«صابرة»… سيرة صحافية غمرها النسيان

2022-01-27

عمرو مجدح

في عالم اللامعقول يحتلون أماكني يتساقطون عن السطور مغادرين حكاياتهم والرفوف، هنا أغاثا كريستي تنقب وتبحث عن كنوز من كتب الجريمة، وعلى ذلك المكتب تكمل مي زيادة كتابة رسالتها والخذلان يرسم تفاصيلها، وأنديرا غاندي في زيها الهندي التقليدي وإلى جانبها الأميرة العمانية سالمة بنت سعيد بن سلطان، التي نشرت مذكراتها في القرن التاسع عشر، وشمس الدين التبريزي يتلو قواعده الأربعين و»آدم» التائه والهارب من أفكار أمين معلوف، وغسان العائد الذي فجره العدو الإسرائيلي و»زين الخيال» التي قالت لدمشق وداعا ولم تغادرها.

تلك يومياتي مع أبطال الروايات والسير الذاتية ،الذين عرفتهم وآمنت بهم، وفكرت في إحدى المرات أن أسرد لرسام رؤيتي ويجمعهم في لوحة ضمن لقاء المستحيل، وأسرق تلك اللحظة من الخيال وأخلدها على جدار غرفتي.

عندما قرأت «عابرات» للكاتبة حنان خير بك، الذي صدر في بداية الألفية الثالثة واحتوى على مجموعة قصص لنساء عابرات تحت أسماء مستعارة، استطعت معرفة بعضهن خصوصا الفنانات، اللواتي اقتربت منهن الكاتبة بحكم امتلاكها مجلة فنية شهيرة حينها، إلا أنني توقفت كثيرا أمام قصة «صابرة» اسم مستعار لصحافية سورية كانت في العقد الخامس يوم نشر الكتاب تنتمي «صابرة» لعائلة دمشقية عريقة يسبق كنيتها لقب بك كان والدها أديبا ذاع صيته في بلاد الشام، وأصدر مجلة «البصائر» الشهرية، ولا يغيب عنها ذكر تلك المخطوطة الثمينة والمكتوبة بماء الذهب التي أهداها والدها للسلطان عبد الحميد الثاني. تصف الكاتبة «صابرة» قائلة: هي تواقة إلى البوح الذي تسترسل فيه بصخب وحنان موحشين يلقيان بامرأة قطع الحبل السري بينها وبين ماضيها، فإذا هي تروي ذاكرة امرأة أخرى مجهولة الأقدار.

حققت «صابرة» للمجلة حينها سبقا صحافيا عندما استطاعت إجراء مقابلة مع «زهرة» أو أم توفيق الزوجة الأولى لنزار قباني بعد وفاته بأسبوع في لندن، وكانت أم توفيق دوما بعيدة عن الإعلام، إلا أن «صابرة» استطاعت اختراق عزلتها، فهي ابنة حواري دمشق العتيقة، وصديقة قديمة للعائلة ونشر السبق مع صور نادرة لنزار وزهرة في صباهما.

كانت للصحافية زاوية خاصة تسرد فيها ذكرياتها شبهت نفسها بمارلين مونرو، لكن بشعر أسود، وأضافت قائلة: كنت مثلها صغيرة الحجم كبيرة بالفعل. ومثلها غبية في الحب، لامعة في الحياة ومثلها بلا حظ. وعن سيرتها المهنية قالت: أنا اسم معروف في صحافة الخمسينيات والستينيات رغم الانقطاعات التي دفعتني لاحقا إلى الصفوف الخلفية في هذه المهنة التي لا ترحم. في عمر السابعة عشرة بدأت «صابرة» مسيرتها المهنية كمحررة متدربة في جريدة «الميادين» لصاحبها بكري مرادي، كما تتذكر يوم سافرت إلى مصر، وزارت دار الهلال، وقابلت أمينة السعيد رئيسة الدار والناشطة في حقوق المرأة، فتحت القاهرة أبوابها للصحافية الدمشقية فكتبت عنها مجلة «الكواكب» ونشرت صورتها وتعرفت على نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي، والصحافية خيرية خيري وحازت حوارا مع عميد الأدب العربي طه حسين. ولصالح جريدة «النصر» السورية، أجرت حوارات مع قادة ثورة 23 يوليو/تموز محمد نجيب وصلاح سالم، ومقابلة تصفها بغير المسبوقة مع جمال عبد الناصر.

في «بيروت» صادقت صابرة فريد الأطرش، الذي اختار أن يقضي سنواته الأخيرة في «ست الدنيا» ونشأت بينهما علاقة صداقة واستلطاف، تقول إنه وسط إليها الصحافي محمد علي فتوح زوج المغنية سعاد محمد، محملا إياه رسالة شفيهة يقول فيها: أحبها ولا أجد سبيلا إليها.

في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي انضمت «صابرة» إلى أسرة مجلة «الحوادث» اللبنانية، وتتذكر يوم أرسلها رئيس التحرير سليم اللوزي إلى مدير التحرير، الذي كان شابا فلسطينيا مقدسيا وتصفه قائلة: يشبه ممثلي السينما أكثر مما يشبه محرري المجلات. لاحقا أحبها وأحبته حد الجنون وبعد مضي أربع سنوات من قصة الحب وصل إليها بشكل مفاجئ نبأ زواجه، وهي تغطي أحد الأحداث الاجتماعية لجريدة «الحياة» وسط تساؤلات البعض ألست مخطوبة له؟

فصول الحكاية وتفاصيل المهنة ومرارة الحياة القاسية وغيرها من الأسباب دفعتني للبحث عن هذه الصحافية التي غمرها النسيان، الشخصية الغنية والمغامرة التي ملأت الحياة ألوانا. استطعت التوصل إلى اسمها من خلال الكاتب والصحافي طلال شتوي، الذي رأس تحرير مجلة «مرايا المدينة» لعشر سنوات والتي كانت «صابرة» أو «شكورة جميل بك العظم» ضمن أسرتها في التسعينيات. يجب أن تكون اليوم قد تجاوزت العقد السابع من عمرها.

باءت بالفشل كل محاولاتي في البحث عنها على شبكة الإنترنت، وكأنها لم تعش ولم تكتب ولم تعشق يوما.. لم أجد أي معلومة عنها.. كم هو موجع أن تختفي كل كلمة كتبتها، كان البحث عن بعد في «دمشق» صعبا، تذكرت اسم العائلة العريق ووجدت صفحة تحمله وتعرض صورا لشخصيات من أعلام العائلة، حاولت مراسلة صاحب الصفحة والسؤال عن شكورة والمفاجأة عندما قال لي إنها خالته، والخيبة حين علمت أنها توفيت منذ أعوام قليلة وتدفقت أسئلتي عليه كالسيل، ولم أحصل على إجابات! أحزنني الخبر كان لديّ أمل بالوصول إليها والتحدث معها، لكنه انقطع وغرقت في بحر البحث عن الأرشيف، وهي أيضا مهمة شاقة، خاصة أنها كتبت ما يشبه المذكرات لإحدى المجلات وكلما اقتربت من الوصول إلى بعض ممن يمتلكون الأرشيف أجد أنهم أضاعوه، أو تخلصوا منه بشكل ما.. أتمنى من كل شخص يمتلك أرشيف كاتب أو صحافي أو مبدع أو سيرة ذاتية أو رسائل ذات قيمة أدبية، ألا يجعلها حبيسة الأدراج يأكلها الزمن ويطويها النسيان. يجب ألا تموت الكلمة، حاولوا إخراجها إلى النور. شكورة العظم هي حكاية قد أكون عرفت طريقي نحوها، لكن هناك مئات القصص التي غمرها التراب وينتظر أصحابها من ينفضه ويعيد إليهم ألقهم القديم.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي