«نحو الجمال» للروائي الفرنسي دافيد فوينكينوس: محاولة تجاوز الألم باكتشاف الجمال

2022-04-06

 محمد عبد الرحيم

«عندما قرر أنطوان الهروب، لم يربط أحد ذلك بانتحار كاميل… وقد ذكر حينذاك أنه بصدد مشروع كتابة رواية لا يمكنها أن تنتظر. غير أن الحقيقة كانت شيئاً آخر تماماً. كان جسده يحترق من الداخل، وكان الجمال وحده هو الذي يمكن أن ينقذه» (الرواية)

دافيد فوينكينوس ـ مواليد 1974 ـ من أكثر الروائيين الفرنسيين أثراً وصيتاً هذه الفترة، خاصة وقد لاقت رواياته الكثير من النجاح، حتى على مستوى اللغة العربية التي تمت ترجمته إليها من خلال عدة أعمال، نذكر منها.. «الطاقة الإيروسية لزوجتي» 2008، «الرّقة» 2014، «إني أتعافى» 2015، ومؤخراً روايته «نحو الجمال» 2021 ـ هذه تواريخ الترجمات العربية وليست وقت صدورها في أصلها الفرنسي ـ وعبر هذه الروايات ينتهج فوينكينوس النهج نفسه، بالتعبير عن حيوات بسيطة عادية، تكمن فيها المفارقات والمأساة الإنسانية، ومحاولة تجاوزها عبر الاعتراف بالألم، دون نضال أو تباهٍ زائف. كل ذلك بعيداً عن صخب سياسي أو اجتماعي أو تاريخي يثقل الكثير من الأعمال الروائية، محاولاً إضفاء شكل من أشكال الجديّة والعمق، وهو في الأغلب كاريكاتيري أكثر من كونه هماً حقيقياً يريد المؤلف أو الكاتب التحدث من خلاله.

وفي روايته الصادرة بالعربية مؤخراً «نحو الجمال» ضمن سلسلة إبداعات عالمية، عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت ـ عدد ديسمبر/كانون الأول 2021 ــ ترجمة محمود المقداد، ومراجعة منتجب صقر، يواصل فوينكينوس لعبته الأثيرة بسرد حكايته كعادته عبر معاناة شخصيته الرئيسية (أنطوان دوريس) ومن خلاله يتم سرد معاناة شخصيات أخرى، ربما أهمها والتي احتلت أكثر صفحات المتن الروائي شخصية (كاميل بروتان) التي دفعت حياتها ثمناً لحالة الجمال، التي كان يبحث عنها أنطوان طوال حياته.

يهجر أنطوان عمله كمدرس لتاريخ الفن في مدرسة الفنون الجميلة، ويعتزل العالم، معتكفاً في متحف أورسيه، مكتفياً بالعمل حارس إحدى قاعات العرض، محاولاً العيش بين اللوحات عوضاً عن حياة لا تُحتمل كما يعتقد. وتشك مسؤولة التوظيف (ماتيلد) في ذلك الرجل، الذي تبدو مؤهلاته أكبر بكثير من الوظيفة المتواضعة المتقدم إليها، لكنه وجد ضالته في الحديث إلى اللوحات. وجاءت مصادفة عرض مجموعة لوحات لموديلياني، الذي كتب أنطوان أطروحته عن أعماله، ولم يتمالك نفسه وهو يستمع إلى أحد مرشدي المتحف وهو يحدّث الزوار عن موديلياني، خاصة لوحة (جين هيبوتيرن) عشيقته التي انتحرت بعد موته، ليكشف معلوماته الضحلة والمغلوطة. وبالتواصل مع ماتيلد أكثر، يتفقان على الذهاب إلى باريس في رحلة، وقد قرر أنطوان العودة أخيراً.

مدرسة الفنون

يتوقف الزمن هنا عند مقبرة تحمل اسم (كاميل بروتان) ليستعيد أنطوان حياته كمدرس للفن، وسبب الأزمة ـ سبب ظاهري حتى الآن ـ وقد انفصل عن حبيبته (لويز) التي ارتبطت بآخر، باحثة عن حياة مستقرة. بعدها يحاول أنطوان البحث عن الانشغال بأخرى، ولم يجد سوى (سابين) زميلته في العمل، لكنه يجد نفسه شخصاً آخر، عنيفاً وفجاً، وكأنه يحاول الانتقام من كل إحباطاته وفشله في شخص صديقته الجديدة، التي ينفصل عنها في هدوء، ليجدها تقدّر ذلك تماماً. لكن.. هل هذه فقط هي أسباب الهروب، كما كان تعلله الواهي بأنه اختار العزلة حتى يتمكن من كتابة رواية؟

كاميل بروتان (1999 ــ 2017)

في هذا الجزء نتعرف إلى حكاية (كاميل بروتان) الاسم المذكور فوق المقبرة، التي كانت السبب الأعمق في فرار أنطوان، وتركه عمله وحياته التي لا يعرف غيرها. وتتخطى علاقة أنطوان وكاميل علاقة أستاذ بتلميذته في كلية الفنون، هذه الفتاة التي كانت موهبتها في الرسم تفوق سنواتها الثماني عشرة. صامتة أحياناً، وكأنها تعيش عالماً مختلفاً عما يدور حولها. لكن لماذا تحمل رسوماتها كل هذا الجمال؟ هناك روح مختلفة، تكويناً ولوناً، إلا أن وراء هذا الجمال روحاً قلقة مُعذّبة، لا تستطيع أن تهدأ رغم أنها تجاهد من أجل ذلك. حادث اغتصاب من قِبل أحد أصدقاء العائلة قلب حياة الفتاة، ووضع حداً لها قبل أن تنتهي بالفعل، وربما كانت لوحاتها فقط هي السبيل الوحيد لاستعادة التوازن، أو تعبيراً عن الغضب تجاه العالم، خاصة أنها صمتت عن الفِعلة بعد تهديدها من مغتصبها، وراعيها الأول في الفن، الذي جاء ليحكم على تجربتها، ومتحججاً بمساعدتها.

ونعود إلى فرار أنطوان، الذي علق على بحث قامت به (كاميل) ووجد أن ذهنها المشتت ربط في الحديث بين (إدفارد مونخ) و(سلفادور دالي) فكتب عبارة.. «خارج المطلوب». بعدها يعلم بانتحار كاميل في اليوم نفسه. فيعتقد أن نفسيتها لم تحتمل، وأنه سبب في ما حدث لها.

وبعد عودة أنطوان بصحبة ماتيلد، يصر على زيارة بيت كاميل، ويعلم الحقيقة ويدخل غرفتها باحثاً عن كنوزها التي أنجزتها (اللوحات) ليقيم لها بالفعل معرضاً في صالة باريسية شهيرة، وليظل بمفرده بعد انصراف الجميع، جالساً أمام لوحة تمثل صورة ذاتية لكاميل، هامساً إليها كما كان يفعل مع لوحة جان هيبوتيرن لموديلياني.

قربان الجمال

في فيلم «الجمال الأمريكي» 1999 ـ بالمصادفة تاريخ ميلاد كاميل ـ لم يجد الشاب صاحب الكاميرا سوى الاحتفاء بمشهد لا يمكن احتماله من الجمال، ورقة تتطاير بفعل الهواء، فرغم الهواء الذي يتلاعب بها، إلا أنها تقاوم أولاً، ثم يبدو جمالها في ما يفعله بها الهواء، حتى تبدو بهذا البهاء، وتختلف عن مثيلاتها. القلق وعدم الهدوء والاستقرار، الصراع الدائم رغم تفاوت القوى، وأخيراً استعراض هذا الصراع، ولا يختلف الأمر عن مشهد رصدته الكاميرا، أو لوحة رسمتها روح أخرى تتشابه في المصير. وتبدأ التساؤلات بعد الانتهاء من الرواية.. فما بين حياة موديلياني وحياة كاميل الكثير من المعاناة، لكن هذه المعاناة نفسها هي سبب هذا (الجمال) الذي ذهب خلفه أنطوان ــ الحياة بين اللوحات ــ ليتجاوز أزمته، أو يحاول إعادة ترميم حياته. فهل قدم أصحاب الأعمال الفنية الحقيقية حياتهم الزائلة قرباناً لفن سيعيش أبداً، وهل سيصبح وحده القادر على شفاء آخرين؟!

كاتب مصري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي