
علوان الجيلاني *
“هذه الكتابة المتناثرة في أشيائي، وفي واقعي، وفي الطريق التي أمر منها يومياً، ما هي إلا لعبة مع المكان والزمان والناس، كل يلعب بطريقته، ويجد ما يتناسب في اللعب معه، أنا وجدت هذه اللعبة التي تهزمني دائماً، لا أعلم تاريخ هذه الكتابة لأنني لا أومن أن للكتابة تاريخاً، المهم أنها رافقتني في الدرب التي مررت منها، رأت مواقف كثيرة معي، ولامست تعاستي بالناس والوطن، بالأمل وبالفرح، بالحب الذي هرب مني مراراً؛ لأني لا أملك حيلة.
لا أفرح حين يخبرني أحد ما بأنني شاعر، أعتقد أن كل الناس في نظري شعراء، فقط تختلف أدواتهم ومعاناتهم، وطريقة عبورهم للحياة، والشعر هو تسمية مثل الألم والفرح والحب.
أريد من القارئ أن يقرأ هذا الكلام وكأنه هو من كتبه، وأن ينظر لما يمكن تعديله، أو تسويته مع الكلمات، والمعنى أنه حر تماماً، مثل الكتابة التي لا يمكن أن تسير إذا لم تكن حرة، سأكون هناك أراقب من بعيد فعل ذلك”.
بهذه المقدمة صدّر الشاعر والروائي والمخرج السينمائي عبد الرحمن السماوي ديوانه الشعري الأول “وزن الطائر”، وهي مقدمة تلخص وعيه بالشعر، بل مفهومة لعملية الابداع بشكل عام، فالشعر كتابة الحياة، لعبة مع المكان والزمان والناس، وهو هزيمة ذاتية، وشاهد على كل مجريات الحياة، وهو ليس مقاما اعتبارياً يميز الشاعر عن غيره من الناس، هو مجرد تسمية مثل الألم والفرح والحب، وكل الناس شعراء بطريقة ما، وإنما تختلف أدوات التعبير. ولذلك فهو يقدمه للقارئ بوصفه خلقاً غير مكتمل يستطيع القارئ أن يعتبره نصوصاً تخصه أيضاً، وبوسعه تعديل أي نص كما يشاء.
هذا التفكير المختلف في الشعر كعملية إبداعية غالباً ما يعتبرها الشعراء عملية ذاتية وخاصة جداً، هو ما يميز عبد الرحمن السماوي، بل هو أسلوب حياته، وهو يمارسه في اجتراحاته الإبداعية كلها، فهو ليس شاعرا فحسب، إذ هو مخرج سينمائي وروائي وكاتب مسرحي أيضاً.
يقع ديوان “وزن الطائر” الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر –القاهرة – 2019م في 92 صفحة من القطع الصغير، ويضم إلى جانب تلك المقدمة القصيرة جداً، إهداءً و 43 ومضة شعرية مكثفة ومختزلة، تكتنز مصفوفة واسعة من التأملات في الوجود والوطن، والمصائر البشرية، والحرب ومفارقات الحياة في مختلف تجلياتها، لكنها تمثل أكثر من ذلك طريقة تفكيره في اللغة، في العلاقة بين الكلمات ومدلولاتها، أو بين الكلمات والأشياء، وهي طريقة تفكير يدفعنا تحققها في النصوص إلى التعامل معها وفق استراتيجية معاينة خاصة، تمليها النصوص نفسها؛ أكثر مما تمليها علينا معارفنا باللغة والنقد، وخبراتنا السابقة بالنصوص، فهو ينسج الكلمات بمخيلة خاصة، لا يعنيها منطق العبارة قدر ما يعنيها أن تخلق مشهداً لا يمكن احتواؤه، أو لقطة ما يصعب على المخيلة النمطية تأطيرها:
أن تبكي
ذلك فعل الماء بالشجرة
أن تضحك
ذلك فعل البرق بالسحابة
أن تصمت
ذلك فعل الجدول حين تغادره الطيور
أن تغني ذلك فعل الله بالكون
إنه تفكير شعري يحول الوجود إلى خارطة للأحاسيس والتأملات، وهو يمارس هذه اللعبة خالياً تماماً من أي ميول لاستحضار مهيمنات نصية من خارج لحظته، نصوص السماوي لا تخضع لنماذج تتأسس عليها، وهي تخترق حدود السائد بوسائطها التعبيرية التي لا تحتكم إلا لمواضعاتها الخاصة، لذلك يمتلك السماوي حرية واسعة في إعادة تعريف الأشياء، وإزاحة دلالاتها، وتخصيب وجودها بمخيلة لا تنصاع إلا لرغبة التعبير نفسها:
هذا الوطن
مجرد علبة فارغة
تحدث ضجيجاً طوال الوقت
هذا التفكير في الوطن لا ينتج عن فراغ، ليس حذلقة لفظية وليس ادعاءً، لكنه وجع ينكتب خارج المألوف، لأنه تأسس في تجربة خاصة جداً، تجربة تتعلق بأحلام طفل يتيم ووحيد كانه الشاعر ذات يوم، طفل يحلم بطريقته:
وأنا طفل
كنت أتوقع بأني سأكون يوماً نبياً كالمسيح
أو زعيماً كمانديلا
أو مطرباً
مثل بوب مارلي
أو بطلاً
مثل تشي جيفارا
عندما كبرت
كان الوطن ضيقاً جداً جداً
الكتابة عند السماوي لحظة مُضبَّبَةٌ، وحديثه في مقدمة الديوان عن قابليتها للتعديل من القارئ، لا يعني بساطتها وسهولتها أو سطحيتها، وإنما يعني قابليتها للتفكير فيها بنفس الطريقة التي تم تخليقها عبرها، فالنص يهاجر إلى مناطق تختلف علاقات الكلام فيها ببعضه، طريقته في تعرية الأشياء، تجريدها من نمطيتها المتعالية، يبدو على نحو ما تجريدا لها من العواطف اللا مفكر فيها، والتي طالما ارتبطت بها:
أول التكوين تفاحة
وآخره سكين
إنها كتابة تشبه تماماً نمط الحياة الذي يفهمه، وهذا الفهم هو على نحو من الأنحاء نظام يكتسب صفته الأسلوبية من الحياة نفسها، إنه توصيف الأشياء والمعاني بماهية شعرية، ومخيلة تمتلك أنطولوجيتها الخاصة، مخيلة تفعل ما تريد بغية إنجاز بدء لا يعول على بدء أو نهاية سابقين، مخيلة ترفض الدلالات المحددة، وتحاول إنجاز نص لا ينحبس في وعي جاهز؛ يبحث عنه كما يبحث طائر الوقواق عن عش طائر آخر ليضع فيه بيضه، نص لا يبحث عن وجود ليؤويه، ولكنه يصبح مأوىً للوجود:
الحياة
أن تحزم أمتعتك
وتذهب لأي مكان
دون أن تلتفت لهم جميعاً
نص السماوي بحث عن وجهة الانسان المفقودة، تلك الوجه المتمثلة في مساكنة الوجود لا السكون فيه، إنه بحث عن إمكانية ضائعة حتماً، إمكانية لا تتحقق إلا في الكلام الشعري كما يقول “هيدغر”، حيث الشعر وحده ما يزال منبها إلى ما يكتنف الوجود من مخاطر؛ بل حيزاً للتفكير فيما نتجاهله، أو نتواضع على الجهل به، كون الجهل به وسيلة مثلى لتناسيه:
الأرض تأخذ حذرها منا
ونحن نأخذ حذرنا من العالم
والعالم
هناك جالس بغباء
لا يأخذ حذره من أحد
ميزة نصوص السماوي أنها مفصلة عليه، تقرأه فيها، وتقرأها فيه، إنها وجوده بكل ما له وما عليه، وجوده المفارق بحثياته الساقطة من الأعراف والتقاليد والمعتقدات داخل الحياة وداخل الكتابة، وبقدر ما يتأبّى هو على الامتثال لمواضعات الواقع في وحياته، وفي ممارساته الإبداعية، سواء في الشعر أو السرد أو المسرح أو في السينما، بقدر ما يتأبى نصه على مواضعات النقد السائد، ومقاربات النقاد المألوفة، لغته لغة خاصة، أهميتها في قدرتها على موازاة حقيقته الواقعية أو حلمه الميتافيزيقي، وليس في كونها لغة تتغيّا سلامة التعبير النحوي، أو تقدم درساً في الرصانة والهيبة، لغة السماوي ليست نسراً يحلق في السماء، ولا أسداً يزأر أو قاطرة ضخمة ترج المكان، إنها ريشة تطوحها الرياح، وزن طائر صغير جداجداً، نبتة صغيرة في طرف الحقل، لكن لون زهرتها يلفت النحلة أكثر من غيره، وتعبيره عن مقاصده رغم ملامحه الطفولية ليس مرتعشاً، ولا مستخذياً، فهو تعبير لا يهادن، ولا يتوقف عن انشقاقيته الحافلة بالبدائل والمقترحات:
لكي نكون
نجعل الحقيقة هناك
تمشي في المراعي والهضاب
ليخضر الكلام
وينبت الحلم
ويزهر الغصن في الطريق
وهو مثل صوفية وحدة الوجود، يرى في كل شيء تجلياً للفكرة التي يحملها، ففكرته تتجلى في الأنثى بما هي وجود مكمل ومؤازر، وبما هي ملاذ للشغف، لكن الأنثى لا تنفصل عن الكلي في مرآته الشعرية؛ بل تتحول إلى دليل عليه، أو على أكثر لحظاته وجعاً:
كل ما أردته
هو أن أسكن في حواف شعرك المتطاير
كالبلدان المشردة
الفكرة نفسها في مرآته تشبه الأنثى، إنها ملاذ آخر، أو دليل مؤكد على حضور الذات، فكل ما نتحقق به هو نحن بشكل ما، فلا فرق في هذه النصوص بين الوجود والموجود، بين الفكرة وبين الطريق:
هل فعلاً كل الطرق بإمكانها
أن تصل بنا إلى المدينة
أم هي الفكرة
تأخذ عصاها وتهش لنا الطريق
لنصل إلى أي مكان
ومثل الأنثى والفكرة والطريق سائر أشياء الوجود، وسائر ما يدل علينا، إنها نصوص تمتلك دلالات مذهلة، تفاجئنا حقيقتها العابرة والمتخلقة في نفس الوقت من أصل الوجود، أصل الوجود الذي نسيناه، لذلك هي تجد صداها في نفوسنا وعقولنا، وفي عواطفنا، تزحزح نظرة الاعتياد النمطية التي طالما تعاملنا مع الشاعر من خلالها، ثم تدفع بنا إلى سلوك مقتربات لم ندخلها من قبل، وبحكم عنادنا ومكابرتنا، تتعرض أصابعنا للكثير من الوخز، فتعريفات السماوي تقوم على أفكار انشقاقية تنبع من حسّ تقابلي، حس تجتمع فيه أضداد كثيرة، ما يجعل النص يتعبأ بالمفارقات، فكل فكرة أو مفارقة لها سن يوقظ وينبه:
لو أن الأرض كلها حجر
لفكرت الطيور بالشجر
لو أن الأرض كلها شجر
لفكرت الطيور بالماء
لو أن الأرض كلها ماء
لفكرت الطيور بالإنسان
لو أن الأرض كلها إنسان
لما استطاعت الأشياء أن تفكر أبداً
لكن السماوي رغم انشقاقيته الواضحة؛ يمتثل بقوة لإحساسه الفطري بوحدة الوجود، وإذا كان الشعراء عادة ما يتأملون ماهية الأشياء من خلال الشعر، بمعنى أنهم يعيدون تعريفها وتوضيبها فيه، فإنه بطريقته هذه يفعل العكس، فهو يتأمل -دون قصد – ماهية الشعر من خلال الأشياء، ويعيد تعريفه وتوضيبه فيها، ولا يحدث ذلك بمعزل عن إحساسه الفطري بوحدة الوجود، وأنا أتعمد وصف إحساسه هذا بالفطري، لشعوري بأصالته؛ بل بانبثاقه من نفس النبع الذي ينبثق منه الشعر داخل كيانه، وإلا من يأتي كل هذا الادهاش:
الغصن .. وزن الطائر حين يغني
الأغنية .. وزن القلب حين يحب
الحب .. وزن الانسان حين يفكر
الانسان .. وزن الحقيقة التي لم تكتمل
إن الشعر بهذا المعنى يصبح وجوداً للوجود نفسه، فهذا التوحد بالأشياء يشكل هاجساً لمعظم نصوص الديوان، وهو بذلك يضفي مشروعية هائلة لقولنا بأصالة هذا الحس كسمة في شخصيته، قبل أن يكون في تفكيره، إنه إضفاء للمشروعية على ذاته في نفس الوقت، بوصفها أسبقية أولية في الوجود برمته:
وددت أن أكون شجرة على الطريق
أو نبع ماء في ركن الجبل
حتى أتخلص من ألم العالم اليومي
أخيراً، هذه مجرد إطلالة على تجربة لم تراهن على ناقد ليكتب عنها، كما لم تراهن هي نفسها على خصوصية ما، رغم أن ما انكشف لنا منها يظل قليلاً من كثير، لكن السماوي نفسه، لا يفكر في ذلك، قدر تفكيره في فكرة الوجود ذاتها، وآخر سطر في هذه المقاربة، لن يكون إلا وصفة يقدمها لنا كي نتخلص مما نحن فيه، ذلك هو قوله:
كل ما عليك فعله أن تعيش كالفصول الأربعة
*شاعر وروائي وباحث وناقد يمني