عن حكاية «الشرق والغرب» والأسئلة المؤجلة

الناقد الجزائري محمد كاديك: التخلص من هيمنة الحضارة القائمة أقرب إلى الخيال

2022-03-25

حوار: فريدة حسين

ليس في الإمكان «كسر نمطية الغرب»، ولا الإنكار بأن المنتج الحضاري حاليا، غربي بالضرورة، لأن الغرب (إن اتفقنا على التصنيف) لا يقدم نموذجا ساكنا هامدا، وإنما يعيد إنتاج الأفكار بطريقة دورية، ويحرص على «النقد الذاتي» و«التقييم» و«التقويم» بشكل دائم، بينما نبني ما نعتقد أنه «دفاعاتنا»، على مغالطات وأوهام نصطنعها كي نسوغ لأنفسنا ما ينبغي لنا من «قيادة الإنسانية».  هذه جزئية عالية من الدقة في حصيلة الشرح والتشريح الذي قدمه الباحث والناقد الجزائري محمد كاديك في حوار طويل مع «القدس العربي» حول قضايا راهنة تتعلق أساسا بـ«الشرق – الغرب»، «الأنا والآخر»، «الاستشراق – الاغتراب»، وغيرها من الأسئلة التي تستوجب الطرح قبل الإجابة عنها..

هل من الممكن أن تبسط لنا حكاية الشرق والغرب؟ وما موقع «الأنا» و«الآخر» فيها؟

يبدو أن حكاية «الشرق والغرب» ما تزال متواصلة في الفكر العربي عموما، رغما عن الإبهام والغموض الذي يحيط بها، وهي قد تنتج قضايا فعلية أو وهمية، وفق طريقة المعالجة، ومن ذلك أننا يمكن أن نجد هذه مسألة تطرح على أساس الفوارق بين ممثلي الحضارات، أو تطرح ضمن الحاضنة الحضارية الواحدة، ولا تختلف مسألة «الأنا والآخر»، فهي تتفلت من كل إحاطة بالتعريف، لأنها تتهيأ لـ«الذات» وفق وجهة نظر محددة، لا توافق باقي وجهات النظر بالضرورة، وهكذا، نطرح مسألة «الشرق والغرب» على المستوى الحضاري، فيتمثل «الآخر» في صورة المهمين الذي قد يساعد «الذات» على تحقيق وجودها، أو يكون المانع لها عن كل أسباب الوجود، كما يمكن أن نطرح المسألة ضمن الحاضنة الحضارية الواحدة، الحاضنة العربية مثلا، فتتولد أمامنا قضايا مختلفة تماما، مثل تلك التي أثيرت حول «شرق العرفان» و«غرب البرهان»، وذهب فيها محمد عابد الجابري إلى الحديث عن «قطيعة معرفية» بين الفكر الفلسفي عند عرب الغرب، ونظيره عند عرب الشرق.. وهذه تبقى قضية «شرق وغرب»، حتى إن تزينت بزخرف من القول يميل إلى الاصطلاح بـ«المغرب» و«المشرق»، وهذا يعني أننا، في الجزائر على سبيل المثال، نمثل الشرق على المستوى الحضاري الكوني، ونمثل الغرب في حاضنتنا الحضارية الخاصة، وموقعنا هذا يتأسس وفق حسابات خطوط الطول فقط، وهي وهمية على كل حال..

فإذا أضفنا إشكالية «الأنا والآخر» يتضح لنا أننا نبحث عما يحقق لـ«الذات» طموحها وتطلعاتها، باعتبارها على صواب، في مقابل «الآخر» الذي يمثل العائق والحائل أمام كل طموح، وقد يكون واضحا هنا أن مسألة البناء الحضاري عندنا، غير متعلقة بالعلاقة الجدلية بين «الأنا والآخر» بقدر تعلقها بفكرة «التعارف» بما هو قيمة إنسانية عليا، ثم إن قضية التقدم ـ في جانب واسع منها ـ متعلقة بمدى قدرة الأفكار على الاستقرار في الوسط الاجتماعي، وهذه يصفها مالك بن نبي بأنها يمكن أن تفقد معناها الثقافي وقدرتها على إبداع الأشياء، وتكتسب وجودا صناعيا غير تاريخي، ومن ذلك أن تراث ابن خلدون ظهر في العالم الإسلامي، ومع ذلك لم يسهم في تقدمه العقلي أو الاجتماعي..

في هذا المقام، يمكن أن نقول إن مسألة «شرق وغرب» ومسألة «الأنا والآخر» إنما تأسستا في حاضنتنا العربية مع الوعي بـ«النهضة» الذي تأسس هو الآخر ـ كما يقول الجابري ـ على الإحساس بالفارق بين واقع «الانحطاط» الذي نعيش، وواقع «النهضة» الذي يقدمه أحد النموذجين: العربي الإسلامي في الماضي، والأوروبي في الحاضر، ونستطيع أن نرى بوضوح أن هذا «الوعي بالنهضة»، في حاضنتنا، لا يتعلق بواقع تحقق، مثلما كانت الحال في أوروبا، وإنما بواقع مأمول أو مشروع مستقبلي يصفه الجابري بأنه يطرح على صعيد الذهن والوجدان كبديل للحاضر غير المرغوب فيه، وبالتالي، يمكن أن يصطنع بعد المعاذير للإخفاق، ما دامت «الأنا» تعتقد أنها تمتلك الحقيقة المطلقة.

لا يمكن أن نسلم بشيء أحدثه «الاستشراق» في الجسد العربي، وحتى وإن تحدث كثيرون عن «ضرر» مفترض للمستشرقين قصدوا إليه كي ينالوا من المسلمين، وهذا طبيعي جدا في سياقه التنافسي، أو حتى في السياق الكولونيالي، غير أننا يمكن أن نلمس كثيرا من النفع في أعمالهم

بحكم التسليم بما أحدثه «الاستشراق» في الجسد العربي، هل تعتقد أن «الاستغراب» بحثٌ عن رد الاعتبار؟

أعتقد أننا لا يمكن أن نسلم بشيء أحدثه «الاستشراق» في الجسد العربي، وحتى وإن تحدث كثيرون عن «ضرر» مفترض للمستشرقين قصدوا إليه كي ينالوا من المسلمين، وهذا طبيعي جدا في سياقه التنافسي، أو حتى في السياق الكولونيالي، غير أننا يمكن أن نلمس كثيرا من النفع في أعمالهم، ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أننا لم نكن لنعرف بوجود ابن خلدون لو لم يشتغل المستشرقون عليه، وقد تمكنت خزانة التراث العربية من معاودة اكتشاف ذخائرها بفضل المستشرقين.. لا يمكن التسليم الإطلاقي إذن، فإن كان هناك عدد من الأعمال الاستشراقية «الكيدية»، كمثل ما أقدم عليه تيودور نولدكه، حين حرف كلام ابن النديم في «الفهرست» من أجل تخريج وهمي لما يعرف بقضية «مصحف ابن مسعود»، فإن هناك أعمالا كثيرة جادة، والقارئ، على كل حال، ينتفع من قراءة كل شيء، بل إن ما نصفه بأنه (كيدي)، هو أكثر فائدة للقارئ الناقد الذي يعرف كيف يتعامل مع المعلومة وفق منهج مضبوط.. أما «الاستغراب»، بما هو تحويل الغرب من «ذات دارس ومسيطر ومهمين إلى موضوع درس للأنا العربي»، كما لخصه حسن حنفي، فيبدو لنا تعبيرا واضحا عن ذلك «الوعي بالنهضة» الذي ذكرناه آنفا، ولسنا ننكر عليه حسن النية، ولا التوثب إلى تحقيق الأفضل للحاضنة العربية، ولكنه يضع نفسه في طريق مسدود، إن حرص على «رد الاعتبار»، لأن قضايا الحضارة متعالية عن سلوك الأفراد، وعما يختلج في أنفسهم من فرح وسعادة وغيظ وغضب.. أعتقد أن البناء الحضاري حاليا يحتاج أساسا إلى ترجمة المعارف إلى اللغة العربية، والحرص على النشر الأفقي للمعرفة، ومراجعة المنتج المعرفي لما يعرف عندنا بـ«عصر النهضة»، دون التفريط في خزانة تراثنا قراءة واستلهاما ونقدا، من أجل الانسجام مع المسار العام للتاريخ، عوضا عن الركون إلى حقيقة مطلقة نعتقد أننا نمتلكها، ولكننا لا نعرف كيف نتصرف بها كي نكون في مستوى رسالتنا الإنسانية التي نعتقد أننا نتولاها ونعتني بها ونقوم عليها.

ارتبط « الاستشراق » لدى الشرق (مجال الاستكشاف) بما يُطلق عليه «المؤامرة »، كيف يفسر ذلك من منظور نقدي دقيق؟

صراحة، لا يقنعني الحديث عن «مؤامرة»، فهذه ليست سوى مشجب يعلق عليه الإخفاق الحضاري الذي وقف عليه ممثلو ما يسمى «عصر النهضة» عندنا، وحتى إن كان القصد من التركيز على فكرة «التآمر علينا»، يرمي إلى استنهاض الهمم للعمل على تحقيق نهضة فعلية، فإنه تحول، من جهة أخرى، إلى عامل تثبيط، فقد امتدت الفكرة إلى الداخل العربي، وصار لدينا من يوصفون بأنهم «أعداء النهضة» و«أعداء التنوير» في مقابل «أعداء التراث» و«أعداء استعادة الأمجاد»؛ لأن فكرة النهضة تأصلت على أنها الواقع المأمول والبديل عن الحاضر كما سبق القول، وانتهت إلى تضخم يربط «النهضة» بـ«قيادة الإنسانية»، والنتيجة كانت، كما يقول الجابري، سؤال «النهضة» الذي لم يطرح كبديل عن واقع معيش، ينبغي صنعه من الواقع نفسه وعلى ضوء معطياته وإمكاناته، وإنما كان خارج الواقع من خلال نموذج جاهز يبتعد باستمرار، نموذج عربي إسلامي يزداد مع الوقت «توغلا» في الماضي، ونموذج أوروبي «يتوغل» إلى المستقبل بشكل يجعل الأمل في اللحاق به يتضاءل على الدوام.. وهذا ما ضيع مفهوم «النهضة» في متتالية من الاستلابات، لم تنتج غير التهم والتهم المضادة التي تعبر عن «لاوعي» شامل يدعي كل طرف فيه امتلاك الحقيقة، ويحس بأنه يتعرض إلى «مؤامرة» من كل ما يحيط به. عودا على بدء، حتى لو افترضنا جدلا أن «الاستشراق» مؤامرة، فأنا لا أرى كيف يمكن له أن يمرر «تآمره» بالكتابة، في أمة تصر على الشكوى من «ضعف المقروئية»، بل تعترف بأننا أمة لا تقرأ، ولا نستثني هنا سوى «الصورة»، التي يروج لها في حاضنته التي تمأسس بها، ولكن تبقى هذه مفارقة ينبغي النظر فيها بهدوء، حتى تتضح الرؤية.

في رأيك، هل آن الأوان للتحدث عن تجاوز «الاستغراب» لمرحلة التنظير ليبدأ عمليا في مواجهة هيمنة الآخر التي ما فتئت تتقوى بالتقنية والتطورات التكنولوجية؟

إذا كان «الاستغراب» يقصد إلى رد الاعتبار، فمن الأحسن أن يصحح المفاهيم التي يتأسس عليها، لأن واقع الحال، على جميع المستويات، يقول إن تجاوز «الهيمنة» ليس في الأفق حاليا، خاصة أن ساحتنا منقسمة بين «تراثوي» يعتقد بأنه يمكن أن يستغني عن بقية العالم، و»حداثوي» لا يرى سبيلا غير الذوبان في الحضارة المهيمنة، دون أي مساءلة، ثم إن الواقع الحضاري الجديد يجعلنا مجرد مستهلكين لأدواتها، ولسنا فاعلين حقيقيين في المسار العام للتاريخ.. نكون عمليين إذن، ونبدأ بإصلاح المنظومات التربوية، ومنظومات البحث العلمي، وتصحيح المفاهيم المحرفة، والكف عن تحقير العلوم الإنسانية، والعناية بالواقع الاجتماعي في عمومه، وما يتطلب من تغيير على جميع المستويات.. أمامنا ورشة حقيقية تقتضي تظافر جهود الجميع من أجل تجاوز «الجاهلية التي تتواصل فينا» بتعبير الجابري.

إذا انطلقنا من فكرة حسن حنفي التي تعتبر التبادل الثقافي بين الدول قضاءً على الثقافات المحلية في « عصر الثورة المضادة »، هل تعتقد أن «ذات الشرق» قادرة على كسر نمطية الغرب القائمة على فكرة «كل تقدم حضاري غربي بالضرورة»؟

حسن حنفي مشروع كامل محترم، غير أن التخلص من هيمنة الحضارة القائمة يبدو، في الظروف المعيشة، أقرب إلى الخيال منه إلى واقع الحال، ولا نظن أن «المثاقفة» تقصد إلى القضاء على الثقافات المحلية، ولو افترضنا جدلا أنها تقصد فعلا إلى ذلك، فالمساءلة ينبغي أن تتوجه إلى الثقافات المحلية ،التي تبدي من الهشاشة ما يعرضها للاندثار، ثم إن «المثاقفة» ليست استراتيجية أو خطة عمل، وإنما هي ظاهرة ترافق التطور الثقافي، وينتجها التواصل بين الأفراد والجماعات، وبما أننا مجرد مستهلكين في مادة «التواصل»، ولا نملك ـ في الغالب ـ ما نضيف إلى المشهد الثقافي العام، فإننا بالتأكيد سنتقبل الجديد، ونتكيف معه، بل نتبناه، ولعلنا لاحظنا معا أن طلبة أقسام الامتحانات، صاروا يحتفلون باليوم المئة الذي يسبق امتحاناتهم، وهذا تقليد غربي، تفاعل معه طلبتنا ووجدوا فيه فسحة للتخلص من حالات القلق التي يسببها لهم تركيزهم على يوم الامتحان الموعود.. هناك أيضا، على سبيل المثال، احتفالية «عيد الحب» التي صارت منذ التسعينيات من ثوابت الاحتفالات في البلدان العربية.. هل نلوم من يروج لسانت فالنتين بعد أن نقمع «قيس ليلى» و»جميل بثينة» و»اعمير حيزية»؟ هذا سؤال ينبغي أن نمتلك بعض الشجاعة كي نطرحه على أنفسنا. ليس في الإمكان كسر ما وصفتم في السؤال بـ»كسر نمطية الغرب»، ولا الإنكار بأن المنتج الحضاري حاليا، غربي بالضرورة، ذلك لأن «الغرب» (إن اتفقنا على التصنيف) لا يقدم نموذجا ساكنا هامدا، وإنما يعيد إنتاج الأفكار بطريقة دورية، ويحرص على «النقد الذاتي» و»التقييم» و»التقويم» بشكل دائم، بينما نبني ما نعتقد أنه «دفاعاتنا»، على مغالطات وأوهام نصطنعها كي نسوغ لأنفسنا ما ينبغي لنا من «قيادة الإنسانية».







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي