
مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، ينغمس اليسار الفرنسي، الذي يشهد له التاريخ بالقوة، مجددًا في حالة من الفوضى العارمة، حسبما يرى ميشيل باربيرو، الصحفي الإيطالي المقيم في العاصمة الفرنسية باريس، في تقريره المنشور في مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية.
في مستهل تقريره، يُؤكد الكاتب على أن اليسار الفرنسي أصبح «في حالة يُرثى لها» مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية سريعًا. ويتصارع حاليًا نصف دستة من المرشحين اليساريين المتنافسين، الذين أفادت استطلاعات الرأي التي أُجرِيت مؤخرًا أن إجمالي الأصوات التي حصدوها تجاوز ربع إجمالي الأصوات بقليل، من أجل الحصول على أصوات القاعدة الانتخابية نفسها المتقلصة بالأساس. وفي ظل عدم حصول أي من المرشحين اليساريين على أكثر من 10% من أصوات الناخبين، تتضاءل فرص اليسار الفرنسي في الوصول إلى جولة الإعادة التي تضم مرشحَيْن اثنين في الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في أبريل (نيسان) 2022.
ويبدو من الواضح أن التيارات التقدمية الفرنسية خفَتَ صوتها في ظل حملة انتخابية يُهيمن عليها عدد من المرشحين اليمينيين المتنافسين والرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، الذي لم يُعلِن رسميًّا حتى الآن عن ترشحه للانتخابات لكنه سيُرشح نفسه للرئاسة مجددًا كما هو متوقع على نطاق واسع. ويُعد الانزلاق نحو فقدان الأهمية والتهميش تحولًا جذريًّا في فرنسا التي اعتادت منذ وقت طويل على تناوب الديمقراطيين الاشتراكيين والمحافظين على تولي أعلى منصب في البلاد، مع انتخاب رئيسَين للجمهورية الفرنسية ينتميان للاشتراكيين منذ بداية الجمهورية الخامسة في عام 1958.
المعسكر التقدمي الفرنسي في أزمة!
يوضح التقرير أن عجز اليسار الفرنسي الواضح عن إيجاد طريقة للعودة إلى الحكومة في فرنسا، إحدى أكبر دول الاتحاد الأوروبي وأهمها، يثير تساؤلاتٍ عديدة بشأن العواقب المترتِّبة على ذلك على أوروبا في ظل المناقشات الداخلية المحتدمة التي تشهدها القارة العجوز حول الأساس المالي للكتلة الأوروبية، والتوازن بين قوانين الاتحاد الأوروبي والتشريعات الوطنية، وكيفية التعامل مع مسألة الهجرة.
ويلفت التقرير إلى أن اليسار الفرنسي لم يتعافَ حتى الآن من الصفعة التي تلقاها في عام 2017 عندما ألحق ماكرون، الذي استطاع بلهجته الوسطية استقطاب عشرات من اليساريين المعتدلين، أضرارًا بالغة بالحزب الاشتراكي وتركَ المعسكر التقدمي ضعيفًا ومنقسمًا. يقول لوك روبان، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ساينس بو في باريس، إن «نبرة ماكرون الليبرالية الاجتماعية امتصَّت دماء اليسار الفرنسي».
وأدَّت تلك الكارثة إلى أن صار القادة التقدميين الفرنسيين هائمين على وجوههم منشغلين باقتتالهم الداخلي. ويوضح غيوم لاكروا، رئيس حزب اليسار الراديكالي، أنه: «على مدار خمس سنوات، كان اليسار الفرنسي يحاول تسوية حساباته الداخلية بشأن الأسباب التي أوصلت إيمانويل ماكرون إلى قصر الإليزيه. وما زلنا منذ خمس سنوات أسرى للنقاشات بشأن ما حدث، والذي يُعد جدلًا حول الماضي».
الوقوف وراء مرشح يساري واحد!
يُفيد التقرير أن قائمة المرشحين اليساريين للرئاسة تضم كلًا من جان لوك ميلينشون المثير للجدل، ويانيك جادوت، مرشح حزب الخضر، وفابيان روسيل، الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي، ووزيرة العدل السابقة كريستيان توبيرا، وآن هيدالجو، عضو الحزب الاشتراكي وعمدة باريس. وفي أواخر يناير (كانون الثاني)، فشل تصويت «الانتخابات التمهيدية الشعبية»، استطلاع رأي نظَّمه منتمون بشدة إلى اليسار عبر الإنترنت في محاولة منهم لاختيار مرشح مشترك، في تحقيق الوحدة التي تشتد حاجة اليسار إليها. لكنَّ المرشحين المتنافسين الخاسرين رفضوا الوقوف وراء توبيرا، وهي أيقونة يسارية تمكنت بسهولة من تصدر قائمة المرشحين في هذا الاستطلاع الذي شارك فيه حوالي 400 ألف شخص.
وفي هذا الصدد، يؤكد صامويل جرزيبوسكي، المتحدث باسم الانتخابات التمهيدية الشعبية، أن «هذه الانقسامات تبدو تافهة تمامًا لليسار مقارنةً بالمشكلات الخطيرة التي يواجهها المجتمع الفرنسي». لكنه أضاف أن «المرشحين يُفضِّلون الاحتفاظ لأنفسهم بدور قوي، مع خسارة الجميع للانتخابات الرئاسية بصورة منفصلة، على أن يؤدوا دورًا أقل أهمية ضمن تحالف قادر على تحقيق الفوز». وتفيد دراسة استقصائية أُجريت الشهر الماضي أن أكثر من ثلث المشاركين من اليساريين قالوا إنهم لن يشاركوا في الانتخابات، مقابل 8% فقط من مؤيدي ماكرون قالوا ذلك.
ضد التوجه السائد في أوروبا!
يلفت التقرير إلى أن الأزمة الحادة التي يعاني منها اليسار الفرنسي تخالف التوجه الإيجابي السائد للتقدميين في أوروبا، حيث فازت الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية خلال الأشهر الماضية في الانتخابات الوطنية في ألمانيا والبرتغال. ويتولى الاشتراكيون زمام السلطة في إسبانيا منذ 2018، وعلى الرغم من صعود الشعبويين اليمينيين في إيطاليا، مثل حزب «ليجا نورد» وحزب «إخوة إيطاليا»، يتصدر الحزب الديمقراطي اليساري الوسط استطلاعات الرأي حاليًا.
لكن فرنسا أصبحت أرضًا قاحلة للأحزاب اليسارية، وفقدَ اليسار الفرنسي أجزاءً كبيرة من أصوات الطبقة العاملة لصالح اليمين المتطرف أو بسبب الامتناع عن التصويت. لكن ماكرون اجتذب كذلك عديدًا من الناخبين المتعلمين تعليمًا جيدًا والذين يُمثلون نواة اليسار. ويكافح اليسار الفرنسي لإيجاد موطئ قدم له، بعد أن بات مسحوقًا بين مطرقة ماكرون وسندان اليمين المتطرف، الذي يُغري الطبقة العاملة بمزيج من النزعة القومية وتدابير الإنفاق الاجتماعي.
وأفاد التقرير أن عددًا من المرشحين اليساريين يحاولون إبراز أصولهم اليسارية من خلال اقتراح معونات برَّاقة ومكلفة للفوز بقلوب الفئات المحرومة وعقولهم. وتعهدت توبيرا برصد 200 ألف يورو لمساعدة هؤلاء الذين يشاركون في برامجها الشبابية المقترحة، واقترح جادوت بعمل «فحص طاقة» سنوي لحوالي 6 ملايين أسرة. واتفق جميع المرشحين على مقترح زيادة الضرائب على الثروات الضخمة ورفع الحد الأدنى للأجور. لكن في انتخابات الرئاسة عام 2017، لم ينقذ مقترح «الدخل الشامل» للمرشح الاشتراكي بينوا هامون من كارثة انتخابية، إذ حصل على أسوأ نتيجة على الإطلاق وحقق نسبة 6% من الأصوات.
تحوُّل ملحوظ!
يؤكد التقرير أنه خلال العقد الماضي، هناك تحوُّل كبير واضح: الناخبون المتأرجحون، الذين لا يُمكن تحديد انتماءاتهم على أنهم يساريين أو يمينيين، أصبحت رؤيتهم أكثر ليبرالية بشأن الاقتصاد وسط شكوك عمومية حول الوصفات ذاتها التي وضعت الأسس لازدهار البلاد بعد الحرب. وأصبحت سياسات إعادة توزيع الثروات حاليًا يُنظر إليها في إطار أنها راديكالية وغير واقعية.
وكما هو الحال في الدول الغربية الأخرى، تواجه القاعدة الانتخابية الفرنسية أزمة ثقة، إذ تراجعت ثقة الناخبين الفرنسيين في الأحزاب السياسية الفرنسية منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، حتى أصبحت واحدة من بين أدنى مستويات الثقة في أوروبا. وهذا الأمر يجعل الحياة صعبة بصفة خاصة للأحزاب التي تدور برامجها حول سياسات الإنفاق الحكومي السخي. ويضيف عموري جثين، الباحث في كلية باريس للاقتصاد، أن هيئات البث الإذاعية تمنح ماكرون والمرشحين من اليمين المتطرف، في الوقت نفسه، مساحة أكبر. موضحًا أن: «التلفزيون ووسائل الإعلام توفر منبرًا لليمين المتطرف».
ويمكن لفرنسا أن تفخر بتقاليدها اليسارية الثابتة، وفي عام 1871، في أعقاب الحرب الكارثية ضد مملكة بروسيا، سعت الثورة الفرنسية الرابعة (كومونة باريس) إلى إرساء دعائم الديمقراطية في العاصمة الفرنسية قبل أن تسحقها القوى المعادية للثورة. وفي منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، قام تحالف الجبهة الشعبية بتحسين حياة ملايين العمال بإجراءات مثل إجازات مدفوعة الأجر وتحديد 40 ساعة عمل أسبوعيًّا. وفي الثمانينيات، اختار الناخبون الفرنسيون فرانسوا ميتران صاحب التوجه الاشتراكي لتولي منصب رئيس البلاد لفترتين رئاسيتين.
هل عودة اليسار الفرنسي ممكنة؟
حتى وقتنا الراهن، يمكن أن تكون التوجهات اليسارية الفرنسية أي شيء ما عدا كونها جثة هامدة. ورسَّخت الثورة الفرنسية عداءً مستمرًا تجاه الامتيازات الاجتماعية التي لا تزال ملموسة في عددٍ من مدن فرنسا، مع تحول قصور النظام القديم وحدائقه إلى متاحف وحدائق عامة. وأفاد روبان أنه «على الرغم من بعض التقلبات المزاجية التي كشفت عنها استطلاعات الرأي، يظل الفرنسيون مرتبطين بشدة بالخدمات العامة وشبكات الأمان».
ومع ذلك، لم تعد التحولات التاريخية بالنفع على اليسار الفرنسي الآن. ويتشبث بعض الناس بالعودة، مشيرين إلى أن حوالي نصف الأشخاص لم يتخذوا قراراتهم بشأن كيفية تصويتهم في انتخابات أبريل. وقد يتوحَّد المتفائلون من الجناح اليساري: إذ أجريت في الآونة الأخيرة محادثات بين توبيرا وجادوت، لكن التقارير أوردت أن الحملتين بعيدتان كل البعد عن التوصل إلى اتفاق.
وفي ختام التقرير، يستدرك الكاتب قائلًا: لكن إحجام المرشحين اليساريين عن تكوين جبهة موحَّدة يُوحي بأنهم يُفضلون أن يظلوا مختلفين حول الأساسات بدلًا من تصحيحها. ويقول روبان إن: «سفينة اليسار غرقت، وتمسَّك مختلف زعماء اليسار بقوارب نجاة منفصلة خاصة بهم».