فضيلة الفاروق: السينما هي التي صنعت شعبية مارغريت دوراس

2022-02-01

إعداد: كه يلان محمد

الحوارُ مع المبدع هو محاولة لفتح أدراج يريدُ المتلقي معرفة محتوياتها ومعاينة ما يقع ضمن خصوصيات صاحب الأثر، ولا يشفي محتوى المؤلفات الأدبية، غليل المتابع، إنما يريدُ الأخير الإنصات إلى صوت المؤلف، لذلك كان رولان بارت محقاً في رأيه، بأنَّ المقابلة أو الحوار لعبة اجتماعية، لا يمكنُ التواري عنها. ولكي يهدفُ الحوار إلى الكشف عن مناورات المبدع عليه، من الضروري أن يتمَ البحثُ عن صياغات جديدة إذا أريد أن لا تحلَ الرتابة على أجواء الحوار، بناءً على إدراك هذا المبدأ نطلقُ سلسلة من الحوارات، هي أقرب في صيغتها إلى المواجهة.

البداية مع الكاتبة والروائية الجزائرية فضيلة الفاروق، وهي تناقشُ أسئلة مستوحية من آراء الروائية الفرنسية مارغريت دوراس، وبالتالي يكون الملتقى مستشفاً لنمطين من التفكير الكامن بين السطور، راصداً الخطوط التي تتقاطع فيها صاحبة «تاء الخجل» مع مؤلفة «مرض الموت» التي كانت تتلذذ في إطلاق الشتيمة على الخصوم.

هل توافقين مارغريت دوراس في رأيها أننا «لا نكتبُ شيئاً خارج الذات»؟

هذه عبارة دوراس الشهيرة التي يرددها الجميع، ثم يكذبون جهارا نهارا على أنهم يكتبون خارج ذواتهم. وفي الحقيقة نحن الكتاب العرب نختلف عن الكتاب في الغرب، لأننا نخاف من المجتمع، ومن السلطة الدينية والاجتماعية المتسلحة بالعادات والتقاليد، لهذا لا يمكننا أن نواجه القارئ بهذه الحقيقة، خاصة أنه يحكم سلفا على كل نصوصنا على أنها «سيرة ذاتية» مخبأة في ثنايا القصة. لكن الحقيقة أننا نكتب وجهة نظرنا، وأفكارنا، وأجزاء من تجاربنا وتجارب من عايشناهم، وهذا ما تقصده دوراس بالكتابة من قلب الذات. نعم لا نكتب شيئا خارج الذات وهذه ليست تهمة لنتنصّل منها.

ما رأيك في نظرة صاحبة «العاشق» للكتابة بأنها محاكاة للجنون الذي يسود الحياة؟

من أجمل روايات دوراس «العاشق» وهي نابعة من تجربة شخصية، أبدعت فيها، في أخذنا لأعماق العشق، حين تعيش في مجتمع حر هذا لا يسمى جنونا، بل نسختك الحقيقية، دون أقنعة أمام الناس، حين تكتب شيئا كهذا في مجتمعنا المكبّل بقيود متنوعة، يجب أن تدعي أنه جنون ولا مجال لوقوعه في الحياة.

هل ينطبق ما تقولهُ دوراس عن نفسها «لم يكن لديّ أي نموذج لقد تمردت رغم أنفي» على تجربتك الإبداعية؟

هل تعرف أن حبي لدوراس نشأ من تشابه نصها بما عشته وشعرت به في هذه النقطة بالذات، رغم اختلاف حياتينا. لقد وجدتني هكذا وتم تصنيفي أني متمردة، وأنا بعد لا أعرف بالضبط ما هو التمرّد، كنت صغيرة وواعية وذكية، ولم أكن أعرف مخاطر خطواتي تلك، لرفض كل ما يزعجني… في ما بعد حين كبرت ووجدتني في حرب مستمرة مع أطراف من العائلة، ومن محيطي الدراسي، ثم الجامعي ثم الإعلامي والأدبي، كنت قد أصبحت في قلب ساحة الوغى، وأصبح من الصعب رمي السلاح ورفع الراية البيضاء.. لقد أرغمني الجميع على القتال والتمرد، لأنهم جميعا أرادوا ترويضي لأشبه باقي النساء. الآن تعبوا مني وربما تفرغوا لشابات في مقتبل العمر، لإرجاعهن للحظيرة، وأنا مثل بعض القلة نعيش الهدنة مع الجميع.

كيف يكونُ ردك على دوراس وهي تعتبرُ أنَّ الشتيمة قوية كالكتابة وهي مرضية مثل نظم قصيد جميل معترفةً بأنها شتمت أناساً في مقالاتها؟

لا أدري في أي سياق قالت دوراس هذا الكلام، هو ربما صحيح، وربما لا، بالنسبة لي الكلمات شكل من أشكال الذكاء والاستيعاب. نحن نختار كلماتنا بدقة لإيصال أفكارنا، وقد نستعمل كلمات «نظيفة» لإيصال رسالة قاسية لأحدهم، وهكذا قد تكون بحجم شتيمة، لكن أن تكون الشتيمة قوية كالكتابة فالصورة غير واضحة لديّ. هل شتمت بعضهم في مقالاتي؟ إذا كانت مواجهة البعض بحقيقتهم وحجمهم الطبيعي يعتبر شتيمة فأنا فعلت، لكن الأكثر أن عددا كبيرا من المرضى فكريا شتموني شتائم بذيئة، ولا أخلاقية لأن أفكاري لا تناسبهم. هل يمكنني اعتبار شتائمهم بحجم الكتابة الأدبية؟ بالتأكيد لا، وإلا كل قليل حياء ومنحط فهو كاتب بالفطرة.

تشيرُ مؤلفة «لا شيء بعد الآن» بأنَّها نشرت كتباً غير مفهومة وقد قرئت، هل يهمك أن تكون نصوصك مفهومة، ولا يتسربُ الغموض إلى لعبة الكتابة؟ هل يرافق الخوف العملية الإبداعية؟

تطرح سؤالين هنا، لنجب عن الأول: لكل كاتب قراؤه، وكلما زادت جماهيرية الكاتب، كشف ذلك عن بساطة لغته وأفكاره. دوراس كتبت وجهة نظرها حول أمور الحياة وشرحت فلسفتها، أحب قراؤها عمقها وحقيقة ما نقلته من تجارب. لكني أعتقد أن السينما هي التي صنعت شعبيتها وليس الأدب، حين كتبت سيناريو فيلم «هيروشيما حبيبتي» في ستينيات القرن الماضي، كانت السينما أكبر منصة إعلانية للكُتّاب. أما عن سؤالك هل يرافق الخوف العملية الإبداعية؟ سأجيبك باقتضاب أن بعض الكتاب دفعوا حياتهم مقابل الأدب. والكاتب أمام خيارات إما أن يكتب قصصا مسلية لقرائه، ويفعل المستحيل لإرضائهم، وهنا لا خوف عليه سوى من أقلام النقّاد الجارحة، وإمّا أن يكتب أدبا حقيقيا ويطرح فيه قضايا إنسانية مهمة وأفكارا تجديدية، وهنا بالتأكيد سيشعر بالخوف، لكنه سيختار ما يرضي ضميره.

تؤكدُ مارغريت دوراس على أنها لم تكذب في أي كتاب، ولا في حياتها كذبتْ، اللهم إلا على الرجال.أين تتقاطع شخصيتك مع منطوق هذا القول؟

نعم يستحيل أن أكذب على قارئي، أمام الورق أنا في مواجهة نفسي، أمّا في الحياة فالبعض يجبرك على الكذب، لأنّه لا يحب الحقيقة. خسرت أصدقاء وأشخاصا أحببتهم بسبب صدقي، وأعتقد أني بعد الخمسين أصبحت لا أرهق نفسي كثيرا، أكذب على عشاق الكذب، لأن هذا ما يستحقونه ويحبونه، سأعطيك مثلا بسيطا، أصبحت أنزعج جدا من الذين يطلبون مني قراءة مخطوطاتهم، فبحكم عملي الذي يفرض عليّ قراءة كتابين كل أسبوع، أجد من يكتب لي رسالة طويلة عريضة على أنه استثنائي في نصه، ويعتبرني قدوته ومثاله الأعلى، ومقابل هذه الرشوة العاطفية عليّ أن أقرأ المخطوط، وحين أعتذر بلطف شارحة ظروفي أتفاجأ بالوجه الآخر لصاحبه. يتطاول البعض عليّ بشكل يصدمني باتهامي بأني مغرورة ومتكبرة وبلا أخلاق. أحيانا أضعف وأقرأ جزءا ثم أكتب ملاحظاتي لصاحبه لأفاجأ أيضا أنه لم يقبل أي ملاحظة، ولا مفرّ من غضبه الساطع في هذه الحالة.. سأضيف لك ما هو أسوأ، بعض الأصدقاء يحرجونني في هذا الأمر بالذات، فأجدني أمام خيارين الرفض وخسارة الصديق أو الكذب. عن مقولة دوراس إنها كذبت على الرجال، فلا أعرف ما سيكون موقفها في مجتمع كذاب مثل مجتمعنا، حتى الأطفال فيه يكذبون، فما بالك حين يكبرون ويصبحون رجالا ونساء…

«يحدثُ الشعور بالحب من تصدع مفاجئ في منطق الكون، من خطأ من رفرفة عصفور من نوم من حلمٍ أثناء النوم من دنو الموت» هل يبدأُ الحبُ هكذا كما يبدو لمارغريت دوراس؟

يختلف الحب من شخص إلى آخر، الحب حالة، وإن كان سيكولوجيا متشابه لدى البشر، لكن توصيفه لغويا مختلف، أستطيع أن أعطيك عشرة مفاهيم مختلفة للحب، وكلها تعبّر عني، وقد يتفق معي البعض في بعضها وربما لن يوافقني أحد. سأقول لك أن الحب يحدث حين يصبح كل شيء جميل من حولنا، أو حين يملأنا الإيمان بالله، فنشعر بأننا في حالة صلاة. نعم تعبير دوراس جميل وبليغ، لكنه ليس شعوري، أنا قدرية أكثر وروحانية، وهذا ربما يعود لآثار طفولتي عليّ والأجواء التي عشت فيها، لذلك فمرجعيتنا ليست واحدة وهذا ينعكس على لغة كلِّ منا.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي