عبد الحسين شعبان محاوراً الفقيه أحمد البغدادي: «دين العقل وفقه الواقع».. البحث عن أرض مشتركة أملاً في التجاوز

2022-03-01

محمد عبد الرحيم

في منتصف العام الفائت صدر كتاب بعنوان «دين العقل وفقه الواقع» ـ مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت ـ للمفكر العراقي عبد الحسين شعبان، كمحاولة للبحث عن صيغة عقلية للقضايا الدينية، والـ(تديّن) بشكل أدق. لم يكتف شعبان بمجرد التنظير ـ القسم الأول من الكتاب يوضح منهجه البحثي ـ لكنه أقام مؤلفه على جدل حيوي من خلال حوار مطوّل ـ 18 مناظرة ـ مع الفقيه أحمد الحسني البغدادي، المعروف بمواقفه ضد الاحتلال الأمريكي للعراق وأتباعه، حتى انتقاده للحوزة الدينية، جرّاء التزامها الصمت أمام كل ما يحدث في العراق. ورغم التباين بين موقف كل من شعبان والبغدادي، تجاه العديد من القضايا، إلا أن فكرة الحوار النقدي يمكنها إيجاد أرض مشتركة، وصولاً إلى محاولة تجاوز الوضع المتردي الراهن. يقول شعبان في مقدمته.. وستكون أولى المراحل في تخطي فكر القرون الوسطى (الحقبة المظلمة) بإحلال الروح النقدية في التعامل مع الواقع ومع مخرجاته. فلا خوف من نقد عالم دين ولا رهبة له، فهو بشر مثلك مثله، وليكن الأمر خارج نظرة القداسة المسبقة.. ولعل ذلك كان مدخلاً لحواري وعلاقتي مع السيد أحمد الحسني البغدادي، وهو فقيه ومجتهد وصاحب رأي.. والمناظرات معه فيها متعة بقدر ما فيها فائدة، لأنها تتسم بالصراحة والوضوح، وهدفها البحث عن الحقيقة». وفي ما يلي استعراض لـ(بعض) القضايا والآراء التي تناولها الكتاب، وفي حدود ما يسمح به مقال في صحيفة.

المنهج والإطار

يصرّح شعبان في الجزء الأول من الكتاب والخاص بالمنهج البحثي وإطاره، بأن الهدف هو إصلاح المجال الديني، بإضفاء صفة العقل والعقلانية عليه، خاصة في ظل ارتفاع موجة التجهيل والتكفير والتحريم. ويرى أنه لا يوجد فكر واحد وموحد للدين، بل إن لكل مجموعة ثقافية وفكرية ودينية طريقتها في التديّن، حسب درجة تطورها وتفسيراتها الخاصة، وتأويلاتها للنصوص الدينية، خاصة عند ربط هذا التديّن بالسياسة والمصالح الاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجيات، بما فيها من ميثولوجيات لا يربطها بالدين رابط، فهناك دين رسمي وآخر شعبي، وسياسي واجتماعي، ودين الأغنياء ودين الفقراء.

من ناحية أخرى يرى شعبان المفارقة في مساجد وكنائس ومعابد امتلأت بالمصلين، في الوقت الذي تزدحم فيه الشوارع بالمشردين والمتسولين، وتفشي الأمراض والأمية والجهل. فالسلطة والقوى المتطرفة تتمسك بقشور الدين لحماية مصالحها، فيتم استغلال البشر وفق ذلك، وما بين الدين والتديّن فارق شاسع، ما بين منظومة قيم، وممارسات وشعائر وعادات بعضها إلى الخرافة أقرب، وهذا ما ينطبق على الأديان كافة. فـ»لا دين دون عقل، ولا عقل دون علم، لكن ذلك لا يتعارض مع الإيمان الذي تجسده القلوب قبل العقول».

«عالمية إلإسلام الأممية تقتضي في هذه الأزمنة تحطيم أوثان التخلف، وتحريك المناطق الساكنة والجامدة في وعينا وفي مسيرتنا، والخروج من الموروث السلبي وتقديم الإنسان الحضاري، من مبادرة الفقيه المبدع المجدد، الذي يتوصل في التماس الحق إلى أقرب الوجوه إلى ظروف وحالات وملكات الأحكام، اعتقاداً لمراد الشارع الأقدس». (الفقيه أحمد البغدادي)

الاجتهاد والوعي بالتاريخ والحداثة

يرى شعبان وفق منهجه أن هناك ترابطا بين التاريخ والاجتهاد، فالوعي بالتاريخ لا يعني استعادته، بل استحضار تجاربه بما يفيد الحاضر والمستقبل. وهذا جزء من مهمة الاجتهاد، وهو ما يؤدي إلى تجديد الخطاب الديني، فلا تجديد دون اجتهاد، أي استنباط الأحكام وفق المتغيرات والمستجدات والتطورات التي تحدث في المجتمع، حيث «تتغير الأحكام بتغير الأزمان» حسب القاعدة الفقهية المعروفة. ويتساءل شعبان في مقدمته عن موقف الإسلام من الحداثة، وكأنه السؤال الإشكالي القائم.. هل العلاقة اليوم بين وعينا الفكري وتطبيق حَرفية النص، تؤدي إلى النتيجة المطلوبة ذاتها، في زمن الوحي الأول والمتلقي الأول؟

الإيمان

«إن الجميع يزعم أنه مؤمن بالله وكل على طريقته الخاصة، المسلم منهم والمسيحي واليهودي، فهل الله واحد بالنسبة إليهم فعلاً؟ وهل هو الإله نفسه الذي يعدون ويؤدون الصلاة له؟ أم ثمّة فهم خاص لكل واحد منهم عن علاقته بالله؟ ثم ماذا يتبقى من الله الذي يجعلونه واحداً للسفاح والإرهابي والجلاد ومغتصب الحقوق والمحتال، وفي الوقت نفسه للضحية والبريء والمهضوم الحقوق والصادق؟». ويقول شعبان إنه لا يوجد دين سيئ وآخر جيد، وأن المشكلة ليست في الدين، بل في توظيفه الإغراضي، وبعض أشكال التديّن التي تتعارض وقيم التقدم. كما أن الإيمان دون عقل سيقود إلى يقينية صمّاء، قد تصل في بعض الأحيان إلى الإرهاب. ويرى شعبان في هذه النقطة أن البغدادي يتوافق معه في الكثير منها، خاصة الذين يدّعون الإيمان ويزعمون التقوى والورع الديني وهم بعيدون عنه.

العنف

«دعوة اللاعنف ذريعة وخديعة» هكذا يرى البغدادي مدعماً وجهة نظره ببعض الآراء التي دعت إلى المهادنة والمساومة مع القوى الخارجية ـ الأمريكان ومعاونيهم ـ خاصة الصادرة عن رجال الدين والمحسوبين على التيار الديني. ويستند في ذلك إلى.. إيقاظ همم الأمة في الكفاح ضد الغزاة، وعدم الخنوع والاستسلام. وهو ما يقره شعبان ويراه مسألة عقلانية محل تقدير. ثم الأمر الثاني ما يراه البغدادي في (الشريعة الخاتمة) تلك التي تبرر العنف ضد الآخر غير المؤمن، لكن ذلك يعد ماضيا لا يمكن العودة إليه أو استحضاره، إضافة إلى لا إنسانيته وتعارضه مع القوانين الدولية. فقاعدة السلم هي ما تأسس عليها ميثاق الأمم المتحدة، لا الحرب. ففكرة الجهاد بوجه عام، يراها العديد من الفقهاء فرعاً من فروع الدين، كالصلاة والصوم والزكاة. فما يؤيده البغدادي هنا يسمى (الجهاد الابتدائي) أي إعلان الحرب المفتوحة على الكفار والمشركين والكتابيين، لرفع كلمة «لا إله إلا الله». وهي الفكرة نفسها التي تمسك بها تنظيم «القاعدة» و»داعش» و»جبهة النصرة»!

رجال الدين

وبالسؤال عن رجال الدين ومكانتهم، ومدى تحكمهم بمصائر الناس، وهل هم مؤهلون حقاً لذلك. جاء رد البغدادي.. بعض رجال الدين يحاول جمع الأتباع والمريدين والسعي لجعل الناس يقلدونهم، حتى يصبحوا بجهلهم وطاعتهم عبيداً مستضعفين. فهم ـ رجال الدين ـ لا يرون سوى أنفسهم يحبونها ويدعون بسطاء الناس إلى تعظيمهم، بل يجبرون العوام على التسليم لهم. وهكذا وجد تياران، تيار الله العظيم وتيار الشيطان الرجيم، والأخيرون يحاولون الاستثمار بالذهب وعبادة البورصة.

الفتوى

هل الفتوى ضرورية؟ دار هذا السؤال عن دور رجل الدين وأشباهه في الفتاوى، التي تتجاوز المشكلات الدينية إلى الحياتية، وهنا لا تقتصر على رجل دين مسلم دون غيره. ولعل الكثير من الفتاوى المضحكة صدرت وقت فيروس كورونا. ويجيب البغدادي بخصوص تناحر المذاهب الإسلامية.. إن كل مذهب يعتبر نفسه (الفرقة الناجية) أما الجميع فهم (الفرقة الهالكة) وهكذا يتجرأ البعض لاستباحة دم الآخر.. إن بعض الفتاوى تخالف السنة النبوية أصلاً، وبعض رجال الدين يفتي خارج قناعاته، إما طمعاً وممالأة، أو حباً في الزعامة والمال.. والشيخ محمد الخالصي على سبيل المثال اتهم بـ(التسنن والعمالة) لاعتباره الشهادة الثالثة بدعة ـ الشهادة بأن علي ولي الله ـ وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

«ما نحتاج إليه اليوم هو إخضاع ما لدينا من سلطات ومؤسسات، ولغات ومعارف ومورثات، وأخلاقيات وقوانين وطرائق تديّن وإيمانيات (بعضها) لا علاقة له بالدين، للنقد حتى إن كان خروجاً عن المسلمات واليقينيات، ما دام هدفه البحث عن الحقيقة». (عبد الحسين شعبان)

وماذا عن النص والحديث ومساقه التاريخي؟ يجيب البغدادي بأنه لا يرد القول إن آراء الماضيين من الفقهاء كانت خاطئة، وإن آراءنا صائبة، إنما أقصد أن آراء الاستنباط والاجتهاد الفكري، الذي يتبنى نظرية الزمان والمكان، ولاسيما في (منطقة الفراغ) حيث لا يوجد نص أو حديث أو سابقة يمكن القياس عليها، فالأمر يحتاج إلى اجتهاد وجواب عن واقع جديد وليس إلى نص موجود فقط، حتى إن كان موجوداً، فهو كمرجع مفيد. والحديث هنا عن فقه الواقع وهو الأهم «علينا الأخذ في فكر التغيير الحداثوي، وليس في فقه التبرير الماضوي».

التكفير

وفي هذه المناظرة دار السؤال عن الرِدّة والمرتد، ليجيب البغدادي بأنه لا يُكفر الشيوعيين مثلاً، مخالفاً بذلك التيار الإسلامي السائد، سواء السني أو الشيعي، ويرى أنه موضوع مُسيّس لا علاقة له بالفقه والواقع. فالشيوعيون إما ملحدون فلسفياً، وهم قلة، ومؤمنون اجتماعياً وهم الأغلبية، فالأولون نحترم قناعاتهم ونختلف معهم بشدة، أما الأغلبية فهم الأقرب إلينا. فالموقف من قضايا الناس هو الأساس.

وهل ناكر الإمامة كافر؟

هنا يجيب البغدادي بأن (الإمامة) من الأصول، ومَن أنكرها من حيث المبدأ ليس شيعياً إمامياً، لكن لا نقول بكفره وجحوده، وعلى هذا الأساس لا نُكفّر أهل السنة والجماعة، الذين لا يرون الإمامة من أصول الدين. ويضيف بأن هناك متطرفين من الفقهاء يزعمون بكفر مَن أنكر الإمامة.

عورة

ونختتم الحديث عن الموقف من المرأة، بكونها ناقصة عقل ودين، وأنها عورة. ويسأل عبد الحسين شعبان.. كيف كرّم القرآن نساء الرسول وامتدحهن في أكثر من موضع، وتأتي الأحاديث المنسوبة لتحط من قيمة المرأة؟

ويرى البغدادي أن ما يُنسب للرسول وللإمام علي زوراً وبهتاناً. فلا فارق بين الرجل والمرأة على الصعد كافة، بشهادة القرآن والسنة والعقل والوجدان والتاريخ. فقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في الحدود والقصاص، ولم يسقط عنها أي تكليف، ولم يعفها من أي فريضة لأنها أنثى.

ونختتم بمقولة للبغدادي نفسه، إذ قال «لو خرجت عاهرة بتظاهرة ضد الاحتلال فسأسير خلفها».







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي