خوارزميّات الآلام

2022-04-14

فراس موسى

هذا دمي أمّاهُ في طست الخلاص محمحِماً

مثل الحصان يدورُ من كأسٍ إلى كأسٍ

ولا يرتاحُ إلا كي يطفّح مرّة أخرى

كؤوسا جفَّ في أعراقها شغفُ الثمالة..

هكذا قلبي تظلُّ طيورهُ

ملكَ الجميع ورخْصة..

مبثوثة بين الدروب الزنبقيّة..

لا تنامُ، ولا تؤوبُ إلى العشاش

لأنّها في شغلها الأبديّ، فاكهة، تطرّزُ

بالدموع دموعَ أسياد البكاء المتخمينَ

بما يرجِّعُ صمتُهم..

أنشودة.. أنشودتين.. نشيدَ إنشادٍ

وأسفارا من الأوجاع يتلو صمتُهم

٭ ٭ ٭

أنا لم أغادرْ كي أعود إلى الصليب..

كأنّني (والكافُ زائدةٌ هنا)

ما زلتُ معتنقا روائحَ غضّة

فاحتْ من الخشب الذي جعلوه مهدي

عندما شقشقتُ في سيل الثلاثينَ المؤوِّبِ..

لم أكنْ طفلا إذنْ..

وعليَّ لم يرنِ النعاسُ المشتهى..

لكنْ لماذا حمّلوني المهدَ في ذاك النهار

وأنعسوني؟

لم أمهمهْ طيشَهم..

لم يمشِ بي إلا سؤالٌ واحدٌ

وأنا أسيرُ على الطريق؛ طريقِ آلامي..

لذا ساررتُ قلبي مثلَ مختصٍّ

يحاولُ أن يربّيَ زادَهُ الفكريَّ

أو أن يحتوي علمَ السلالات العواصي..

يا ترى من أيّ عائلةٍ من الأشجار

قد نحتوا الصليبَ/ المهدَ.. مهدي؟

لم يضعْ منّي، أنا الفادي، سوى صوتي..

لذلك لم أتوّجْ سمعَهم بالنوح.. سمعَ الآخرين عنيتُ..

كانوا يشتهون، وكنتُ أعرفُ، حينها

أن يغرفوا بثّي وإعوالي..

لكنْ لم أذرذرْ آهة…

وطوال دربي المرتقي نحو الخلاص..

الملتقي عند النهاية بالخلود تكاثروا كالنمل حولي

كي يصيبوا بعضَ لهوٍ

أو (يكشّوا) ربّما ضجرَ النهار..

رماحُهم كانت مسرَّحة.. تغازلني

وتلهجُ كيفما شاءتْ بجسمي..

واستطالَ نشيدُ آلامي

لذلك لمْ أصلْ إلا، على خشب الصليب، ذبيحة..

أبتاهُ.. كيف (شبقتني)؟

٭ ٭ ٭

للنسوة اللائي حَفَفْنَ لهاثَ قلبي

بالدموعِ الهامياتِ على الطريق إلى القيامة

قلتُ منحازا لهنَّ: جميعكنَّ الآنَ أمّي..

كيف يمكنُ أن أثيبَ فيوضكنَّ؟

وكيف أقدرُ أن أردَّ، أنا الفداءَ، جميلكنَّ

هناك حين همى كريما..

ذاك الكريستالُ.. سيّالا.. ورنّخكنَّ؟

لا تبكينَ، قلتُ، سوى على الآتي من التاريخِ..

فالتاريخُ منقلبٌ على أسياده وعبيده…

٭ ٭ ٭

عبقٌ وضوءٌ سالَ منها عند جذع النخل

أو في المذود الخشبيّ..

(ما زال الرواةُ يحاولون الاتفاقَ على مكان ولادتي)

هل كان صعبا أن يقولوا أمُّهُ وضعتْهُ دون مضاعفاتٍ؟

ربّما لو أنّهم تركوا الذي اعتنقوا من الضوضاءِ

والكَلِم المغطّى بالجدال وضجّةِ السيف المجوَّع

كانتِ الأحوالُ أفضلَ…

ربّما كانَ انتهى كلُّ الذي قد كانَ في الأرضينَ

بعد ولادتي أو قبلها..

وتبدّلتْ في الحال أمزجةُ السماء

وأمطرتْ جذلا…

أنا، عندَ الصعود وبعدَهُ أو قبلَهُ،

أورثتُ أحفادَ الحواريينَ

جيلا بعدَ جيلٍ/ قبلَ جيلٍ/ كلَّ جيلٍ منهمُ

أورثتهُ اسمي وآلامي وآثارَ المسامير

التي آختْ جزائرَ معصميَّ وساحلَ الرجلين..

قد أورثتهمْ أيضا حواضرَ ندبةٍ

(بحرٌ يهيمُ بها ونهرٌ.. ماؤهُ طهرٌ)

٭ ٭ ٭

تجاسرَ قائدُ المئةِ / الجنودِ وجسّني

ليشيعَ اسمَ الموت في جسدي..

لكنْ لم أمتْ..

أنا كنتُ أنظرُ في وجوه الجند..

كان الشوكُ تاجي..

كنتُ أنظرُ في وجوه جميع مَنْ قد زوّجوني الموتَ..

كنتُ أقولُ.. لا تغفرْ لهم أبتاهُ..

هم لا يجهلون الآنَ ماذا يفعلون…

ولم أجبْ مَنْ قال لي هل أنتَ ابنُ الله

إلا.. أنتَ قلتَ..

ولم أضفْ شيئا لأنّي كنتُ مشغولا

ومنشغلا بحَمْل الماء في ثوبي..

وكنتُ أكاثرُ السمكَ/ الشرابَ/ الخبزَ..

كنتُ أنا الرغيفَ…

شفيتُ أيضا مَنْ أصيبوا بالوفاة وراثة..

نوّمتُ عاصفة..

وفي وقت الفراغ مشيتُ متّئدا على ماء البحيرة

لا لشيءٍ إنّما لأقول للآتينَ بعدَ ولادتي

وأقولَ للآتينَ قبل ولادتي

إنّي أنا هوَ..

إنّني ماشيحكم ومسيحكم..

إنّي المسيّا..

فاصدعوا بقلوبكمْ..

أخلوا سبيلَ صراخكم ضدّي

وإنْ شئتمْ معي..

٭ ٭ ٭

هيرودسٌ ما زال يبحثُ في شوارع بيت لحمٍ

عن عصافيري التي اشتعلتْ كمصباحٍ

سقاهُ اللهُ من أنفاسه..

علّيقةٌ ضاءتْ ولم يمسسْ ذوائبَها هنا

في بطن مريمَ أيُّ نارٍ..

فاستضاءتْ بعد جلجلة الولادة

هذه الأممُ القديمةُ والجديدةُ بي / بها..

٭ ٭ ٭

نورٌ على نورٍ.. ونورٌ تحتَ نورٍ

قد تماهى شكلُ نورينا..

تناسخنا هنا في عتمةٍ ميمونةٍ في بطنها..

كان الزفافُ مبسَّطا..

وبلا حضورٍ، أو شهودٍ، أو صدى..

حرّا، خفيفا..

لا بكاء رغم زلزلة الدموع..

ولا غناء رغم طوفان الأناشيد الرشيقة والأنيقة..

لم يكنْ إلا الذي قد كان..

كان مهنّدسا وبإبرة الفرجار مرسوما

لكنْ.. لم يلجْ شيءٌ

رغم طراوة الأجواء في شيءٍ هناك..

وإنّما ولجَ الكلامُ المصطفى.. رهوا وزهوا..

هل قضى منها إذنْ وطَرا.. ولم يقضِ

الذي قد صرتُ ظلَّ ضيائه

أو صرتُ ضوءَ ظلاله؟

هل صرتُ توءمَه أنا؟

أيضا هنا اختلفَ الرواةُ

على الزمان.. على المكان.. على الرواية

مثلما اتفقَ الرماةُ على الزمان.. على المكان..

على الختام منمَّشا بدمي ولحمي..

مثلما اتفقوا على رَجَمي ورجْمي..

مثلما اختلفوا وهمْ يلقونَ أقلامَ الكفالة…

كلُّهم (طفشوا) من التلمود كي يستنبتوا إشهارَها

ظلّتْ محايدة.. تحيكُ الصمتَ..

صامتْ مريمُ العذراءُ.. أمّي…

لم أصمْ.. بلْ قلتُ ما قد قلتُ

للباكين تحت مظلّة التدجيل حولي..

للذين يمرجحون ثلاثَ مرّاتٍ

صياحَ الدّيك في (الكيبور) فوق رؤوسهم..

لكنّهم قالوا لها: أنّى لكِ الطفلَ المفوّهَ؟

لم يصدّقْ واحدٌ منهم مرافعتي…!

٭ ٭ ٭

على درب الصليب مشيتُ مفتونا بموتي..

كنتُ أمشي مثلَ مَنْ حفظ الهواءَ

وكم سقطتُ إلى العلوّ

ولم يصلْ قلبي إلى الخشب الصقيل

هناكَ إلا كي تضوعَ مواجعي..

وذكرتُ (ديسماسَ) الغنيَّ بجيرتي..

وقبيل إظلام السماء حلَلْتُ صرختيَ الأخيرةَ:

لمّني أبتاهُ، قلتُ، وضمّني..

٭ ٭ ٭

ما زلتُ أذكرُ رحلتي الأولى

إلى مصرَ الجميلةِ..

كنتُ أوّلَ لاجئٍ..

لكنّني ما عدتُ أذكرُ جيّدا

كم مرّة قد متُّ في ذاك النهار على الصليب!

شاعر فلسطيني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي