
بوشعيب الساوري
جرت العادة أن نتحدّث عن البُعد التعليمي للرحلة، انطلاقاً مما تقدّمه للمتلقي من تجارب ومعارف يعرضها الرحالة لقارئه، من أجل الإسهام في تكوينه وتثقيفه على جميع الأصعدة، نفسياً واجتماعياً وتاريخياً وجغرافياً… انسجاماً مع طبيعة الرحلة المنفتحة على الآخر والمتفاعلة معه، وقلما نتحدّث عن البُعد التعليمي للرحلة، التي يكون موضوعها ذات الرحالة القائمة بفعل السفر، وما تجْنيه من معارف عبْر ما تمرّ به من تجارب يقود إليها فِعل السفر ومفاجآته ومغامراته، يكون لها أثر كبير في شخصية الرحالة، وتقوده إلى التحوّل على مستوى أفكاره ومعارفه حول العالم وحول الناس، وعلى مستوى قناعاته تجاه ذاته وتجاه الآخر، وفي الغالب ما يصبح الرحالة شخصاً جديداً بعْد تجربة السفر، هذا ما نروم الكشف عنه من خلال قراءتنا للنص الرحلي الجديد «عابر إلى الضباب» للكاتب المغربي عبد الصمد الشنتوف (طنجة: سليكي أخوين ـ 2021).
اطّلع السّفر، في النص الرحلي «عابر إلى الضباب» بدور المعلّم الذي يتعلّم منه الرحالة انطلاقاً من خوضه تجارب جديدة بعيداً عن وطنه المغرب، وتتمثّل أولا في سفر مؤلف الرحلة إلى لندن لعمل مؤقت حين كان طالباً، خلال صيف سنة 1986، وثانياً في لقائه وتماسّه مع الآخر من مختلف الجنسيات، مغاربة، إنكليزا، برتغاليين، غانيين، أتراكا، بولونيين، يونانيين، سواء أكان ابن البلد أو مهاجراً أو من الطلبة الذي يزاولون عملاً مؤقتاً مثل الكاتب، والتعلّم منه، وتصحيح معارفه الخاطئة، دون تحرّج من الإقرار بجهله الذي صار لازمة تتكرّر على طول نصّه الرّحلي، ويقدّم شهادات إنسانية للمهاجرين الذين كان لهم أثر كبير في ذاته، وثالثاً في زيارته لأماكن، مقاهٍ، محطات مترو، كنائس، جامعات، ورابعاً في ممارسته لبعض الأعمال والأنشطة المؤقتة، وكذا إقدامه لأول مرة على بعض الأفعال (ارتداء بعض البذلات، الحضور لبعض الحفلات، الدخول إلى جامعة بريطانية) وخامساً في تجربة التسكّع التي عاشها، وما أكسبته من تجارب، وأبرزت له قيمة بعض المهاجرين المغاربة، قبل حصوله على عمل في إحدى الضيعات، قاطفاً التفاح، صحبة مجموعة من الطلبة من دول مختلفة.
يهدف عبد الصمد الشنتوف من تحويل تجربة السفر التكويني هذه إلى نص رحلي بالدرجة الأولى إلى إعطاء قيمة لهذا السفر، الذي كان له دور كبير في إعادة تكوين شخصيته، وكان حاسماً في اتخاذه قرار الهجرة إلى بريطانيا بعد هذا السفر.
هكذا أدّى السفر دوراً كبيراً في تكوين ذات الرحالة معرفياً ونفسياً، وتغيير كثير من قناعاتها والاعتراف بجهلها على جميع الأصعدة (التاريخ، الأدب، الفن) من خلال تجارب السفر، التي تجعله لحظات للتكوين بلغة ديدرو، وتقود الرحالة إلى التحول؛ إذ إن السفر مصدر لتكوين الذات، وتحولها النفسي والوجودي، باعتباره أحد شروط الوجود، لأنه يتضمن مواجهة الذات مع الآخر الذي يترك أثرا فيها ويدفعها إلى التحول الإيجابي، لأن تعلّم الذات وتكوينها من أجل ذاتها يمرّ بالضرورة عبْر وساطة الآخر، وهو ما يسمح بإعادة التكوين، وإعادة النظر في الذات، الذي يقود إلى نُضج الذات وتغيير أفكارها واكتسابها معارف وقيما جديدة، ويعترف الكاتب، على طول نصّه الرحلي وفي نهايته، بأنه لم يعد الشخص نفسه الذي سافر، عندما يقول: «أكتشف أنني صرت شابا آخر، لم أعد الشخص نفسه الذي أتی من المغرب قبل شهور مضت. اكتسبتُ أفكارا وقيما جديدة عن ثقافة الشعوب، صرت أرى العالم من منظور أوسع. مساحة غدت أكثر رحابة بعد ابتعادي عن محيطي، مساحة تغذيها شجون وآمال ورؤى جديدة عن الحياة. مخیالي زاد تصوراتي اتساعا وتوهجا عن ذي قبل. أصبحت أتمتع بتجربة إنسانية ثرية. أشعر وكأني ولدت من جديد».
وقد اقتضى استحضار تجربة الـ«هناك» حضوراً قوياً ولافتاً لأحاسيس وانطباعات الكاتب وشعوره وهو يخوض هذه التجارب، وصار في نهاية النص وعيا بالتحول في الذات، كانت نتيجته، بعد عودته من سفره، اتخاذه قرار الهجرة، إذ صارت تجربة السفر قوة دافعة وراء الأبعاد التحويلية للسفر الذي يصنع الرحالة الإنسان. فإذا أصبح السفر «تعلما» من منظور تكوين الذات على المستوى الوجودي، فلأنه يدعم دينامية تحررها، من خلال كسره لكل ما كانت تتبنّاه من أفكار حول ذاتها وحول العالم، وحول علاقة الرحالة ببلده والبلد المرتحل إليه، الذي يحضر في النص من خلال الذاكرة والمقارنة، معبّراً عن تناقضه مع كل ما يعيشه ويراه في لندن، مثلما يتناقض الحاضر مع الماضي، والـ«هنا وهناك».
يهدف عبد الصمد الشنتوف من تحويل تجربة السفر التكويني هذه إلى نص رحلي بالدرجة الأولى إلى إعطاء قيمة لهذا السفر، الذي كان له دور كبير في إعادة تكوين شخصيته، وكان حاسماً في اتخاذه قرار الهجرة إلى بريطانيا بعد هذا السفر.
كاتب مغربي