نصوص برلين - قاسم حداد

خدمة شبكة الأمة يرس الإخبارية
2010-03-22

الأب
ما الذي جاء بي
يا أبي
والقطارات مشحونة بالشجر
ومأخوذة بغموض المطر

ما الذي، يا أبي،
حطّني في الطريق إلى النهر
للناي يقتلني
كلما مَـرّ بي

يا أبي
ما الذي جعلَ العانسات البعيدات يشغفنَ روحي
ويغزلنَ، مثل الأغاني النحيلة،
قمصان قلبي
ويمسحن، مثل الهدايا،
جروحي
ويصقلن بي غربة المتعب
يا أبي

ما الذي جاء بي
نحو هذا النبيذ الغريب
كأنّ الجُسُور،
وغيم البحيرات والشجر الحرّ
أرجوحة الغائب

ها أنا، بعد بحرين، تنتابني،
يا أبي
مثلَ برقٍ، بحارُكَ
فارأفْ بطفلكَ
واكتبْ له نجمةً في السديم،
كأنكَ خلقٌ له
خارجَ الكوكبِ.

***


حرية الريح

يغادر مكانه،
نحو غيمٍ مجهول
يزعم أنه قادرٌ على هدنة السفر
يأخذه ليلٌ طويلٌ دائمٌ ومستمر
ليلٌ يشي ويتلاشى ولا يكفُّ ،
ليلٌ يلتبسُ:
صديقٌ أم كتاب،
ويستسلم
لئلا يقصرُ عن حرية النجوم والغيم والهواء،
في جسارة جناح الحديد
يصعد متوغلاً في الليل الشاهق الطويل
يتصاعدُ مثل لهبٍ
في مكان الموقد ومكانة الأوج.


***

بورتريه للصباح

الصباح هنا لا يتبع الشمس
صباحٌ أكثر حرية من الشمس
يسبقها ويغرّر بها ويؤجّلها
كلما طابَ للمرأة أن تسهرَ الليل في وحشة النافذة
كلما طال ليل انتظاراتها
فالصباح المُبْكر يسرقها
مسعفاً ضعفها
الصباحُ هنا يبتكر شمساً يؤنس بها المرأة الساهرة.

***

صباحٌ يتماثلُ كلما حرّكَ الناسُ أعضاءَهم
في الرصيف الذي لا زال رطباً
في انكسار الهواء على شرفة موحشة
في القطارات مكتظّةً بالمرايا البخيلة
بالعصافير مرصودةً للشِراك

غابة غائمة
غير أنّ الصباح الذي يسبق الشمس
سوف يمرّ ليوقظَ رائحة الشاي
والقهوة النائمة.

صباحٌ كثيف يحرّر أحلامنا
ويقايضنا بالتفاصيل
بالأكفّ المدماة ذاهبة للعمل
كلما انتصرَ اليأسُ فينا
يقايضنا بالأمل.

صباحٌ هنا سوف لن يستجيب لمشتهيات الكسل
صباحٌ لنا،
كلما ندمَ الضوءُ في غابةٍ
بدأ المحتملْ.

سوف يمتدّ هذا الصباح
إلى أن تقرر أشجاره الكشف عن شمسه
إلى أن يهرول أطفاله في الحديقة قبل الحصص الموهنة
كأسُ الحليب الحبيب الذي تركَ امرأةَ الليل في عطرها هائمة
وانزاح في خلسة من سرير انتظاراتها
امرأة الليل يا وحدها
والحبيب الذي طار في العربات الأخيرة
في قاع برلين
في الدرجات الكثيرة والنوم
لا يرتبط الصبح بالشمس
هذا صباحٌ يلوّن ما تشتهيه الحياة
ويرسم كل التفاصيل
يوقظ ما انتابها في السرير الذي يغادره طيفها
لاحقاً بالعربات الرشيقة تشهق منسابة
في رواقٍ من الأفعوان
ويوقظها مثل شمسٍ قبيل الأوان

صباحٌ له الشمس تفاحة
له امرأة مثلها
كلما طاش في غامض الليل حلُمٌ لها
شـبّـت النارُ مثل النهارات،
كالشمس في غيمة ضائعة
كأنّ الصباح سينسى
كأنّ الجريدة وهي تؤجّل أحداثه
سوف تنسى
كأن الحبيب الذي سوف ينسى
كأنّ التي شغفت بالتفاصيل تنسى
ترى من يسأل الشمس عن فجرها
وهي تنسى؟

***


ليلها

في ليلِ برلين يُخطئ مستوحشٌ بابَ أحلامه،
كلما انتابه النومُ
أطلقَ أشباحه في الهزيع الكثيف من الوقت
يُخطئ مستوحشٌ
عندما ينهمرُ الخوفُ من ليلها.

برلين ليستْ على رسِـلها
بيتها غابة
برلين محروسة بالكلُورُوفيل
بالأخضر الفائض المُستهام
بالبحيرات والانسجام
برلين تسهو قليلاً
فيستيقظ تاريخُـها في التفاصيل،
في دفتر الحرب
منسابة في ما تبقى من الحجر القرمزي
من الفرن يخبز طيناً ويرسمه للجياع
من المرتجى في ضياع الهروب الكبير
من الموت
مما تبقى لبرلين من صوتها
من الليل أطول من نومها .

يا ليل برلين
يا حارسَ الخطوات البطيئة عبرَ الممرات
قلْ خبراً واحداً يسعفني في صباحٍ بعيد
قلْ كيف اقرأ أخبارها
كيف أساعدها كي ترى في الظلام الوحيد
احتمالاتها في كتابي؟

يا ليلها قلْ لها
كيف سأقرأها في كتاب الصباح،
كما يصنع الخوفُ لي
ما يـلي في الخطى الراعشة
شرفتي الموحشة
سفرٌ موغلٌ في التأويل
في معجم الليل،
تاريخها، منتهاها
لها ما يحضّ على الذكريات
ما يجعل السور إرثَ الكوابيس
ما ينتهي حين يبدأ
ما يستحيل اختزالاًً مُخلاّ لها
وهي في ليلها
في الهزيع السريع من الحلم.

يا ليل برلين
دعني أفسّـرُ ما سوف يبقى من الروح
في البدء والمنتهى.


ذكريات المستقبل

بشغف الملتهب
كنت سأهِبُ روحي
في نصف القصيدة دفعةَ واحدة
لكي أقوى على رعشةِ
النصف الثاني من القصيدة
حيث الكتابة
قصفُ الولع بوردة الخلود
ومحو الحالم
لذكريات المستقبل.

***

أقلّ من القلب

قليلٌ على القلب
هذا الذي كنتُ سمّـيته
والذي كنتُ أجّلتُ روحي له
والذي كلما طاشَ عقلي به في الصباح
تضرّعتُ للشمس كي تنتهي عنده
أقلّ قليلاً من القلب، لكنه
شدّني بالتآويل
واقتادَ روحيَ
وانتابني.

كل هذا القليل الصغير من القلب
الذي كنتَ بجّـلته
نالني، وانتهى
فابتدأتُ
كحبٍ صغير على القلب
هذا الذي خُنتني كي تموتَ له
والذي، أعرفُ الآن،
تقتلني كي تكونَ له
كل هذا الأقلّ من القلب
كيف، تجاوزتَ حبي،
وصدّقتَـه
ثم كيف انتميتَ، انتهيتَ
وصليتَ، كفراً، له؟
 
 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي