المترجم العراقي بسام البزاز: واقع الترجمة في عالمنا العربي صدى لواقعنا بكل أمراضه

2022-02-16

حاوره: عبد الخالق النجمي

يعد بسام ياسين البزاز (مواليد العراق 1952) أحد أبرز الأكاديميين والمترجمين العرب عن الإسبانية. له ما يزيد على عشرين عملاً مترجما، أغلبها روايات من أدب أمريكا اللاتينية، منها «الرجل الذي كان يحب الكلاب» «طائر الليل البذيء» «ثلاثة نمور حزينة» و«أسلوب المنهج». إضافة إلى عدة مؤلفات، منها «رحلة بين الأمثال الإسبانية» «الأثر العربي في اللغة والطبع والتراث الإسباني» و«تدوير الزوايا: مسائل في الترجمة». فضلا عن العديد من الدراسات اللغوية والأدبية. عن حال الترجمة ومشكلاتها كان الحوار..

متى وكيف بدأ اهتمامك بالترجمة عن الإسبانية؟

ميلي إلى الترجمة بدأ حين جمعتُ إلى حب العربية حب الإسبانية. تخصصتُ في اللغة العربية والأدب العربي في الجامعة، وكنتُ الأول على دفعتي عام 1975. وحين سافرتُ إلى إسبانيا لمواصلة تخصصي في الأدب الأندلسي، شدتني اللغة الإسبانية وأدبها. وانكببتُ على قواعدها، حتى تخصصتُ في تاريخها، وكانت رسالتي للدكتوراه دراسة حال اللغة الإسبانية في القرن الخامس عشر الميلادي، عن طريق تحقيق نص يعود إلى ذلك القرن. وكان لي في ذلك كله تعمق في الأصول والتفاصيل، لذلك كانت الترجمة، بعد أن أديت ما عليّ أكاديمياً تجاه طلبتي وجامعتي.

كيف كانت تجربتك الأولى في ترجمة «الكوخ» وما هي الصعوبات التي واجهتك؟

قبل «الكوخ» ترجمتُ قصائد ومقالات ومقابلات متفرقة نشرت في بعض المجلات الأدبية العراقية كـ«الأقلام» و«الثقافة الأجنبية». لكن الخوض في ترجمة رواية طويلة كان تجربة جديدة تماما. في «الكوخ» حكاية نعرفها، هي حكاية الظلم والريف والإقطاع والجهل. حكاية مفهومة بسيطة. ما هو صعب في «الكوخ» الأسلوب الواقعي والانطباعي الغارق في الوصف والمشاهد والصور، وهذا كله مفردات وأخيلة تستدعي وقتا وصبرا وأجواء مناسبة. وهذا بالذات ما كنتُ افتقده. تصور أنني كنتُ أترجم بعد ساعات الجامعة الطويلة، حين عودتي إلى مدينتي (بعقوبة) في ظروف الحصار. شحة في كل شيء: الكهرباء والمواد الغذائية ووسائل النقل. أذكر أني نصبتُ من طاولة المطبخ مكتبا، وانحشرت هناك مع أفراد أسرتي، توفيرا للنور والدفء. قاموس وقلم رصاص وأوراق. كنا نعيش أجواء الرواية الكئيبة، كان ذلك عام 91/92، في قمة أزمة الناس والبلد.

وهل هناك صعوبة أو فارق بين ترجمة أعمال إسبانية وأخرى من أمريكا اللاتينية؟

آخر عهدي بالأدب الإسباني فترة الثمانينيات. كنتُ أقرأ أعمال الكلاسيكيين والواقعيين، ومن أعقبوا الحرب الأهلية، شعراء وروائيين. أما أدب أمريكا اللاتينية فكنت أنفر منه، لأني أربطه بلغته التي هي إسبانية أمريكا اللاتينية. كنتُ أراه على الدوام صعبا ومعقدا. حتى تسنى لي عام 2016 أن أخوض غمار ترجمة رواية التشيلي خوسيه دونوسو «طائر الليل البذيء». لقد أكدت لي ترجمة هذه الرواية فكرتي عن اللغة والعوالم، والأسلوب الذي يكتب به اللاتينيون، لكني لم أجد اللغة بعيدة أو غريبة عن لغة أولئك. وإن كان اللاتينيون يميزون أنفسهم بالأجواء والأساليب الجديدة. في هذه الرواية، نعم وجدتُ صعوبات جمة مردها موضوع الرواية وأسلوبها الواقعي السحري، الذي لا يرسم لك حدودا معروفة للخيال أو السرد أو التصور، بل هو سرد مفتوح على جميع الاحتمالات ووصف يتقبل كل غريب وبعيد عن التصور. صعوبة من نوع آخر وجدتها في ترجمة «ثلاثة نمور حزينة» وهي صعوبة تعمدها كابريرا إنفانته في نهجه المنفلت ضمن حركة البوم التي ينتمي إليها. مثال ثالث على الصعوبة، هو الكوبي أليخو كاربنتييه، الذي ترجمتُ له «أسلوب المنهج» و«كونشيرتو بالروكي». فالصعوبة إذن تتأتى من الخروج على المألوف: كلما خرج النص عن المألوف سردا أو أسلوبا أو لغة، ازداد حجم الصعوبة. أما ما يعوض ويكافئ فهو التحدي الذي تمثله تلك الصعوبة، وهو تحدٍ يقابله عندي تحدٍ مقابل وإصرارٌ على فك رموز النص وتطويعه.

أما الفروق بين ترجمة الأدب الإسباني وترجمة الأدب اللاتيني فيحددها اختلاف العوالم والأساليب الذي أشرتُ إليه. فكل ما نتج عن الأدب اللاتيني هو ثمرة العالم الذي يعيش فيه (الخرافات، الطقوس الدينية، الديكتاتوريات العسكرية، حروب الاستقلال، الإقطاع، الكولونيالية) والتيارات التي ابتدعوها بتأثير من أدباء أمريكا والغرب، كما نرى في حالة الواقعية السحرية والبوم.

قلت في حوار سابق إن ماركيز لو قرأ أعماله المترجمة لتبرأ منها، لماذا؟

أنا كنتُ أرد على سؤال الصحافي حول غياب الدقة في بعض ترجمات ماركيز بسبب النقل عن لغة ثالثة، وأن ماركيز في بعض ترجماته هو غير ماركيز الحقيقي. لم أكن في وارد ترجمات ماركيز بالتحديد، بل في كلام عام بخصوص النقل عن لغة ثالثة وكثرة الوسطاء. وهذه حقيقة، فنحن لا نأمن أن تكون الترجمة المباشرة دقيقة، فكيف الحال إذا كانت منقولة عن طريق لغة ثالثة؟ ترجماتنا بصورة عامة مشكوك فيها. والسبب بسيط هو غياب المراجعة والتدقيق. لا رقيب على المترجم عندنا غير نفسه. هو وحده يعرف ماذا فعل وماذا لم يفعل، ما بحث وما قفز أو ترك، أين أصابَ وأين التبست عليه الأمور، بل هو أحيانا يترجم حسبما فهم وحسبما صور له خياله وتفسيره. وهذا كله مغامرة ورجم بالغيب. الواجب هو خضوع الترجمة إلى مراجعة وتدقيق للنص الأصلي ومناقشة النقاط المشكلة مع المترجم، وليس الاكتفاء بسلاسة الترجمة وترابط عربيتها. طبعا هذا إذا افترضنا أن الترجمة سلسة وخيوطها مترابطة. لكننا هنا أمام حالة لا تسمح بهذا الترف، فالمترجم المراجع غير متوفر بسبب قلة المترجمين المؤهلين وبسبب تدني ما يدفع لهم لقاء عمل مضنٍ ومثير للأعصاب في كثير من الأحيان، بل إعادة كتابة وترجمة أحيانا، أمام كومة من الكلام غير المترابط أو القفز أو انعدام الحرص والدقة من قبل المترجم، وإن توفر فلن تتوفر الروح الرياضية أو الموضوعية من طرف هذا أو ذاك، لذلك يؤثر الناشرون الاكتفاء بتعديلات هنا واستشارات هناك يقوم بها مراجع النص العربي، ثم يتركون الحكم للجمهور القارئ المتفاوت في درجات تذوقه وحكمه.

كتابك «تدوير الزوايا» عبارة عن تساؤلات في الترجمة، ما هي أهم الموضوعات التي تطرقت إليها؟

«تدوير الزوايا» هو مجموع ما نشرتُ طوال ما يقرب من سنتين في عمودي الخاص في جريدة «المترجم» العراقي التي تصدرعن دار المأمون. أضفتُ إليه العديد من الأفكار النظرية التي تتصل بالترجمة، فضلا عن محاضرات أو دراسات مترجمة تدور كلها في فلك الترجمة. هو كتاب فيه من العملي والتطبيقي أكثر مما فيه من النظري، لأنه يقدم خلاصة تجربتي في العديد من مسائل الترجمة، وهو يرد فعلا على أسئلة جاءتني من طلبة وطالبات لي في شتى أنحاء الوطن العربي، فالترجمة التي نقصدها نتاجُ ميلٍ أدبي وممارسة وخبرة، لا دراسة وامتحانات وتخصصا.

وكيف تنظر إلى واقع الترجمة في عالمنا العربي؟

واقع الترجمة في عالمنا العربي هو صدى واقعنا كله، وهو جزء منه، عليه تظهر كل أعراضه وأمراضه. في هذا الواقع لا نجد اضطرادا ولا تنسيقا ولا انسجاما، بل هبات وطفرات ومبادرات معزولة، بعد أن باتت الترجمة تجارة من التجارات، ترك أمرها لدور النشر، وهي نفسها في مهب الريح. أنا أرى أن الدولة مسؤولة عن ضبط إيقاع كل نشاط وتوجيهه والإشراف عليه لحين نضوج حركته وضمان حسن مسيره. لكن هم دولنا بات غير هم الترجمة والنشر. ترك حبل الترجمة، كما غيره من الحبال، على غارب القطاع الخاص ودور النشر، واستودعتهما هذه الأمانة الكبيرة التي كان من الأولى أن تكون هي أمينة عليها. هناك دور نشر مسؤولة محترفة، لكن الكثير منها مجرد دكاكين شغلها أن تتاجر وتقرصن وتنصب. فيجب أن تنطلق بمبادرة من الدولة أو بإشراف مباشر منها، لأنها عملية معقدة، تتجاوز الترجمة والطبع والتسويق، هي بالدرجة الأولى رسم سياسات وخطط وتنسيق. والدولة وحدها أو المؤسسات التابعة لها هي القادرة على ذلك، على الأقل لحين نضوج العملية.

سبق أن قلت إن مسيرتنا في الترجمة والقراءة مسيرة متعثرة متناثرة لأننا خلفنا ونخلف وراءنا أسماء كبيرة شهيرة، لماذا؟

فعلا، هذا ما يحدث، نأخذ الأدب الإسباني مثالا.. الأدب الإسباني موجود منذ أكثر من ألف سنة. وهو أدب ثري، وقد ازداد ثراء مع تقدم الزمن فشاعت تيارات وأدوار وأجيال أنتجت المئات من الأعمال الجديرة بالترجمة إلى العربية. مع ذلك فقارئنا العربي لم يبدأ بالاطلاع على الأدب الإسباني إلا متأخرا نسبيا.. ومنتقيا، فتراه يطفر من ثربانتس إلى بيكير، ومن لوركا وألبرتي إلى ثيلا ورامون خيمينيث. كل ذلك اعتمادا على مزاج مترجم أو اقتراح قارئ، لكن هناك العشرات من الأدباء ومن الكتب الجديرة بأن تترجم. الانتقائية والمزاجية وترك الاختيارات للصدفة وللمبادرات الفردية ستترك بلا شك جُزرا لم تكتشف وبحيراتٍ لم تستكشف. ما نحتاجه هو اكتشاف عوالم أخرى بدلا من ترجمة هذا الشهير أو تلك التي لمع اسمها مؤخرا، مرتين وثلاثا وأربعا. يقودنا هذا إلى التجارة وموضوع الدولة والمؤسسات الذي أشرتُ إليه، فالدولة يجب أن تتحمل المسؤولية لأن مهمتها هي إشاعة الثقافة ونشر المعرفة دون الالتفات إلى الجانب المادي أو الربحي.

بالنسبة لك ما هي أهم الأسماء التي قامت بترجمة أعمال عن الإسبانية إلى العربية بنجاح؟

لم أقرأ من هذه الترجمات الحديثة الكثير. قراءتُ وأنا في الجامعة ترجمات بعض الأعمال الكلاسيكية التي ترجمها إلى العربية عبد الرحمن بدوي، أو لطفي عبد البديع، أو الأهواني أو محمود صبح. ولم أتقدم أكثر في القراءة، فقد أخذتني مشاغل الحياة والعمل والغربة. في الوقت الحاضر هناك العديد، بل الكثير من المترجمين المخضرمين والشباب الذين يترجمون عن الإسبانية، وهم متفاوتون من حيث الجودة والأداة، أقرأ أحيانا لهذا أو لذاك فأبهر أو أصدم وأعود إلى موضوع المراجعة وإخضاع الترجمة إلى معايير جديدة وصحيحة.

ماذا تقول للمترجمين الشباب؟

ألا يتعجلوا، أقصد المعنى الواسع للعجلة.. التأني في كل خطوة، والبحث الدؤوب. وأن يعدوا للأمر عدته من لغةٍ وثقافة. أن يبدأوا بنصوص صغيرة. بقصص قصيرة. بمقالات. وألا يكفوا عن التعلم والاستزادة وإغناء لغتهم والسؤال والقراءة. فالترجمة الجيدة هي في المحصلة معارف وخبرة متراكمة. الترجمة بناءٌ أركانه اللغة والأسلوب والثقافة العامة، واكتماله يتطلب وقتا وصبرا وشغفا، وهذه هي شروط كل عمل متقن.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي