دافع عن القرابة بين الشعر والفلسفة

يحيى عمارة: الشعر لا يتطور بالعدمية بل بالاختلاف والتجربة

2022-02-12

حاوره: عبد اللطيف الوراري

يحيى عمارة (1964) شاعر وناقد، ولد في حاضرة وجدة وصدرت له دواوين عديدة تضعه في قلب التجربة الشعرية الجديدة في المغرب راهنا، ودراسات نقدية تعنى بالسؤال الشعري في علاقته بالإنسان واللغة والمعرفة؛ مثل: «فواكه الشعري والمعرفي: مقاربات شعرية معاصرة» 2016، و»مرجعيات الشعر العربي المعاصر بالمغرب» 2018.

في هذا الحوار، يُحدّثنا يحيى عن بداياته الشعرية الأولى، والجيل الذي ينتمي إليه، وما يختصّ به شعره بين مجايليه، وطقوسه في الكتابة، ومرجعيات الشعر المغربي ودور الجامعة في مواكبته والاهتمام به نقديّا.

كيف دخل يحيى عمارة إلى الشِّعر، وتعلّق به؟

علاقة الشاعر بالشعر، هي علاقة الميلاد بالحياة، الشاعر ميلاد إنسان مبدع، يحس إحساسا غريبا، لا يدري من أين أتاه ذلك الإحساس، فيحيا حياة استثنائية. الاستثناء في القلق، في الحلم، في البحث عن الحرية، في طرح الأسئلة المنطلقة من تراكم الألم والأمل. أصبحتُ شاعرا حينما دَقَّت القصيدة بِحَبْوِها الطفولي أبوابَ القلب، فَرَحَّبْتُ بِها في خجل، منذ مرحلة التلمذة، تلك المرحلة فيها حماس وحرمان، حماس الخروج للاحتجاج، والرفض سنوات الثمانينيات؛ وحرمان الذات من أبسط الأشياء، مثل هدوء النفس. الشعر موهبة الصادقين، والمهمشين، والمغتربين بالمعنى الوجودي والميتافيزيقي. وَجَدَتْ ذاتي عالمَها مصادفة في واقع مرير، فكان الشعر أنيسَها، لتكبر المؤانسةُ رويدا رويدا عبر الاهتمام، والاحتراق، والتواجد بالمعنى الصوفي، بمعنى العشق الروحاني المرتبط بالعشق الجمالي المنفتح على الدنيوي، والوجودي بالمعنى الفلسفي الذي يعطي القيمة لكينونته. زادت علاقتي بالقصيدة حينما بدأ الوجدان يتسع للمغامرة بعد أن كان يعيش خجله. ما أقصده بالخجل أني كنتُ أُحْسِن الإنصات للشعراء وأعاشر شعرهم، وأرتجف حينما أدشن كتابة مقطع شعري لحد الآن، دون أن أتجرأ على ولوج عالم الكتابة عبر الإعلام والنشر. بعد مدة من العيش في مسكن التعالق بين ذات إنسان يريد أن يصبح شاعرا مثل باقي الشعراء وشيء جمالي غريب النشأة والتكوين والماهية، كبرت العلاقة لتصبح ميثاقا وجوديا بين الطرفين.

كيف تستعيد حماسة الشاعر الأولى ونظرته الحالمة للعالم والأشياء؟

حماستي الواعية بالكتابة انطلقت من المرحلة الجامعية، حينما كنت أرى العالم الجامعي عالما أنموذجيا للوعي والتعبير والإبداع، عبر الإشكاليات الأدبية التي كنا نناقشها داخل مدرجات الكلية وخارجها، وفي الأمسيات الثقافية، والمهرجانات الدولية الشعرية، التي كانت تجعلنا نتواصل مع كبار الشعراء والمبدعين. ففي سنوات الثمانينيات والتسعينيات كانت الأسوار الجامعية ملأى بالديناميات، والحماسات المتأثرة بالأحداث السياسية، والاجتماعية، والمساجلات الفكرية والفلسفية والأيديولوجية، وطبعا الجمالية. وبما أن الموقف الإبداعي يتربى ضرورة بين أحضان الصراع المتعدد الأوجه، والأبعاد والغايات، قررتُ في مرحلة الإجازة أن أُعَبِّر عن موقفي لرسالة الشعر، عبر الحماس اللامشروط لإنجاز بحث نهاية الدراسة حول شعر أدونيس، بعنوان «الكون الشعري عند أدونيس» بإشراف الأستاذ الباحث الراحل سعيد السهلي، رحمه الله، وهو لم يُنْشر بعد، ليصبح ذلك البحث بداية الحماس لمناصرة الحداثة. فالأسباب كثيرة، من بينها كنت غير راض عن المسير الشعري السائد عند مجموعة من الجماعات، التي كنت أحس بها تعيد الموقف التقليدي المحافظ وتكرره، وإن كانت تتشبث بدفاعها عن التجديد، ثم إن الشعراء حالمون دوما بالتغيير، والتحرر والاستشراف. فكنتُ أحلم بأن أكون ذاتي لا ذات الآخرين، أن أبدع مع ما يتنافى وحقوق الإنسان، أن أناصر الحق أينما كان وكيف كان، أن أطلع على شعر المنسيين، والمهمشين في الثقافة الشعرية العربية والعالمية، أن تحس القصيدة بأنها مكتوبة من لدن شاعر لا يؤمن بوصايا الشيخ في تحديد ماهية الشعر والجمال والتجربة، أن يغير ذاته أولا وأن يفهم جيدا معنى الإبداع، وأن أؤكد مقولة: قُلْ كلمتك وامش، ولا تنتظر شيئا يرضى عنك إلا الشعر.

تنتمي إلى جيل التسعينيات الذي عزز خيارات الجيل الذي سبقه من أجل تحديث الشعر المغربي، ونأى عن هتافات الأيديولوجيا. في نظرك، ما هي أهم الإضافات التي تُنسب لهذا «الجيل»؟ وما هي مصادر الكتابة التي استلهم منها سبل إبداعه الجديد وانعكست على تعدّد متونه وأشكال تعبيره؟

توزيع التجارب الشعرية على مفهوم التجييل بالنسبة إليّ فيه نظر، لكن أحيانا يفرض نفسه علينا، حينما قلت: إن بدايتي الشعرية كانت في خجل، هذا يعني ضمنيا أني عاشرت القصيدة في فترات سابقة، لكن وقع لي ما وقع للشعراء الرواد، الذين مارسوا التجديد في الشعر العربي الحديث والمعاصر، بيد أنهم لم يعلنوا عن ذلك، إلا بعد فوات الأوان. وهذا موضوع يستحق التأمل. لنصدق جدلا أنني محسوب على جيل التسعينيات، وهو الجيل الذي ما زال يعاني من الاعتراف، لأن الذهنية الشعرية المغربية أحيانا تخضع للذهنية الاجتماعية التي لا تعترف بالتجارب الجديدة إلا بعد قَطْعِ أشواط عمرية تقترب من الاندثار، وهذا يجب أن يعاد فيه النظر نقديا، فلا بأس أن أوجه رسالة للمعنيين بهذه القساوة: إن الشعر لا يتطور بالعدمية، بل بالاختلاف في الحياة، والتجربة، والمجايلة.

فَكَمْ من تجربة شعرية عالمية أو عربية استطاعت أن تغَيِّر مجرى التخييل الشعري وهي في مرحلته الأولى، أو في جيلها. وهناك أسماء كثيرة يعرفها الداني والقاصي، مثل شارل بودلير، وأبي القاسم الشابي…

كنتُ أحلم بأن أكون ذاتي لا ذات الآخرين، أن أبدع مع ما يتنافى وحقوق الإنسان، أن أناصر الحق أينما كان وكيف كان، أن أطلع على شعر المنسيين، والمهمشين في الثقافة الشعرية العربية والعالمية، أن تحس القصيدة بأنها مكتوبة من لدن شاعر لا يؤمن بوصايا الشيخ في تحديد ماهية الشعر والجمال والتجربة.

إن جيل التسعينيات بكل موضوعية وواقعية، حقق الشيء الكثير في مفهوم تطور الأدب عامة والشعر خاصة، لأنه توكأ على عوالم جديدة تلتقي في جوهرها مع ماهية الشعر، من بينها أصبحت القصيدة مُركّبة تركيبا فلسفيا وليس أيديولوجيا، كما عند ثلة من الشعراء السابقين، ثم بروز التداخل المعرفي والتجنيسي، الذي جعل قصيدة النثر تفرض ذاتها بعد أن كانت محتشمة في السنوات السابقة، وكذلك تعدد المرجعيات في الإبداع الشعري. فهناك نصوص منفتحة على الجماليات الكونية المنسية مثل جمالية النص الافريقي والآسيوي، والأوروبي في شقه الألماني، والنظريات المعرفية الاستثنائية، مثل نظرية الفوضى، ونظرية الرقمنة، ونظرية الجسد، وما شابه ذلك، لكن في المقابل، هناك بعض التجارب التي بقيت سجينة السابق، ومن ثم فهي ما زالت بعيدة كل البعد عن معايير الحداثة التي لا يستقيم عودُها إلا باستحضار عنصر المغايرة والاختلاف والتحرر والأنسنة. ولا نجانب الصواب إذا قلنا: إن أهم شيء قام به جيل التسعينيات هو تشبثه الديمقراطي الشعري، إن صح التعبير الذي يتجلى في العمل على رد الاعتبار للقصيدة المغربية وهويتها، عبر الاعتراف بكل الأدوار الطلائعية التي قامت بها الأجيال السابقة، دون التموقع في مرحلة محددة، أو الدعوة إلى العمل بمفهوم القطيعة مع السابق وتجاوزه، بل الاستمرار داخل الاختلاف وليس الائتلاف، وهذا جوهر السؤال الفلسفي في تاريخ الإبداع.

من خلال مجموع أعمالك الشعرية التي أصدرتها حتى الآن: « فاكهة الغرباء» 1999، و»لن أرقص مع الذئب» 2010، و»لا تقيد يد الورد» 2015، ثم «فوضاي تكتب نثرها» 2018، تتجاور في قصيدتك صيغ إيقاعية بين التفعيلي والنثري، مثلما تنحاز إلى المكوّن المعرفي والفلسفي الذي يربط صوتها الفردي بتجربة الوجود في علاقته المتوترة مع الكائنات والمكان واللغة والذاكرة، وهذا ما ميّز شعرك بين شعراء وجدة تحديدا. ما الغاية التي تسعى إليها وتُحقّق بها عزاءك من الكتابة؟ وهل بوسع صوت الشاعر في فردانيّته ووهجه الملتبس أن يصل إلى الناس ويُحدث التغيير؟

في الشعر بالخصوص، كُنْ مُختلفا حتى مع كوامن ذاتِك، لكي تتمكن من الاستمرار في الكتابة، لأن القصيدة عاشقةٌ لا تحب التكرار. والشاعر كائنات، وأكوان، وحيوات. من هذا المنطلق، ولجتُ عالم الكتابة، وقررتُ أن أتحاشى ما أمكن تكرار التجربة، ولا أراهن على التراكم. شخصيا وبكل تواضع الشعراء، لا أحبذ السقوط في النموذجية، ولو مع تجربتي التي لم أكن راضيا عنها لحد الآن. فدواويني تعبر عن رؤيتي، التي كانت تبحث عن استقلالية التجربة، مع الاستمرار في التشبث بالاختلاف في الكتابة الشعرية التي مهما كان الحكم قاسيا عليها من قبل معارضي الحداثة الشعرية، فإني مقتنع، سواء أصَبْتُ أم أخطأت، بأن تجربتي القائمة على طَرْقِ الجمع بين أشكال الإيقاع النثري والتفعيلي، تجربة لها ما يساندها في التجارب الشعرية العالمية، وعلى سبيل التمثيل لا الحصر، مقولة ت. س. إليوت: «إن الشعر في أدب كل أمة ينبغي أن يفيد من النثر بقدر ما ينبغي أن يفيد من الشعر في آداب الأمم الأخرى. وفي يقيني أن التفاعل بين النثر والشعر، كالتفاعل بين لغة ولغة، شرط من شروط الحيوية في الأدب».

وفي طبيعة الحال، لن أنسى المقولة التي دائما أرددها لشارل بودلير: «كن شاعرا حتى في النثر». لقد تحول مفهوم الشاعر اليوم من شاعر عروضي يعطي الأولوية لنظرية الخليل بن أحمد الفراهيدي وبحوره ومكوناتها، إلى شاعر إيقاعي منفتح على التفعيلات المهملة وعلى شعريات العالم ذات الإيقاعات المختلفة، وعلى أشكال الكتابات القائمة على فلسفة النثريات. أما في ما يتعلق بالغاية من اتباع هذا الخيط، فإني أسعى إلى الإخلاص بكل ما أملك من مغامرات، ومعارف، وثقافات وتجارب إلى النسق الشعري الذي يتحدد في معانقة الوجود ليس لتغييره، وإنما للتعبير عنه تعبيرا رؤيويا فلسفيا يحلم بتشييد مسكن القرابة بين الشعر والفلسفة، كما أشرت إلى ذلك سابقا. فالشعر يشكل السفح الأول للكتابة، والفلسفة سفحها الآخر، والعكس صحيح. ومن ثم، أقول مؤيدا إشكالية التعالق بين الشعري والفلسفي: إن في سؤال الفكر كما في فوضى الشعر، الفيلسوف والشاعر يتجاوران، عبر البحث عن أفق وجودي جديد. والخصام الأخوي بين الشقيقين، كما أسميه بين الفلسفة والشعر، هو مجرد خدعة تأويلية. فهما يتضافران معا للكشف عن عمق الأشياء، وللنبش عن الممكن في المستحيل، وعن الضروري في العارض، وعن العارض في الضروري. وهكذا يكملان بعضهما بعضا: فيتمم الشعر عمل الفلسفة وتواصل الفلسفة عمل الشعر. فهما يعبران عن وجودنا اليوم وغدا، وإن كانا لا يغيرانه، فإنهما يؤكدانه للتحسيس به سرمديا، وهذا ما قام به الشاعر الألماني فريدريك هولدرلين وقارئه الأول الفيلسوف مارتن هيدغر؛ إذ إنّ عالما دون شعر هو عالم جدب يفتقد في وجوده إلى ماء الحياة، وإن عالما دون فلسفة هو عالم تائه تسيطر عليه تيارات التدجين لتتقاذفه أمواج الرياح العاتية.

أكتب لأعَبِّر عن كينونتي، وبصيرتي، وأتلذذ بعزلتي، وأتألم وحدي، ليس بصفتي ذاتا متفردة، بل بصفتي كائنا متعددا يرى ما لا يراه الآخرون، ويحلم بما يسعى إليه الغرباء، ويشدو بأغاني الحياة التي يعمل الشعراء على التحسيس بها. أَلَمْ يَقُلْ هولدرلين: «ما تبقى يؤسسه الشعراء». فأنا أكتب للحالمين بالتجديد، والتغيير والتحديث والتحرر، لأن الحلم فاكهة الغرباء.

في سياق اهتمامك النقدي والأكاديمي بالشعر المغربي الحديث والمعاصر، ما هي أبرز مرجعيات هذا الشعر؟ وهل استطاعت القصيدة المغربية أن تتمم مشروع التحديث ورهان التعدد في آن؟ وما دور الجامعة المغربية في مواكبة هذا المنجز الإبداعي ونقده؟

إن وظيفة المرجعية تساعدنا على التحدث معرفيا في أي تقويم نقدي يسعى إلى تقديم خلاصاته البحثية علميا. كما تجعلنا نقف أكثر على الأرضية التي نشأ فيها الشعر والمجالات المختلفة التي استخدمت فيه. فالنص الشعري المغربي عانى كثيرا وما زال يعاني بسبب غياب الحديث عن هذه الوظيفة. لا أتحدث هنا عن التناص المتداول بنيويا، إنما المقصود هو حضور المرجعي معرفيا في النص الشعري الحديث والمعاصر، وأظنّ أن هذه الإشكالية ظلت مغيبة في الدراسات النقدية المغربية. فمن خلال المرجعيات تثبت الخصوصيات، وهي تتمثل في سؤال: كيف وظف الشاعر المغربي ـ مثلا- المرجعية القرآنية؟ ألم يعتمد في خطابها على المرجعية الأسطورية المغربية؟ ألم يكن مثل باقي الشعراء العرب متأثرا بالمرجعية الشعرية العربية القديمة؟ كيف تعامل مع المرجعية المكانية؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي نعتقد آن الأوان لطرحها قصد المرافعة عن النص المغربي، وانطلاقا من النقد المعرفي الجمالي وليس استغراقا في صراع السبق والريادة أو الأيديولوجيا أو التأويل الأحادي الضيق. في هذا السياق، وبشكل عام، استطاعت القصيدة المغربية أن تفرض ذاتها في مجموعة من التجارب، مراهنة على الاستمرار في الدفاع عن المشروع الشعري الحداثي. أما دور الجامعة في المواكبة، فهو ضروري ومؤكد، لأن الدرس الجامعي منذ الستينيات، يؤدي أهميته العظمى في تأسيس المشهد النقدي الشعري وباقي النقود المرتبطة بالعلوم الإنسانية، حيث هناك رسائل وأطروحات نوقشت سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، وما زالت وظائفها قائمة، على الرغم من أنها تحتاج إلى مناقشات وتعقيبات. تأسيسا على ذلك، يمكن القول إن أزمة الاهتمام بالإبداع الشعري اليوم تعود بالأساس إلى أزمة الدرس الجامعي الذي يعاني بنيويا من أزمات عدة، أولاها التراجع الاستراتيجي الهجين عن وظيفة الأدب في بناء المجتمع، وثانيها تقليص وحدات الأدب المغربي في الملفات الوصفية، وثالثها عدم الإنصات الجيد إلى المختبرات المشتغلة على البحث في الثقافة المغربية والدراسات الأدبية المغربية.

إن الحياة المعاصرة محتاجة أكثر من أي وقت مضى إلى الحياة الأدبية الجامعية، لكي تستمر رسائل الإبداع والنقد مغربيا.

ما هي طقوسك الخاصة أثناء الكتابة؟ وهل تعود إلى تنقيح ما تكتبه؟

منذ ممارستي للكتابة، وأنا موزع بين عالمين: عالم القراءة، وعالم الكتابة، فهما خيطان يتحكمان في حياتي. أقرأ لأستدرك ما فاتني، وأكتب متى شاءت ذاتي ذلك. أنا فوضوي في طقوسي، ففوضاي تكتب نثر الحياة، لأن وجودي يفقد بوصلة التحكم في المشي والجلوس والحلم والأفق. لقد أحسست في السنوات الأخيرة، بأنني غَيَّرْتُ طقس الكتابة في المقهى التي كانت وما زالت ملاذي المُفَضَّل، وأصبحت في مختبر مكتبتي أُجَرِّبُ وأُنَقِّح، لأن الزمن زمن المختبرات الشعرية، كما يقول أورهان باموق: «إن الرجل داخل مكتبته هو من وجهة نظري، المكان الذي يتأسس فيه الأدب الحقيقي». أعتقد أن القول إن كتابة الشعر فطرةٌ لم يعد ذا جدوى، وأعتذر لأصحاب المعنى. فالعقل الشعري يفرض نفسه عليّ، فلا بأس أن أكون غامضا بعد التنقيح، أحسن بكثير أن أكون واضحا في مديح.

لماذا تكتب؟ ولمن تكتب؟

أكتب لأعَبِّر عن كينونتي، وبصيرتي، وأتلذذ بعزلتي، وأتألم وحدي، ليس بصفتي ذاتا متفردة، بل بصفتي كائنا متعددا يرى ما لا يراه الآخرون، ويحلم بما يسعى إليه الغرباء، ويشدو بأغاني الحياة التي يعمل الشعراء على التحسيس بها. أَلَمْ يَقُلْ هولدرلين: «ما تبقى يؤسسه الشعراء». فأنا أكتب للحالمين بالتجديد، والتغيير والتحديث والتحرر، لأن الحلم فاكهة الغرباء.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي