دخلتُ البستان، يدي في يد ابن عربي

2022-04-13

عاشور الطويبي

1

"وأعْيُنُ الكون خلفَ الستر ناظرةٌ"

ابن عربي

كلّ حجرٍ في الواو*، أغنية في صدر الرمل

كلّ رجفة غصنٍ حطّ عليه طائرٌ، أغنية في صدر الليل

كلّ دربٍ خطّه النملُ المثابر، أغنية في صدر صيّاد غريب

كيف، إذن، أفهم دويّ الطبول وراء الجبل؟

كيف أرى عريها الشاحب في الشمس؟

كيف تنهض من موتها السحبُ والنيران؟

* الواو، عند سكّان الصحراء الكبرى، الطوارق: الواحة الصغيرة

2

"النساء: الأنوثة السارية في العالم"

ابن عربي

لقد رأيتُ ماءً يسقط من أسفل

رأيتُ بيضة تفقس في ماءٍ مالح

رأيت ظهرها، إذ نحن عند حاشية الجرف،

برقاً يلمع كان

وله شميم القرنفل في صباح طرابلس البعيد!

لا يلتفتُ الوقت إلّا لخازن الحكايات

أو لرضيعٍ يضحك في البراري.

حين لمحتها، كانت تتقلّب على الأكفّ، تطلب الوصل

ليس أكثر من نفرة فرسٍ ونواح درويش في حضرة

كنتُ أسمع شهقتي وشهقتها تكبران

آهتانا تجلسان على حجر في أوّل الدرب

الصمت يراود البحر

الموجُ يعلو كلّما هزّت الريحُ ثنيةَ الفستان الأزرق

لقد ضجّت البيداء باللذّة العظمى!

3

"مَن قال ما رأيت إلّا الله صدَق

ومَن قال ما رأيت إلّا العالم صدَق

ومَن قال ما رأيت شيئاً صدَق"

ابن عربي

لن يخرج من الصحراء بعدُ!

ليس قبل أن يستقيم الظلّ وتهرب السحالي

عيدان طوّحت بها ريح شرقية، أخذتها من فمٍ غَصّ بالكلام

خرّ المطرُ أمامها ساجداً، نقل الغيم أخبارها إلى التلال والوديان

كانت كلّ صباح تجمع الضحكات، ترتّق أخيَلة وتحدّق في أوّل القادمين

ليس بعد! يقول الذي رافق العطش فيهم صغيراً وخاطبَ دبيب الأرض

لم يكن سيفاً ما رفعه في وجوههم!

"للحمِ الحمَل الصغير طعمُ المرارة"، قالت أمّه

"ماذا عن لحم السجين في الزنازين؟"، سأل

"ستعرف هذا بعد حين"، قالت أمّه

متى تتوقّف القوافل عن المجيء إلى هذه الصحراء الملعونة؟

حين تنشقّ في جسد السماء عينها؛ ترفع الغزالة قميصها المضرّج بالدم علماً

حين ينهض النائمون، الميتون؛ تنهض الجهات الواسعة والضيّقة

حين يفتح كلّ جدار فمه؛ يفيض بالكلام

حين تقول الأرض لقد اكتفيت؛

لا مزيد، لا مزيد!

4

"الإنسان محجوبٌ بهواه متعشّقٌ به"

ابن عربي

أضع يدي على وجه البحر!

أمشي على الشطّ، تتبعني السلطعونات

تتبعني خنافس البرّ وخنافس البحر

لن ننظر إلى أعلى فتلسعنا الشمس

لن ننظر إلى أسفل فيجرفنا الدُّوَار العظيم إلى شقّ في الجبل

هواي الذي حميته بالطين، سيخونني يوماً

أقذفُ به في النار وأنتظر ساعة الحمحمة!

سيخرج من طيني قوم لن أحبّهم ولن يحبّوني

سأرميهم بالحجارة والكلام البذيء

لكنهم سيقتلعون رأسي وعينيّ

سيقتلعون هوايَ سيقتلعون بصيرتي

سيبنون عليّ ضريحاً كبيراً

يجعلون من جسدي حقلَ فول

يغلون الماء في القدور

لكنّهم سينسَون اسمي الذي وهبته لهم

سيرفعون رأسي رايةً لهم.

5

"جميع العالم في جوف العرش إلّا الأرض فإنها مقرّ السرير"

ابن عربي

السرير، فيه تصحو وتنام الكائنات

يجلس على السرير، يشير بإصبعه:

هنا زرعتُ الحيرة في الطين،

هنا تنهض بين الجذور ضفادع الكلمات،

هنا تغيب الأفكار في زرّ ياقتي.

لن يلتفت أحدٌ منهم

لن تلتفت واحدة منهن إلى غريم الملك

هذا وقت حلْب البقرة! يقول الخادم

هذا وقت حلْب الرجال الجوّف، يقول الملك

ألم تشرق الشمس من سرير يشبه هذا السرير؟

هذا سرير تغرب فيه الشمس ومَهمهٌ ضحضاحٌ غريب!

كانت السنابل أُوْلى النباتات التي نزلت منه

كان لها ألسنةٌ وأسماع تقرأ بها الليالي

الماء حصيرة النوارس والحجارة أبراج السراب.

حسبك وحسبي شرائح خبز بالزبدة وصباح نديّ عادي!

مَن وضع الكرسي أمام الباب؟

6

"ما لأرض الله واسعة، وسماء الله تنكحها"

ابن عربي

أصابع الجنود الموتى، ما يصل إلى السماء

الجنادب تقفز في عالمها لا تنظر إلى أعلى

حتى الأشجار التي أخرجت صمغها، اهتزّت أوراقها قليلاً

في الحقول البعيدة، يقولون:

الليل زارع حنطة

يمدّ أطرافه المبلولة إلى قناديل معلّقة على أذرع النائمين

لا يدخل البيوت التي تتبادل الضحكات خِفيةً

لا يميل على القرى أسفل التلال الرطبة

فقط العجائز حارسات البيوت مَن يَحكْن

لليل قفطانه

للنهار العجول طاقيّته البرّاقة.

كيف نبيع السماء لميتٍ في الوادي؟

كيف نكتب على آماقها بالإبر حكاياتنا ولا ترمش لها عين؟

كيف تجعل السماء من البحر سارق نار ومن النهر بوّابة للأحزان؟

لكننا ــ تقول العجائز الحارسات ــ نلتقط ما يتساقط من أصابع الجنود الموتى

نضع الألواح في التابوت العظيم!

7

"ما ثمّ بيداء ولا مفازة سواك"

ابن عربي

أجلسُ في هذا الركن، على حافّة الشمال الأفريقي،

نافذتي مقفلة، الباب المفضي إلى الشرفة مقفل،

فقط أصوات البحر، كأنه يبكي، كأنه ينادي على أبنائه الضائعين!

ثمّ ماذا؟ لا شيء، الموج يعلو كما تعلو موسيقى مقام الإصبعين

فيرشّ بائع النباتات العطريّة رشّات العطر أمام دكّانه

يمسح بكفّه الناعم الشرطي شريطاً فضّياً على ذراعه.

في الأزقّة الضيقة للمدينة الملعونة، تتناسل ظلال تأكل البقلاوة ومخروقة القاضي

لا أحد يخبرنا من أين جاءت حواء علجية، لماذا تدخل البيت العالي خفية

وحيدة تفوح منها أزهار الشفشي والجداري!

هاتِ يدكِ يا طفلة

أرى ما يسكن على كفّك الناعم الرقيق!

ماذا نسيتِ في خزانة أمّك في غدامس، يا طفلة؟

دمية قدّمتها إليّ مطربة الأفراح ومكحلة بحجم نواة بلح.

ستحملين بحراً وتمشين في حديقته سمكةً مَلَكية.

8

"فجعله كهيئة المكنون"

ابن عربي

الكافُ جبلٌ تسند ظهره الجِنّ

الكافُ صُلْبُ إلهٍ طرحه في بيداء شاسعة ومفازات موحشة

صهيل ٌحارٌّ في صدور خيل تقطر من قوادمها الدماء

الكاف أيضاً رعشة غرمول في قصبة طريّة

لكنْ لا تحسبنّ أن:

الرملُ كافٌ، الندى كافٌ والقتلى في الوديان كافٌ!

اضرب بيدك على صدرك أو اطرح كلماتك في البحر كما تطرح امرأة وليدها!

هل تشعر بالألم يسري بين السرّة وصاحب التاج؟

ذلك هو المكنون في البرّية

المكنون في كلّ كافٍ قطّعته النمال عند الغسق!

قال الذي أتى بالأخبار: لقد وجدتُ في الماء ثقباً وفي الرمل ثقباً

- هل دخلتَ في أيّ منهما؟

- لا، لم أدخل لكني تبعت شمساً صغيرة

ثم صارت تكبر وتكبر

رأيتُ كلَّ ما حولي يحترق،

الجبال تتهشّم كما يتهشّم المِلح

ثمّ كان ظلام يلفّ كلّ شيء، فمشيت

إلى أنْ رأيت ناركم.

9

"هو طالبٌ في الماء جذوة نار"

ابن عربي

ذاك ما يفعل السجين في زنزانته،

ذاك ما يفعل الغريب في منفاه

ذاك ما يفعل الهارب أينما أخذته أرضٌ أو سرير شهوة

كلّما لمحتُ رجفةَ ورقةٍ على غصن

أو سمعتُ آيةً في برّية، عرفت

أن الكلمة القاتلة في ناب ذئب

أن السفينة قد ترنّحت على قرن ثور

أن الفيافي في وجدانها انطفأ فتيلُ السراج

هذه أصابعي غرستْها الوساوسُ في ماء الدهشة

كيف أطلبها؟

المسارات تعشّبتْ بالجبن والبخل والدماء

ويحَ قلبي!

أهذا كلّ ما تبقّى في قِدر الأبدية؟

10

"سدّ الشكل الكرويّ الخلاءَ فلم يبق خلاء"

ابن عربي

أنت

حيث وقفت في الدائرة!

السهمُ الذي لا يرتدّ

عينه في الديجور

النهرُ الذي لا يتلوّى

لم يبلغ رشده بعد

لن أقوّس السؤال على حبّة بازلّاء

لن أجلب السكارى إلى بستانٍ في الخلاء

سأكوّر يديّ وأشرب القهوة باردة

سأتبع رائحتها إلى حيث ترحل

لعلّي أجدُ سلّماً يفضي إلى دهشة الكائنات

لعلّي أقبض على أثر الأرضة في بيت الدائرة

الآن أرى عازف الغيطة 

ذاك الذي يرقّص بإصبعين غربال الكون.

11

"السماع المطلق لا يمكن تركه"

ابن عربي

كلّنا نأخذ من السماع ما يلي القلبَ

أمّا ما ابتعد أو خالف أو نفر

تلك ساحة قومٍ يعرفوننا ولا نعرفهم

أذكُر كيف وقفتُ يوماً أمام بحر صبراتة

قدماي الحافيتان تلمسان رمل الشطّ

تلمسان نبض أعشاب أتت من مكان قصيّ

هل كنتُ أسمع البحر وأمواجه الهادرة؟

أم أسمع ما يتشرّب جلدي من موسيقى ذاك النبض الخفيّ؟

لم تكن في شكل لحن ولا في شكل كلمات

كنتُ واقفاً حيرانَ ينصتُ، حين مرّت طفلةٌ

تلوّح بيدها في الهواء إلى شيء لا أراه

طفلة ألقت مرساة ضحكتها العذبة

تحت قدميّ الحافيتين ومضت

تركض خلف أمّها

خلف فستان يفوح من ثنياته العطر والأنبياء.

12

"مددنا ظلّنا لحجاب غصن"

ابن عربي

"أيُّنا مدّ الظِلّ وأيّنا حجبَ؟"، قالتْ ثم استدارتْ ناحية البحر

زبدُ بحر غير بعيد، رفّة جناح نورس وخميرة في دورق فخّار

"أعرف كيف أعدّ أنفاس الموج!"، قلتُ وقد وقفتُ لأذهب

"كيف تفعل ذلك؟"، قالت وقد استدارت ناحيتي

مثلما تخرج الزبدة من الحليب، الخمرة من العنب، الدمعة من الشجرة،

الصبر من الحجر، القول من الأذن، النار من الهشيم، الشوكة من الرمل،

الليل من القمر، الشمس من القنديل، اللحن من الطين، الطائر من الشهقة،

البحر من الصدفة، السماء من الجلد، الثور من النير، الطاحونة من الخوف،

المطرقة من اليد، الجرح من القدم، التين من الزيتون، الشال من المقصلة،

الميت من الحي، النهر من العين، العشّ من البيضة، الفوق من التحت،

الفرس من الصهيل، النواح من الألم، السكينة من الشاي، الرغبة من الكفر،

الريح من الكهف، المُلك من المُلك، الشعب من الغفران، اليوم من الغد،

الأمس من النسيان، الصوت من الرقص، الشيء من الشيء، الشيء من الشيء.

13

"إنْ قامَ قامَ به، أو راحَ راحَ به"

ابن عربي

لا فكاك!

تبدأ الأغنيةُ قطرةَ ماءٍ على ظهر سلحفاة

ثم تكبرُ وتكبرُ حتى تصير ذاكرة هشّة في قلب حجر.

الحامل في الأولى والحامل في الآخرة واحدٌ!

كلٌّ يمدّ

على الأرض بساط لحنه

على السماء جناح لحنه

ما تحمل بين كفيّك يا رجل؟

أحمل ريحاً خؤونة وبدراً مشقوقاً

ماذا أيضاً؟

راية حرب قديمة جديدة

رسالة من جندي ميت

نواحَ أمّهات من قرى منسيّة

هل تكفي كفّان لكلّ ذلك؟

ألا يسكن الله في حرف وفي إيماءة؟

14

"الكيان عجيب في تقلّبه"

ابن عربي

قبرٌ بجناحين أم قبرٌ بين ضلفتي باب؟

المياه التي سالت بين أخفاف الإبل

جفّت

الحجارة التي راقبت القوافل تختفي في السراب

شقّت قلوبها الأحزان

التنانين حضرت عرس الراعي

صدحت عالياً بالغناء

البلاد شهوة كثيب

البلاد رشفة غزل في مسبحة

حسب الراحل

مصائدُ فمها مفتوح على الوهم

وترٌ رنينه الريح

حسب الراحل

أن يجلس على حجر وينتظر القافلة

أن يشعل النار للغرباء

أن يَسأل ولا يجيب

أن يحمل قلبه بين سبّابتَيْن.

15

"والأرض من حذرٍ عليه ساهرة"

ابن عربي

سترة الليل

صمت تدحرجه الكائنات بين أقدامها

كلّ يأخذ حاجته

حاجته بين يدي بائع التين

كلّ يجد سبيله

سبيله بيضة رخّ فوق جبل

لا يستنير أحدٌ بليل

لا بشمس جاءت في غير وقتها

خُمارُ السكران مرتقاه إلى الغرفة العالية

لعازف الناي رنينٌ يرتطم بحجارة الشارع

للعارف مِزقةٌ من فستان الكون

للجاهل مِزقةٌ من فستان الكون

الكلّ عريان والبحيرة عميقة والكثيب عالٍ

لا تضع سلّمك على أرض ترتجّ

لا تضع التفّاح في سلّةٍ ترتجّ

الزلزلة لا عين لها حبيبي

الوسنان لا صوت له حبيبي.

شاعر من ليبيا







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي