بغداد/ الكوردينيا

2022-03-30

 منصف الوهايبي

إلى روح شاكر مجيد سيفو (1954/2022)

هل كان يحرسُ نومَ وردتهِ؟

أم كانَ، في عينينِ باردتينِ، يأسِرُ ليلهُ؟

الليلُ.. بغدادَ الثمانينات.. نَصْلُ البرق من أقصى الجنوبِ.. يشقّها.. طولاً.. وعرضاً.. والعراقيّونَ من عربٍ وسريانٍ وأكرادٍ… يعيشونَ الحياةَ بطولِها وبعرضها..

وكأنّ شيئا لم يقعْ..

ـ هلْ أنتَ حقّا أنتَ؟ إذ تُبْلى السرائرُ؟

ـ لا تخفْ.. هذي شواظٌ من نحاسٍ.. كانَ يرسلُها الشعوبيّ الأخيرُ..

ـ وهذه؟

ـ طُرُقٌ تقودُ إلى بساتين المحلّةِ..

ـ ما تبقّى من دِياراتِ العراقِ؟

ـ وما الذي منها تبقّى؟ الأرضُ في بغداد تنْشِفُ ماءَها.. من أيّ وجهٍ جئتها.. من أيّ باب.. لا ترى إلاّ المزاراتِ المدافنَ.. جئتَها من بابِها الشرقيِّ.. من بابِ المعظّم.. من علي بَابَا.. من السعدون.. رأسِ الحواش.. بابِ الشيخِ.. من عِقْدِ النصارى.. ساحةِ الفردوسِ.. أو من ساحةِ التحريرِ..

ـ و»الكَارْدِينِيَا»؟

ـ سقْفٌ سماويٌّ لأهلِيهَا.. لهمْ أزهارُه بيضاءَ.. أو أوراقُهُ خضراءَ..

ـ لكنْ أين سِتّينيُّهَا؟

ـ مَنْ؟ أيّهمْ؟

ـ أنا لا أسمِّي منهمُ أحداً.. شيوعيّينَ.. بعثيّينَ.. قوميّينَ.. أو حتّى بُوهِيميّينَ..

كُلّهمُ أحبَّ عراقهُ.. له وحدهُ..

بغدادهُ.. ظلاّ لهُ..

كلٌّ لهُ من حزنِ سمعانٍ، جنونُ الديكِ.. أو قدّاسُهُ..

لا شيءَ من ضحكاتهمْ..

للشعرِ.. عاليةً.. لغيفارا بقبّعةٍ.. وسيكارٍ.. ومن أصواتهمْ سوداءَ.. أو بيضاءَ..

آنَ شجارهمْ..

ـ واليومَ؟

ـ رَسْمٌ دارسٌ.. خمّارةُ العهدِ القديمِ..

ـ النهرُ؟

ـ أسودُ.. راجعٌ في قيئه.. أسماكُهُ.. القططُ.. الكلابُ.. الريشُ.. أحذيةُ العساكرِ.. والخراطيشُ..الصديدُ.. النهرُ غيرُ النهرِ.. لا قمرٌ لهُ.. مِن أمّهِ «كَلَخُو»..

سوى هذا النحاسيِّ الذي ما زال يَصْحَبُهُ إلى أنْ يلتقي والشمسَ في بغدادَ.. بعد دوامِهَا..

قمرٌ ولا عينٌ له.. فضيّةٌ.. كانت تنيرُ لنا..هنا.. وَلَهُ.. صحيفةَ وجههِ..

لا زُمّجُ الماءِ، الضحوكُ.. مُلاعباً أنثاه.. في غيمِ الصباحِ.. ولا الصبايا عندهُ..

لا الماءُ يجري ها هنا في مائهِ..

ـ الشعراءُ؟

ـ في عرباتِ ريحٍ.. لا طريقَ لها.. وأجسادٌ تُطلُّ بلا عيونٍ.. من مُشبّكِها..

بمَاذا يحلمونَ؟ الحلمُ حيناً..ماءُ ذاكرةٍ.. وحينًا سَلْحُها..

والشعرُ مثل الألزهايْمرِ.. أنت تعرفُ كيف يبدأُ يا ابنَ سيفُو؟

حين يغدو الحلمُ واقعةً.. وذكرَى..

حيثُ كلّ قصيدةٍ.. مِنّا.. مُسوَّدَةٌ لأخرَى.. لا تجيءُ..

***

هلْ كانَ يحرسُ نومَ وردتهِ؟

أمْ كان يطبخُ حزنهُ في قِدْرِ جدّتِهِ؟

وله جنائنُهُ معلقةً على كَتفَيْهِ..

أم هلْ أنّه نومٌ سُباتٌ.. قادمٌ من ليلِ «بَغْدِيدَا».. ومن أصيافهِ في نينوى

أم أنّه قمرٌ نحاسيٌّ.. سعيداً في استضافته تدلّى فوقه..

من ليلِ بغدادَ الثمانيناتِ.. حيث لَقِيتُهُ

فأضاءَني .. وأضاءَهُ..

***

والآنَ في نَاوُوسِهِ.. جسداً من الصلْصالِ.. لا نومٌ .. ولا حلُمٌ..

لهُ مَدُّ العراقِ.. وجزْرهُ..

وَلهُ وصايا الطيرِ وهي تموتُ في بستانِها..في أُورَ:

أنْ حافظْ على لغةٍ تُدوّمُ في سماءِ النهرِ.. سريانيّةٍ.. عربيّةٍ.. إنْ شئتَ..

واقرأْ لوْحَ سُومَرَ.. باسمِها..

لا مَركبٌ لِـ»أتونبشتم» في انتظاركَ.. كي تنامَ بهِ.. وَلوْ سكرانَ.. (مثل صديقنا سركون).. لا وقتٌ.. لترشقهمْ بِعظْمَتكَ الأخيرةِ..

إنّما.. يوماً.. على يَبسٍ تجيءُ سفينةُ الطوفانِ..

يومًا.. للعراقيّ الحزين.. منارةٌ في موجهِ الطامي.. تضيءُ..

*بغديدا أو بخديدا: مدينة الشاعر

شاعر وكاتب تونسي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي