
رشيد أمديون
تعتمد القصة القصيرة على الواقع كخلفية مرجعية لتمثيل الحياة الإنسانية، ثم تعكسه في مرآتها ليتجلى بصورة رمزية، وتنتقده بناء على رؤية القاص للعالم. وبما أن تلك الرؤية تضمرها القصة، فإن القارئ لا بد أن يجد إليها مسلكا للعبور، للقبض على خيط من خيوط المعنى. وسعيا إلى ذلك تقوم هذه الورقة بمقاربة لغة الجسد، في قصص «قلت لي..» للقاص المغربي عبد الرحيم التدلاوي، باعتبار هذا الموضوع، مرتكزا أساسيا يقوم عليه السرد والحكي لتشكيل العالم القصصي في هذا المنجز الإبداعي.
توظيف لغة الجسد: في بناء المعنى
تعد اللغة وسيلة تعبيرية، لفظية، من المتكلم إلى المخاطب، كما للجسد لغة إشارية، حيث يمنحها ذلك أن تكون دالا؛ فحركات الجسد تؤدي وظيفة تحمل معنى، يتواصل ويتفاعل عبرها الإنسان مع الآخرين. وليس المقصود من حركات أعضاء الجسد، السلوك المباشر الذي تقوم عليه الوظيفة البيولوجية التي تشترك فيها كل الكائنات الحية؛ وإنما المقصود ما ينتج عن الجسد من فعل دلالي ينزاح عن المعطى البيولوجي المشترك، ويحتاج إلى معرفة تُستجلب من خلال النسق الثقافي، أو السياق الذي أنتج الحركة الجسدية فصارت بذلك دالة على معنى.
ويمثل الجسد مرتكزا تتكئ عليه نصوص مجموعة «قلت لي..» للقاص عبد الرحيم التدلاوي، من حيث الاشتغال على ما تنطوي عليه هذه الثيمة من دلالات وإيحاءات تقوي المعنى في النصوص وتبلّغه، خاصة عندما تشترك تلك الدلالات مع الخيال، وتتعاضد في رسم الصورة، فنقرأ مثلا في قصة «جدي» أن السارد بينما هو يقوم بإفراغ متانته، إذا به يتخيل مخلوقا غريبا ماثلا أمامه، يقول: «تحت أضواء القمر الجميل، اتكأت على الحائط وبدأت في التبول، شاعرا براحة ممتعة، وحين رأيت أشباحا ترتسم على الحائط شعرت برعب، التفت إلى الأعلى لأجد ما يشبه شخصا يمشي على أربع يسعى إلى التخفي بغاية إيذائي». من خلال الصورة التي نقلها السارد، تبدو حركة الجسد ذات دلالة مرعبة، حيث توحي بوضعية الهجوم، ما جعل السارد يصرخ ويوقظ أسرته. ثم ينهض جده الأعمى «يتوكأ على عصاه يريد أن يعرف السبب». تدفع هذه الرغبة الجد إلى إنتاج فعل مساعد على تلبية إرادته: «كان يتلمس طريقه بعصاه، وحين بلغ السطح، حيث بدأ في تحريك تلك العصا لإبعاد أي هجوم مباغت، كنت أتابع حركاته كاتما ضحكة رأيتها غير مناسبة في هذا المقام». توحي حركات الجد بالضعف وقلة الحيلة، فرغم أن جسده لا يسعفه للقيام بدور الحامي، إلا أنه يحاول بما لديه من قدرة، أن يواجه ما يحضر في ذهنه من تمثلات الخطر، التي هي في الحقيقة تخيلات السارد التي صدقها الجد الأعمى، كما صدق أنه يمكن أن يكون حاميا ورادعا لأي هجوم، ما أدى به إلى أن يصبح موضوع سخرية بفعل حركاته الدونكيشوتية، التي نتجت عن الوهم.
إن النص لا يقدم لنا وقائع مجردة، بل بناءً رمزيا، للعالم القصصي، وكأي نص تخييلي، يعطينا إمكانات الافتراض والتخييل والتأويل، وبناء عليه نستنتج العلاقة التي تجمع بين الجد الأعمى والحفيد الموهوم/الخائف الذي يرمز إلى الإنسان المعاصر، حين يلجأ إلى الماضي للاحتماء من أخطار واقعه وعصره (حاضره ومستقبله). وهذا الإسقاط لا يعد تعسفا على المعنى، لأن لكل عصر قضاياه، ومعالجتها تكون بفكر عصري يقوم على المعاينة والاحتكاك. و«تكون الكلمة أو الصورة رمزية حين تدل على ما هو أكثر من معناها الواضح والمباشر، ويكون لها جانب باطني»؛ إذا كانت لغة جسد الجد/العجوز الأعمى في الصورة السردية توحي: بالماضي وضعف الوسيلة والعجز. والحفيد – الذي تمثل له الخطر- يرمز إلى: الإنسان المعاصر المتوجس؛ فإن لغة جسد الشخص الذي يمشي على أربع، في وضعية مرعبة، توحي بالخطر المحدق الذي يأتي من الآخر، أو كل ما يواجه الإنسانَ من قضية جديدة. وهذا الحضور الرمزي أدى وظيفته الدلالية في النص، وساهم في تشكيل المعنى عبر لغة الجسد.
كما تحفل هذه النصوص بحضور جسد الأنثى، كمكون بارز بوصفه هوية أنثوية، يمثل عالم المرأة في المتخيل السردي لـ«قلت لي..» وذلك راجع إلى أن المرأة (بصفتها شخصية ضمن القصص) تنظم علاقات ثقافية وجسدية ونفسية ودلالية، مع عوالم السارد. فيُعدُّ الجسد بهذا، كائنا له خاصية تجسيد جمالي ينتج معاني دالة، من خلال ما ينقله السارد إلى المتلقي من حركات وسكنات، تتجه في سياق بناء النص وتوجيهه نحو المعنى، يقول في قصة «نظرات» «وقفت غير بعيد عنها، وجدتها واضعة كوعيها على الحاجب الحديدي الفاصل بين الجمهور ومكان الفرجة، ورأسها بين راحتيها وقد انسدل شعرها الفاحم على كتفيها نحو الجانب. فبانت رقبتها اللحمية منداة؛ وتقوس ظهرها الناعم قليلا، فبدا خصرها الضامر، ووركاها البارزان..». إنها صورة أثثتها طبيعة الجسد الأنثوي وحركته، فمنحت للسارد متعة وإغراءً، لهذا استرسل قائلا: «ظللت أستمتع بهذا الجسد الفاتن، وكأنه مصبوب في قالب شهوتي، فرائع أن تستمتع بالجمال وهو بلون سماء صيفية طاهرة، أو أغنية رقيقة». هذا الأثر الجمالي الذي أحدثه جسد الأنثى في وجدان السارد يعد، في شكله الرمزي، لغة تسللت إلى دواخل السارد، فتَمثَّل له الجسد كمكون طبيعي بما يستمد من شبهٍ بلون سماء صيفية، أو أغنية رقيقة، أي أن فاعلية تأثير جسد هذه الأنثى يشبه تأثير المكون الطبيعي، وهو الجمال، وبالتالي؛ يصبح هذا الأثر الجمالي الجواني له سلطة على ذات السارد، فيبادر بدوره (بجسده) إلى التعبير عن ذلك بفعل الرجة العاطفية، التي تستولي على أفعاله، لهذا يظل يراقب ويشاهد: «بقيت بعيدا أتابع سطوة جمالها علي». إنها لغة جسدية أنتجت الفعل، والفعل المتولد (رد الفعل):
– الفعل: من جهة حركات جسد الأنثى.
– الفعل المتولد: استجابة السارد للأثر الجمالي الذي رج وجدانه، بوسيلة حركة جسده.
وهذه الأفعال المتولدة كالتالي: «وقفت غير بعيد عنها/ظللت أستمتع/ كنت أرتجف وأنا أتابع قسمات جسدها الضارب بعمق في رغبتي/ اضطرابي كان شديدا/بقيت بعيدا أتابع سطوة جمالها عليّ/انتابتني دوخة/اتكأت على الحائط وأمسكت رأسي بسبابتي وإبهامي، ودعكت عيني أبغي مسح القتامة عنهما واستعادة توازني».
إنها سلسلة من حركات الجسد، يستجيب عبرها السارد لما أحدثته لغة جسد الأنثى في وجدانه وعاطفته، وبناء على هذه الاستجابة الفعلية المتولدة، تتجلى حالة الشخصية النفسية والعصبية والفكرية، كما يتطور الحدث ويبدأ في التجلي والانكشاف. لهذا فإن هذه الحركات والسكنات التي يحدثها الجسد، هي لغة دالة توجِّه النص نحو المعنى، لكنها في القصص تنطلق من زاوية نظر ذكورية، فالسارد المذكر هو ناقل المشاهد والتصورات حتى لو كانت من وحي خياله أو حلمه أو وهمه، كما رأينا في قصة «نظرات» التي يبدو فيها السارد، يتداخل لديه الوهم/الحلم بالحقيقة.
يركز السارد على حركات الجسد انطلاقا من زاوية رؤيته؛ رؤية يحقق من خلالها الإشباع النفسي، دون العناية بالكلام، لأن اللغة هنا لغة جسد، يفسح لها مجال التواصل بينه وبين الطرف الآخر، يقول: «انخرطنا في حميا الجمع انتصارا للحب وتطهيرا للنفس من رواسب البلادة وهياج البؤس».
وهذه الشواهد السردية التي عرضناها، تتجلى فيها رغبة السارد في الارتباط بالمرأة واستسلامه لمغريات الجسد: «كانت ذات جمال شرس كاد يفتك بقلبي الذي انتصب كعنق يريد مقصلة عن طيب خاطر». هذا الانجذاب والاستسلام هو رغبة فطرية وغريزة إنسانية؛ إذ إن ما صرح به السارد هو ترجمة لفظية للأثر الذي أحدثته لغة الجسد الصامتة، وهو ما انعكس في مرآة وعيه، ثم باح به للقارئ سردا، ليتخيل المتلقي بدوره الصورة التي شاهدها السارد وتأمَّلها بعينه ومن زاوية رؤيته، وهو تصوير ينطوي على إيحاءات تخدم سياق القصة وبناءها الدلالي.
عموما إن حضور جسد المرأة في هذه النصوص، يُبرز أن المرأة كأنثى تستأثر بلب الرجل، وتعيد تشكيل تفاصيل تناقضاته، فهي مرآة عاطفته، حيث تنعكس صورته: كائنا في حاجة للجمال احتماء من القبح وبشاعته.
إن نصوص «قلت لي..» تتخذ من لغة الجسد مرتكزا لبناء النص قصد إبداع حكي مثير يحول ظاهر الأشياء إلى معان ورموز ودلالات مفتوحة على تأويل متعدد، يختزن في طياته مؤشرات الفقد والانهزام، وحالة التوجس والريبة من كل مظاهر التحول الطارئة في مجتمع الإنسان العربي، كما يختزل هذا الحكي ما يكشف رغبة الإنسان الدفينة في رؤية مظاهر الجمال متمثلة في الحب والأمان، وما من شأنه أن يحقق الاتزان النفسي والعاطفي ويُطمئن حيرته الوجودية.
كاتب مغربي