الناقد العراقي كه يلان محمد: النقد هو البحث عن الأثر الفني وليس محاصرة النص الإبداعي بالنظريات

2022-01-26

حوار: راضية تومي

في هذا الحوار مع الناقد العراقي كه يلان محمد، نتعرف على جانب من اهتماماته وممارساته النقدية، التي ترى في النقد «محاولة لقراءة كاشفة» و«عاملا لتحرير النصوص من ثيمات مستهلكة». يمتلك الكاتبُ العراقي في رصيده الكثير من المقالات النقدية والمراجعات التي تناولت العديد من الروايات والمجموعات القصصية، والكتب الفلسفية، ما يلقى الضوء على التمفصلات الخفية للنصوص وعلى المدهش والجميل في عالمي الإبداع والفلسفة.

هل اهتمامك بالأدب هو اختيار شخصي، أم نتيجة لِمسار حياتي مُسبَق هيّأك لتنساق خلف تيّاره الجارف؟

بالطبع لا يُنكر دور البيئة على اختيارات المرء، فنشأتي وسط أجواء تصدرت فيها الكتب المشهدَ، من المؤثرات المهمة على تكوين الرغبة الأدبية. صحيح أنَّ معظم المؤلفات التي تضمها مكتبة والدي من الصنف العرفاني والديني، غير أنَّ الأدب لم يكن غائباً في هذا الفضاء، كذلك بالنسبة للفلسفة والعلم. وهذه التشكيلة المتنوعة من العناوين تعتبرُ دافعاً للانفتاح على عالم تتجاور فيه آراءُ وأفكار مختلفة. وما يشدك أكثر نحو هذا المنحى المعرفي ليس وجود المكتبة، ولا رصّ العناوين على رفوفها وحسب، بل القصص التي تروى عن حيثيات معرفة واكتشاف كاتب، ما يُولد لديك الرغبة للسياحة الفكرية والسفر في أزمنة الآخرين. إذن فإنَّ ما يقوله أليساندرو باريكو، إن الإنسان قبل أن يكون شخصاً، هو عبارة عن حكايات، ينطبقُ على الكتب أيضاً. وبالتالي فالأدب هو اختيار شخصي واهتمامي بهذا المجال يمكن وصفه بالانزياح الجزئي عن مسلك صاحب المكتبة، أقصد الوالد، فبينما كان الأخير مهتماً بالأدب العرفاني والدراسات الدينية، أنا انصرفت أكثر إلى قراءة الروايات، ومن ثُمَّ ينضجُ الوعي إلى أن يتم الإدراك بضرورة متابعة الأدوات التي تحفر في طبقات النصوص الأدبية. إذن الوعي النقدي لا ينشأُ إلا بعد مرحلة القراءة والاكتشاف للدروب المتشعبة.

من خلال تنوع مقالاتك النقدية، التي تتناول فيها كتبا وروايات ومجموعات قصصية مختلفة، ما الذي تعنيه بالنسبة إليك القراءة، وهل ترى فيها فِعلاً وجوديا؟

القراءة اختيارُ، صحيح ربما واقع الحياة يلعبُ دوراً في الدروب التي تسلكها هذه الحقيقة، وقد لا تفسرُ كل الدوافع وراء الاهتمام في مجال دون غيره، وهذا التنوع في القراءة هو رفض وثورة على التقييد المنهجي الذي يفصل بين الحقول المعرفية، وبالتالي يفرّغ القراءة من المتعة، لذا فإنَّ الانضواء تحت مظلة المناهج يؤدي إلى قطع الطريق أمام الاختراقات المعرفية، ويجففُ منابع الإبداع لأنَّ الإطار يقتل شغف الانطلاقات الحرة في براح الحياة. ونحن بصدد الحديث عن فن الرواية، حري بنا الإشارة إلى ميلان كونديرا بوصفه مدرسةً في الكتابة الإبداعية إذ تنفتحُ أعماله الروائية على المفاهيم الفلسفية، والفن التشكيلي والموسيقى والتاريخ والعلم، كل ذلك تضمه الرواية الكونديرية. كما شرّعَ أفقاً جديداً لتذوق النصوص السردية، من خلال ما قدمه في كتبه «اللقاء» و«فن الرواية» و«الوصايا المغدورة» من مقاربة غير تقليدية للمؤلفات الإبداعية. كذلك الأمر بالنسبة للمفكر الإنكليزي كولن ويلسون الذي تتسعُ محتويات كتبه لشتى المعارف، وتتوإلى الإحالات الضمنية والمباشرة إلى مجالات مختلفة، وبهذا يضفي بنية حوارية لمضامين منجزه الأدبي والمعرفي. بالنسبة لوصف القراءة بأنها فعل وجودي، نعم يصحُ أن نعتبرها محاولة لتخيل أشكال حياة لم نختبرها، وقد لا نعيشها في المستقبل، وبحثاً للأسئلة التي قد نتهربُ منها داخل السياقات الأخرى. ولا بدَّ من الاعتراف بأنَّ القراءة لن تكون بديلاً للحياة والتجارب، ولا تختمرُ الأفكار في صومعة المكتبات وردهات الأكاديميات، بل الشرارة الذهنية لا تلتهب سوى في الهواء الطلق.

وما الذي قادك إلى النقد الأدبي، هل هو التخصص العلمي أم ميل شخصي؟

ربما الدهشة بالنصوص الإبداعية، وبالمعمار الروائي، وبالتنظيم الذي يتجسدُ في حركة الشخصيات وعلاقتها بالمكوّن الزماني والمكاني، وبما يعني الحدث في تضاعف التشويق داخل البنية الروائية، كانت محرضاً للارتياد نحو المعترك النقدي، والمضي منقباً وراء السحر الكامن في طبقات النص والمضمر في خطابه. هنا من المناسب التذكير، بأنَّ النقد ليس محاصرة للنص الإبداعي بترسانة من النظريات والمصطلحات، بقدر ما هو بحث عن مفاتيح الأثر الإبداعي ومشاركة الآخر في عملية الأبعاد الجمالية للمنجز الأدبي.

يشمل النقد الأدبي اليوم نشاطين مستقلين نسبيا. فمن ناحية هو مراجعات الكتب في الجرائد والإذاعة والتلفزيون، وهو ما يسمى عادة «النقد الصحافي» ومن ناحية ثانية هو المعرفة التي تحيط بالأدب والدراسات الأدبية والبحوث في مجال الأدب، ويسمى هنا «النقد الأكاديمي» فأيّ نوع من هذين النقدين تمارسه ولماذا؟

أتابع النقد بشقيه الأكاديمي وغير الأكاديمي، وعلينا الاعتراف بأنَّ ليس كل ما ينشرُ موسوماً بعنوان الأكاديمية، يضيفُ إلى الحقل النقدي ويعيدُ الحراك إلى الحلبة الإبداعية، ويحددُ التحولات في المذاق الأدبي. كثيراً ما نتفاجأُ بالفجوة القائمة بين ما يوحي به العنوان العريض والدسم عن السردية والإبداع الشعري وضحالة المحتوى، بيد أن ذلك لا ينفي وجود محاولات جادة على الصعيد الأكاديمي، ويمكن الإشارة إلى ما قدمته الأكاديمية التونسية ابتسام الوسلاتي في كتابها «الهامشية في الأدب التونسي» حيثُ أضاءت بحفرها المعرفي جوانب جديدة عن أدباء «جماعة تحت السور». وعلى المنوال ذاته أنجزت كتابها الجديد عن بيرم التونسي، كذلك الأمر بالنسبة للأكاديمي اللبناني لطيف زيتوني، فقد قدّم إضافات مهمة في مجال النقد الروائي. وما نشر حديثاً للناقد العراقي حسن سرحان بعنوان «السرد المستحيل دراسات في السرد العربي» يغطي مفاهيم نقدية ويفتحُ مجالاً لمناقشة جملة من الظواهر في خط الكتابة الروائية، لافتاً في السياق ذاته إلى ضرورة عملية نقد النقد. أحاول أن أستفيد من كل هذه التجارب ولا أعتبرُ بأن ما أقومُ به عملية نقدية، بل هو محاولة لقراءة كاشفة قد أصيب وقد لا أصيب.

لا يطلقُ النقد الأحكام على النصوص وإذا وقع في هذا المطب يفقد مسوغاته إنما هو مناورة مع الأثر الإبداعي للإبانة عن خصوصيته، وما يكون بمثابة الهوية في النصوص وسد الثغرات الموجودة في بنيانها.

وهل ينحصر النقد في الحكم على الأعمال الإبداعية، أم له دور آخر؟

لا يطلقُ النقد الأحكام على النصوص وإذا وقع في هذا المطب يفقد مسوغاته إنما هو مناورة مع الأثر الإبداعي للإبانة عن خصوصيته، وما يكون بمثابة الهوية في النصوص وسد الثغرات الموجودة في بنيانها.

ألا ترى أنّ وظيفة الناقد هنا ليست سوى وظيفة مِيتَالُغَوِيَّة، باعتبار أنها لا تَخلق عملاً إبداعيا بل تكتفي بالحديث عنه؟

بالطبع يسبقُ النشاط الإبداعي العملية النقدية، ما يعني أنَّ النقد هو نص لاحق وتتأسس مقولاتهُ على تشكيلة ليست من صنيعه، لكنْ كون النقد قائماً على نص آخر لا يعني إمكانية إلغاء هذا النشاط، لأنَّ النقد يتيحُ المجال للتعددية في القراءات، ويحمي النص من وباء القراءة الأحادية. كما أنَّ اكتشاف الغائب في المعطى الإبداعي هو من أوّليات العملية النقدية. أكثر من ذلك فإنَّ النقد قد يكون عاملاً لتحرير النصوص الإبداعية من ثيمات مستهلكة وصياغات رتيبة، كما أنَّ النقد يضاهي الإبداع في وظيفته التحريضية على التفكير، وإذا كان النص الإبداعي يقيمُ لعبةً مع خيال المتلقي، فإنَّ النقد لعبة موازية مع ما لم يكن ضمن فرضيات صاحب الأثر الأدبي.

من الواضح اهتمامك الشديد بالفلسفة، فهل تعتقد أنها قد تصبح زورق النجاة في عالم اليوم المتصدِّع والمُهدَّد بالنزاعات العرقية والدينية؟

وظيفة الفلسفة هي تحطيم الأوهام التي تتغذى على الخوف والأمل أقصد الفلسفة كما فهمها روادُ الرواقيين والأبيقوريين. لقد شهد العالم خلال الغزوة الوبائية صحوة فلسفية، وتوسل الجميع بهذا النشاط الذهني بحثاً عن المناعة العقلية، وسعياً لإعادة الهدوء للنفوس المترنحة، وتنتظمُ السيرة الفلسفية على مبدأ التواصل دون الإلغاء بخلاف ما هو سائدُ في الحقل العلمي، إذ لا تنشأُ النظرية الجديدة إلا على أنقاض ما سبقها. لا يركن الأثر الفلسفي إلى الرف، لذا فمن الطبيعي أن تكون الفلسفة اليونانية منطلقاً للعقلانية، وبذلك تغطي كل الأنشطة السلوكية والعقلية وترسي قاعدة للفهم. لا تبشر الفلسفة بأنها تصلح ما أفسده غيرها، هذا ديدن الفلسفات المؤدلجة، أما الفلسفة العملية فتضع الإنسان أمام مصيره ولا شيء يفيده سوى المواظبة على تحسين نمط التفكير، لأنه «كيفما تكون أفكارك المعتادة تكون طبيعة فكرك» وحياتك أيضاً. لا تؤمن الفلسفة الرواقية إلا بالإنسان الكوني وتناهض التصنيفات العرقية والطائفية، وفي الحقيقة أن الصراعات الدامية والمكلفة، طبعت التاريخ البشري منذ الأزل، وما يختلف هو المسميات ولا يُستبعد التذرع بالفلسفة لقتل البشر، كما يُقتل باسم الدين وباسم شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، وما يخفف من حدة التوتر في هذه المعمعة الكونية، هو البحث عن الحل الفردي، وهذا ما تنشدهُ الفلسفة العملية، وعلينا أن نقول مع أبيقور إن الفلسفة التي لا تهدئ قلق الروح، تخسر قيمتها تماما، كما الطبيب الذي لا تنفع أدويته لتخفيف آلام الجسد يفقدُ دوره.

من خلال قراءاتك ومتابعاتك، مَن هم الكُتَّاب الذين رأيت أثرهم الإيجابي في مجتمعاتهم بفضل أعمالهم الإبداعية؟

الكتب قد تحركُ المياه الراكدة لكن تأثيرها لن يكون مباشراً، وما غيّر خريطة المجتمعات، إلا مغامرة المكتشفين والرحالة. والإنسان بطبعه كائن يتأثر بما يخاطب عاطفته أكثر من تأثيره بما يكون موجهاً لأفكاره. صحيح أن مؤلفات فولتير وروسو كانت قاعدة فكرية للثورة الفرنسية، لكن الكلام الذي ينسب إلى ماري أنطوانيت، التي طالبت الجماهير بأكل البسكويت بدلاً من الخبز، ربما قد أجج لهيب الثورة أكثر، إلى أن انتهت بالإطاحة بزوجها. ولعلَّ ماركس من بين الفلاسفة هو أكثر تأثيراً بكتبه ومواقفه، فالبيان الشيوعي لا يزال يقرأُ لفهم عثرات النظام الرأسمالي. كما أنَّ تعليق مارتن لوثر أطروحاته على باب كنيسة ويتنبيرغ كان تدشيناً لمرحلة الإصلاح الديني، وبداية لتحول في مفاهيم قارة حول العلاقة بين اللاهوت والدولة. أيا يكن الأمر فلا بدَّ من وجود تواضع معرفي، ولا يفيد التوهم بأنَّ ما يُسطَّر بين طيات الكتب، يكون عاملاً وحيداً للتطور والتحول على الصعيد المجتمعي.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي