفُ رياحٍ.

ثمَّ لا يلبثُ أنْ يَحِلَّ على رأسِ المُناخِ طيرٌ

لا يَرَاهُ إلّا قِلّةٌ من العابرين على حدودِ المدينةِ.

قلّة قليلة من أمثالنا،

شمّاعتُها الوهمُ

وثيابُها الغياب.

■ ■ ■

قارّةُ بخار

أيُّ حظٍّ سائلٍ هذا؟

يسألُ فمُك المحجوبُ بالدخانِ

والذي لا يريدُ أن يتكلّم.

وتتراءى بينَنا سماءٌ أخيرةٌ بين الأبنيةِ

يعكسُها ماءُ المكيّفِ المسفوحُ

على الأرض.

قارّةُ بخارِ تتحرّكُ

وتُباعدُ ما بينَ

أطرافِ السماء.

"غيومٌ طويلةٌ" تتحرّكُ

نحو نبتةِ صبّارٍ ساكنةٍ في الحوض.

إنّها نبتتكَ الأثيرةُ،

والوحيدةُ،

والأخيرة.

بطاقة

شاعر ومترجم لبناني من مواليد بيروت عام 1972، ومقيم في أمستردام. صدر له: "أو أكثر" (2000)، و"هل جرحت يدك؟ هل جرحت خدّك؟" (2008)، و"شجرة بيضاء تحاول الطيران" (2010)، و"اقتفاء أثر: مرويات في المدينة والأمكنة والأحياء" (2014)، و"شارع الخامسة صباحًا" (2020). عمل في ملحق "نوافذ" بالقسم الثقافي لجريدة "المستقبل" اللبنانية، وأسّس وترأّس تحرير مجلّة "البوابة التاسعة" المختصّة في شؤون المدينة وبُنيانها.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي