الروائي القطري أحمد عبد الملك: كتاب «بوح السبعين» عصارة منعرجات وغصات تتويجاً لمسار العمر

2022-02-14

حوار: سليمان حاج إبراهيم

يغوص الكاتب والروائي القطري أحمد عبد الملك في أعماق المجتمع القطري، ويجول بنا مدناً وأماكن مفعمة بالحياة، وينقلنا لعوالم متخيلة تبحث في دهاليز الجن والإنس، وتستحضر التاريخ من خلال استعادة أزمنة متعددة. ثراء التجربة الشخصية والأدبية لأحمد عبد الملك يعود بالقارىء لحقب متعددة، وبينها تفاصيل مختلفة عن حياة إنسان يبوح بعصارة سبعين سنة من الكتابة وصقل الحروف متحدياً الطبيعة القاسية للبيئة التي عاش فيها. عن سيرته ومسيرته جاء الحوار التالي..

أول سؤال يفرض نفسه بداية، سيقودنا مباشرة نحو آخر إصداراتك، رواية «دخان.. مذكرات دبلوماسي سابق» لماذا هذا العنوان والتركيز على هذه المنطقة القصية في قطر تحديداً؟

الفكرة تسللت تدريجياً كلما مررت من المنطقة (دخان) تبعد (77 كم عن الدوحة) خلال جولاتي وتوجهي نحو المخيم في موسم الشتاء، وكان يستوقفني دوماً أن المدينة كونها تنام على احتياطات البترول، فخيرها جزيل على قطر وأهلها، لكنها لم تحظ بالاهتمام الأدبي. حاولت أن أنقل تاريخها للأجيال المقبلة، وشرعت في مسح الأماكن وتفاصيل الحياة فيها، بما جمعته من معلومات عن قصة اكتشاف النفط، التي لم ترو.

ما الذي أردت أن تبوح به للقارئ؟

هذه البيئة الجميلة كانت مسرح أحداث قصة السفير عبد الرحمن الوجدي بطل الرواية، وتنقله من زكريت إلى دخان على ظهر حمار. وكانت أيضاً مسحاً شاملاً لتفاصيل هذه البيئة الجميلة والثرية التي تعكس واقع أهل المنطقة. كما أنها تتضمن تفاصيل حياة الناس في المنطقة، خلال تلك الفترة من تاريخ قطر مع اكتشاف النفط وتدفقه وتغير نمط الحياة.

لاحظنا أن الرواية الأخيرة تميزت بإيقاعها السردي المختلف؟

فعلاً أردت أن يكون سرد الرواية مختلفاً وليس تقليدياً، ولهذا كان الاستهلال من جون سميث وهو متقاعد إنكليزي يعيش في مدينة برايتون جنوب لندن، وهو يعرف المنطقة جيداً بحكم عمله في عدد من دولها، حتى أتقن وأجاد العربية. يكتشف فجأة سيرة دبلوماسي قطري معروضة في إحدى مكتبات لندن، ويشده العنوان من أول وهلة، ويقرر أن يترجمها للعربية. ثم ينتقل السرد من هذا المتقاعد إلى بطل الرواية الأصلي، وهو شخصية قطرية عاش طفولته وترعرع بين مدينة زكريت ودخان منتصف القرن العشرين، تزامناً واكتشاف النفط في البلد. ثم يسرد تفاصيل حياته، وكيف قابل نجل الدبلوماسي، خالد الوجدي.

هناك من فتش عن شخصية السفير القطري وحاول أن يعرف حقيقته؟

طبعا شخصية الوجدي متخيلة، وهذا الدبلوماسي أراد أن يغير مسار حياته ولا يكمل درب والده في العمل في شركة النفط حتى تقاعده، ويقرر أن يلتحق بوزارة الخارجية التي كانت حديثة التأسيس مع استقلال قطر، وتبدأ دورة حياته من بيروت ثم القاهرة حتى يصل لندن.

ولندن غيرت مسار حياته بأكمله أليس كذلك؟

فعلاً هو تزوج تحقيقاً لرغبة أهله ابنة خالته، ويكتشف أنهما ليسا متوائمين، فهي بنفسها تعترف بأنها أمية وليست من مقام سفير مرموق لقطر، وتقرر الانفصال عن عبد الرحمن. وفي الفترة نفسها، تعرف على لورد إنكليزي، يعجب بابنته أنجيلا، ويطلب يدها ويتزوجها، ويحدث تناغم بينهما، ترث والدها وتهب ممتلكاتها لأعمال الخير، ويقرران شراء بيت في لندن والاستقرار هناك.

ما الذي تعنيه عبارة «الشرق شرق والغرب غرب» التي وردت في الرواية؟

طبعاً هذا خيط أساسي في الرواية، ويحدد حبكتها الأساسية، وهي مقولة معروفة عن شاعر بريطاني، وكانت محدداً أساسياً لعلاقتهما، علاقة ابنة اللورد البريطاني، مع «الأمير العربي» مثلما كانت تسمي السفير القطري، لكنها وهي على فراش الموت، كررت العبارة، وأضافت لها: «لكننا وحدناهما» في إشارة إلى أولادهما. وهي رمزية عن الاختلافات بين الحضارتين، التي يمكن أن لا تكون عائقاً أمامهما.

هل هي رمزية على أن الإنسان، وهنا نتحدث عن القطري، أنه مهما اتجه شرقاً أم غرباً سيعود لجذوره؟

فعلاً فنجل السفير الذي وُلد في بريطانيا ويصبح جراح قلب مشهورا، يطلب منه والده أن يعود إلى بلده قطر، وينفع أهله بعلمه.

تبدو متعلقاً جداً بهذه الرواية؟

صدقاً أحببتها كثيراً، ففيها الكثير من الخيال، والتفاصيل، والتوثيق لأحداث وتفاصيل عن قطر وأهلها وتطورها، وهي فنياً تتضمن تقنيات محكمة.

هل يمكن القول إنك بلغت بصدور «دخان» أوج عطائك في مجال السرد؟

أعتقد أن الذي يقرر أن يكون روائياً، لا بد أن يمتلك الموهبة، فمثلاً روايتي «ميهود» التي فازت بجائزة كتارا للرواية، عالم غريب، وتتضمن حكايات عالم الجن، واقتحمت عالمهم وقرأت عنهم بشكل موسع، وهذه الشخصية ميهود استحضرتها من رواية قديمة صدرت لي «أحضان المنافي» وبالتالي هناك استمرارية في توظيف تقنيات متعددة، وهي فازت ليس لأن موضوعها غريب، بل لتوظيف الشخصية، وتجديدها، والنقاد يعرفون مسبقاً هذه الرواية.

لما نرى مسارك في هذا المجال، نلمس تنوعاً في المواضيع، وحتى الطابع العام لرواياتك، هل هي رغبة لتقديم أنواع مختلفة؟

تكلمنا عن روايتين بشكل مستفيض، «دخان» و«ميهود» أضيف هنا مثلاً رواية «غصن أعوج» وهي مختلفة تماماً تروي قصة فتح بلاد ما وراء النهر، وما ميز ذلك من تفاصيل ثرية، تاريخية، اجتماعية، وتبرز عمران دول مثل أوزبكستان، وتنقل القارئ لتك الأجواء. وتخيلت في الرواية أسرة مسلمة في القرن 16 تعيش في أفشنة، التي ترعرع فيها العالم والطبيب والفيلسوف ابن سينا. وهنا تجد أنني وظفت التاريخ وحوادث متخيلة من وحي ذلك الواقع، ما يجعل القارئ يعايش تلك التفاصيل وينسجم معها، وهو لون آخر.

نلاحظ أنك تميل لتوظيف الخيال في أعمالك لماذا؟

ليس الخيال المحض، فأنا إذا أردت أن أكتب عن موضوع أو ثيمة معينة، أعمل بحثاً موسعاً، فعلى سبيل المثال، روايتي «شو» تدور أحداثها في جزيرة كوسامو، وتوجهت إلى تايلند واستأجرت شاليه هناك وأمضيت نحو أسبوعين رفقة زوجتي، ودرست المكان وتفاصيله، والأشخاص، البنات وأشكالهن، ولباسهن، وحتى المطعم، الذي ينشئ فيه بطل الرواية مركزاً إسلامياً، وتعرف على ابنة أحد أثرياء المنطقة حتى يعكس ذلك سردي لتفاصيل القصة.

هل تعيش أحداث رواياتك، وتسكنك شخصياتها؟

أنا أعيش أحداث الروايات، ولا أجافي التاريخ، وأبحث بعمق، وأزور المناطق، وأقرأ كثيراً، وأحاول أن أرسم مسار الأحداث، لتكون منطقية، فمثلاً لما أتحدث عن أكل ومطبخ، وعمارة، لا بد أن تكون دقيقة، والراوي الجيد يتعايش مع الأماكن.

هنا نسألك عن سر تعلقك بالأماكن في رواياتك، دوماً نجد استفاضة في إبرازها، والتعلق بها ما السر؟

المكان عنصر أساسي في الخصائص السردية، لا بد أن تكون موجودة، لهذا لما أصف الشخصيات، تتطور وتنمو في الأماكن، وهناك عودة لنقطة البداية.

نظرة سريعة على مسارك في الحياة تكشف تنوعاً وتعدداً في الوظائف والمسارات المهنية، فقد تنقلت بين الإعلام المرئي والمطبوع والمسموع، ثم اتجهت نحو المجال الأكاديمي في الجامعة والإنتاج الأدبي، وتخللتها محطة في مجلس التعاون الخليجي، هل هناك سر في هذه الحركية؟

هذا التنوع ربما لعبت الصدف دوراً في ترسيخه، وربما لم يكن مقصوداً.

سأكشف لك مثلاً أنني بدأت موظفاً في البنك براتب 400 ريال، بالصدفة دخلت فرقة الأضواء الموسيقية عام 1967، ووجدت نفسي أكتب المسلسلات للإذاعة منذ 1969، وحتى مثّلت وأخذت أدوار البطولة. وفي يوم من الأيام أخبرني قريبي عن حاجة التلفزيون للمذيعين، وشاركت في مسابقة، وتم اعتمادي وقبولي منذ 1974 ولسنوات كنت مذيع النشرات الرئيسي. ترقيت لاحقاً وأصبحت مسؤول الأخبار واستمررت متعاوناً مع التلفزيون حتى سنة 2004. وكانت لي وجهة أخرى في مجلس التعاون الخليجي في إدارة الإعلام، إضافة لمحطة في الجامعة أستاذاً محاضراً.

لكنك ما تزال مستمراً في الصحافة؟

استمررت في الصحافة المكتوبة منذ 1969 حتى سنة 2020، لحظتها اتخذت قرار التوقف وترك المجال، لما بلغ عمري في الكتابة نصف قرن، وقلت لجريدة «الشرق» شكراً، وتركت المساحة لزميل.

لكنك كنت حاضراً في المجال الأدبي؟

صحيح، صدر لي حتى الآن، 39 كتاباً، بين رواية وقصة قصيرة، وأخرى عن الإعلام والنقد وغيره، والكتاب الـ40 سيكون عن الأغنية القطرية وتاريخها وعالمها، وهو في مرحلته النهائية. يضاف إلى ذلك أيضاً القصة القصيرة جداً، وربما أنا أول قطري يدخل هذا الاتجاه الأدبي، ويختزل الخيال ويضع القصة في سطر أو سطرين. وهنا تكمن القوة لمن لديه رصيد لغوي ثري. ولدي مشروع تحويل ثلاث مجموعات قصصية قصيرة إلى لوحات فنية برعاية إحدى الجهات.

يبدو أنك بعد اعتزال الكتابة في الصحافة كرست طاقتك نحو الأدب؟

آخر كتاب أعكف عليه وبلغت فصله الأخير، هو محصلة مساري، اسمه «بوح السبعين» ليس مذكرات لأنها أحياناً تنفر القارئ، ولهذا اخترت أن يكون أقرب له، وجعلته مواضيع، من قبيل: «أنا والصحافة» «أنا والكتابة» «أنا والغربة» وغيرها، وهي العصارة لكل ما مرّ بي من منعرجات وغصات، وآلام وآمال، ونشاط.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي