
عاطف محمد عبد المجيد
داخل كل إنسان منا وعي عقلي وروحي يرتبط ببعض الكلمات، فترانا نستدعي إحدى الكلمات متى ذُكرت الأخرى أمامنا، وكل منا له أسبابه وسياقاته ومواقفه الاجتماعية التي خلفت هذا الارتباط في وعيه، من هذه الكلمات الرحلة والقراءة. هذا ما تقوله مروة مختار في كتابها «حوارات بلا أقنعة بين الهامش والمتن» الصادر في القاهرة عن دار غراب للنشر والتوزيع. مختار تقسم كتابها هذا إلى ثلاثة أقسام: مقالات ـ حوارات ـ مداخلات. يضم قسم المقالات سبعا وعشرين مقالة، نشرت في صحف ومجلات، ناقشت فيها الكاتبة أفكارا عن الهوية والتأويل والنقد والترجمة وقراءة التراث والرواد. وفي قسم الحوارات نجد خمسة حوارات عبّرت فيها الكاتبة عن رأيها في قضايا حديثة وقديمة مطروحة للنقاش الجاد. أما القسم الأخير من الكتاب فهو عبارة عن مجموعة مداخلات صحافية حول قضايا آنية تُناقش في الساحة الثقافية والأكاديمية. هذا الكتاب، كما تتحدث عنه المؤلفة، هو ثمرة حوارات مكثفة مع أفكار متباينة، يجمعها شكل غير معلن هو مناقشة التقسيم السائد، أن ما يُقدم للمتن لا يخص الهامش، وأن المتن مَا يُطرح ليتلقى الهامش، وتظل هراركية الخطاب بين أعلى وأدنى، ليزداد الحاجز الوهمي بين الهامش والمتن، ارتفاعا لصالح فئات بعينها. الكاتبة ترى هنا أن ارتفاع الحاجز الوهمي، هو سعي لتخليد فكرة القول الفصل والرأي الأوحد، وفي الواقع لا وجود لهذا في العلوم بشقيها الطبيعية والإنسانية. هذا ما دعا الكاتبة إلى التركيز خلال سنوات مضت على فن المقالة، لاعتقادها أن الطرح الإشكالي يمكن أن تشاركنا الحوار فيه، عدة أطراف: القارئ العام والقارئ المتخصص، مضيفة أنه يمكننا الحوار مع القارئ العام، دون إخلال بالعلمية أو المنهجية، ما دامت فكرة تنمية الوعي هدفا رئيسيا من أهدافنا في الكتابة.
الهوية الثقافية
في إحدى مقالات كتابها هذا تقول مروة مختار، إن طرح موضوع الهوية الثقافية بوصفه إشكالية قرين حالة التحول التاريخي داخل المجتمعات والأمم، وقرين سؤال مهم: أين نحن الآن؟ قرين حالة التأثير والتأثر في الحضارة من حولنا، وكأننا نطرح سؤالا على أنفسنا: هل يمكننا مواكبة التحولات العالمية، وفي الوقت نفسه نحافظ على هويتنا الثقافية؟
في كتابها هذا تطرح المؤلفة أيضا عددا من الأسئلة التي تحتاج الوقوف عندها طويلا منها، هل نحن في حاجة ماسة إلى تجديد الخطاب اللغوي؟ وهل خطابنا جاذب لهم؟ وهل خطابنا يسد رتق الاغتراب اللغوي، أم يحيله إلى هوة عميقة؟ وهل خطابنا اللغوي خطاب سلطوي؟ وبعيدا عن طرح الأسئلة ترى مختار أن الاغتراب اللغوي ليس حالة هروب من خطاب يرفضه الشباب فقط، إنه نوع من الاعتراض السلبي على تهميش دوره ابتداءً من الأسرة وصولا إلى المجتمع. كذلك تقول الكاتبة، متحدثة عن تطوير العملية التعليمية، نحن نريد حركة فاعلة في التغيير، لا تقارير تُرفع لتقول إن كل شيء على ما يُرام، والواقع يقول عكس ذلك، إذا كانت لدينا رغبة حقيقية في أن نعمل على رأب الصدع المتزايد بين أجيال تتعامل مع التكنولوجيا الحديثة ومناهج تكرر نفسها من عقود. هنا أيضا تكتب مختار قائلة، إنه يمكننا هنا أن ندعو إلى فعل القراءة الذي لا يستكين إلى المسلمات والمناهج والنظريات الجاهزة، بصرف النظر عن شهرتها وعدد من طبقوها. هنا أيضا يمكننا إعادة النظر في قضايا أدبية واجتماعية وتاريخية وثقافية، غير منطلقين في دراستها بمسلمات سابقة، أو بسبب انتشار الاستسهال، أو مراعاة جماعة التلقي التي تقدس الآراء القديمة.
اختيار قبلة
هنا تدعو الكاتبة إلى البداية بالقراءة الواعية الناقدة لكتابات الماضي والحاضر لنستشرف أفقا جديدا، غفلنا عنه عن عمد أو دون عمد. ما تخبرنا به الكاتبة هنا كذلك، أن المرء قد يحار في اختيار قبلة يولي وجهه شطرها ليتخير ما يناسبه من أفكار يعتنقها ثم يطبقها، هذه الأفكار ليست مقدسة قد يتمرد عليها، أو يرى في بعضها جوانب مشرقة وأخرى معتمة. إلى جانب القضايا التي تناقشها الكاتبة هنا تطرح أسئلة أخرى منها هل عملية تلقي عمل إبداعي حرة وفردية؟ أم هناك ألوان من التلقي الجماعي؟ وهل واقع التلقي أسير للنخبة الثقافية ولرجال الدين وللساسة؟ أم أن القارئ العام هو الفيصل في عملية التلقي؟ في حواراتها التي بلا أقنعة تعرّف الكاتبة التأويل بأنه فكرة طُرحت لتعالج فكرة مضادة وهي الإقصاء، إقصاء كل آخر من الحوار، واستبعاد كل آخر من المشهد لتحويل المشهد برمته إلى مركزية واحدة، يصدر عنها الخطاب ويقبله الجمهور دون اعتراض، وكأنه يحمل صكًّا للفهم الأحادي الوجه، مؤكدة أن بعض القدماء كانوا أكثر منا إقداما وجرأة على المنافشة والقراءة والتأويل.
في القسم الثاني من كتابها هذا تنشر مروة مختار عددا من الحوارات التي أجريت معها، ونشرت في مجلات وصحف مختلفة، وفيها تجيب عن أسئلة تتعلق بالواقع النقدي والثقافي والإبداعي. أما في الجزء الخاص بالمداخلات فتقول مختار إنه لا توجد حركة نقدية تنفصل عن العالم، قديما أو حديثا، فالرواد تعاملوا مع القديم ومع الجديد، وكل كان له موقف يختلف عن الآخر، فمنهم من قال باحتراق التراث القديم كلية، وولى وجهه للحديث فقط، ومنهم من بحث في القديم عن جذور الحديث، إما لكي يثبت تفوق القديم، وإما ليثبت أن التراث العالمي بينه مساحات بينية مشتركة. هنا أيضا وفي كتابها الممتع والشيق والمفيد، الذي يكشف عن كاتبة وناقدة مجتهدة، تحمل قدرا كبيرا من الثقافة والمعرفة، كما يكشف عن مجهود كبير لباحثة تعشق العلم وتكتب فيه أكثر من مقال، عن يحيى حقي وطه حسين والعقاد وآخرين، وتؤكد فيه وجود نقاد حقيقيين لا وجود لرغبة لديهم في الظهور، ترى مروة مختار أن الشعر عابر للأوطان والأزمان وسيظل، كما ترى أن النقد عمل موسوعي بالدرجة الأولى، يتطلب قراءة مستمرة في مناحٍ متعددة، وتدريب مستمر على السؤال والحوار، وتربية حساسية داخلية تجاه ما يحيط بنا، لا عبور كل شيء، بل الوقوف والتأمل.
كاتب مصري