مرثية ثانية لبلاد الرافدين

2022-02-28

 جبار ياسين

«بُلينا وما تبلى النجوم»

ولن نطلعَ

قبل عقودٍ مِنَ السنين

أو تنجلي الغمةُ في عجيبةِ خلقٍ جديدة،

ونوح جديد يغرزُ مرديهُ في الرمالِ.

نحن هنا في شتاتٍ منظمٍ بالدقائق

وهم هناك بين البرجسية وتل عفر

على طريق إبراهيم الخليل

في تيهٍ طويلٍ، موزعينَ على البلادِ

ما زلنا نفكر ونحلم

ونقيسُ المسافات بين النجومِ

ما زالت بذرة آدم فينا

وما زال حلم سرجون فينا

لكنّا جُبلنا على الغياب

والمنافي في عز الشباب.

ستجف أنهارُنا وتذوي عظامُنا

ولن نفلحَ بغير الحُلم وملح البُكاء.

هل كان دجلة محض حُلمٍ

وهل كان الفراتُ وصفاً لعذبِ الماء؟

وهل خطأ كان وجودنا على هذه الأرض؟

بين نهرينِ وزقورة في الجنوب.

يوماً سنعد ضلوعَنا باللمسِ

ولن نطلقَ الموال مِن إثر العطش

سنُحصي  كل ندى باقٍ على الأشجار

وكل قطرةِ ماءٍ بمثاقيلِ الذهبِ

لن يكونَ الشاي رفيق جلساتنا

ونقول في ضجرٍ طويل:

هل كان العراقُ حقاً هنا

أم محض اسمٍ لبلادٍ في قصيدة؟

٭ ٭ ٭

سنرحلُ ويبقى الزمانُ يدورُ ببطء

كقوائمِ سُلحفاةٍ مقلوبةٍ تنظرُ للسماء

الكواكبُ تبقى معلقةً بأفلاكها

زحلُ والمشتري يتعانقانِ في أُخوةِ الكونِ العريقة

وبناتُ نعشٍ ما زلنَ في الموكبِ الأزلي

يشيعنَ الأبَ الراحلَ في قلبِ المجرةِ

ونحنُ هنا نجادلُ في الفعلِ المضارع

وأدواتِ النصبِ والممنوع مِنَ الصرف

لن تقوم قائمتنا

والشمس لن تعكس ظلالنا

ولن يُجدينا فقهُ اللغةِ

لا حتى ولا أن ولولا

فما سيبقى لن يكونَ كتابة على الطينِ

مثل إرثِ أسلافِنا، رُقماً وتعاويذ سحرية

وجِرارا مِن حجر الألباتر نقشت عليها الأساطير

بل هذيان في ما بعد الحداثة والبنيوية

وأنواع العطورِ الأجنبية

وعنعنة الأحاديث الشريفة

وتاريخ الصحاح

وصحة أنسابِ القبائلِ

ستجرح الريحُ قبورَ أجدادِنا الطيبين

العارفين بقوتِ الأرضِ وتقلبات الطقسِ

وسير النجومِ ونكهة الريحان

أسلافنا الذين بنوا زقورةً مِن طين

وبنوا المنائرَ والجسورَ

وشككوا بالحجرِ الفلسفي

وفقاً لعلمِ الجبر والكيمياء.

العواصفُ تصهلُ فيما كان يوماً بلاداً

غبار مجنح بالجرادِ يغطي بيوت الكونكريت

نسأل: أين آجر البيوتِ القديمةِ

أين نافوراتها وشجرة السدر الكريمة؟

أين الديك يؤذن للحياة قبلَ أذانِ الفجرِ

وأين الحبيبةُ على شناشيلِ بيتِ الجلبي؟

٭ ٭ ٭

وتبقى  الأرضُ

تبقى الأرضُ مثل جلودِنا

مخددة تنتظرُ الندى وأمطار الشتاء

والأغاني التي سيرت القوارب على ماءِ الفرات

ستبقى الكائناتُ جميعاً في انتظارٍ

لكن لا معاد إلا في الكتبِ القديمةِ

والنبوءات الخرافات

والملاحم التي أغرت الحالمين بمجدِ الانتصارِ.

تبقى الأرضُ ونحن نغادرُها  كغجرٍ نحو السماء.

٭ ٭ ٭

سنرحلُ  يا حبيبتي عن بقايا التراب

عن بلاد الغبار وريح السموم

قد نجد خيمة ونشعل قبالتها نارنا

لنشوي أصابعنا ندماً

ونفقأ عيوننا كي لا نرى الآتي

نقص جدائل مَن عشقنَ في مساءٍ عراقي بعيد

وننزع عن شفاههن حمرةَ قشورِ الجوزِ

حزناً على حبيبٍ رحلَ وبيتٍ هدم

وبساتين نخلٍ مالت جذوع أشجارها

ونذكر امرؤ القيس والمتنبي وأسوار بغداد

ثم نمضي مع الأفقِ بحثاً عن الدخول فحومل

إلى بلادِ المغاني والمعاني

التي صارت بأهلها بمنزلةِ الربيع مِنَ الزمان.

٭ ٭ ٭

لنا ما لنا مما كتبت أيادينا

وما رهنت نفوسنا

رهنا البلاد ببئر نفط

ورهنا العشيقة بخاتمٍ مِن ذهب

وأطفالنا بالمدائح وشعر الرثاء

رهنا الحقيقة بالأكاذيبِ

على بعضنا والغرباء

رهنا كل شيءٍ حتى كلمات أسلافنا، فضاع الرهان

وضعنا معه، وعم البلاء

شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً

وانكسرت البوصلة

لا سماء صافية كي نهتدي بالنجم

لا قمر ليروي لنا قصته

قبة الرحمن مظلمة علينا غضباً

مَن باع بلاداً لن يشتري غيرها

فمن يبيع أرضا عظام أسلافه تحتها؟

٭ ٭ ٭

 لا تنتحب أيها المجد القديم

الأطلال تبقى

مِن طللٍ إلى طللٍ ومِن ذكرى إلى ذكرى

بلا مطر يسقي العشب بين الصخر

في قصر بانيبال وبين آجر أسوارِ بابل

لا ماء نهر كي نسقي الحنين به

فعطر نسائنا رمل

وثيابهن ما تبقى مِن جريدِ النخل

بلا أغان تروي قصص الهوى

عن قيس وليلى

والطريق إلى رجولتنا شوك وعاقول

قحط على قحط والباقي هباء

لا ترتجين مني أغنية

فلا ورد بين شفاهك  كي أُقبله

ولا سعف يظلل قامتك

لا أوراق تين تحت سرتك الجميلة

لا رضاب في شفاهي أو شفاهك

وماء البحر لن يروي العِطاش

فهل لنا بحر لنجمع اللؤلؤ من جديد؟

هل لنا أمل نطل مِن نوافذِهِ؟

٭ ٭ ٭

نودع هذا المساء النخيل وأشجار البرتقال

نودع هذي البيوت، مصابيح الطريق

شجر المشمش وأصحابنا في الطفولة

نودع متحفنا الوطني وجامع الخلفاء

نودع القمر الذي ينام آخر الليل في أسرتنا

نودع، على مضضٍ، نسيم الصباح

وعطر فطورنا ورائحة الرازقي

نودع ما سوف يكون

وآلاف أعوام مِن التاريخ في طرفة عين.

٭ ٭ ٭

هل تستحق خطواتنا هذه الأرض؟

هل نستحق القمر

نسائم أيلول في الفجر وشمس تشرين

هل نستحق جلجامش

أم نستحق الطريق إلى اللامكان؟

يا لا مكان إليك يسير شعبي

عازفاً عن كل تاريخ وكل نبؤة

عازفاً عن مقابره في النجف والشيخ معروف

عن مراقد أوليائه

عن موسيقى المقام وأغاني الريف

عن نكهةِ الخبز

مذاق التمر في أوائل شهر آب.

هل تعرفون ما سوف يأتي في البلاد الغريبة؟

لن يبقى مِنَ الأمسِ غير الذكريات

غير الحنين المعبأ في قناني النبيذ

ووشم الغريب والصمت أمام  السؤال:

من أي البلاد أنتم؟

بما كان يوماً عراق!

نعم على الخارطة وفي الذكريات

شاعر عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي