الباحث إسماعيل مهنانة: لا وجود للغة المستعمر ومعظم المثقفين الجزائريين أبواق أيديولوجية

2022-01-25

حوار: فريدة حسين

إسماعيل مهنانة أستاذ الفلسفة الغربية في جامعة قسنطينة، كاتب ومترجم وباحث في الفلسفة والنقد السياسي، ومؤسّس الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة. صدر له «في نقد العقل السردي» عن منشورات الاختلاف/ الجزائر، ودار ضفاف/ بيروت، « العرب ومسألة الاختلاف.. مأزق الهوية والأصل والنسيان» «كتابات على جدار الأزمة.. انسداد السياسة والثقافة في الجزائر» «الوجود والحداثة.. هيدغر في مناظرة العقل الحديث» ورواية «هالوسين». وترجم مهنانة كتاب «نزع الاستعمار عن المعارف ونظرياتها المسافرة» للمؤلفة سلوى لوست بولبينة. وأشرف رفقة مجموعة من الأكاديميين العرب على تحرير كتاب «الفلسفة العربية المعاصرة.. تحولات الخطاب من الجمود التاريخي إلى مأزق الثقافة والأيديولوجيا» وكتاب «من الكينونة إلى الأثر هيدغر في مناظرة عصره» وكتاب «إدوارد سعيد: الهدنة، السرد، الفضاء الإمبراطوري».

وفي هذا الحوار، يشرّح الباحث إسماعيل مهنانة واقع المشهد اللغوي في الجزائر من جهة، ويضع من جهة أخرى النقاط على الحروف بخصوص اللغة المحكية، اللغة الفصحى، لغة العلم واللغة الحية في عصر الانفتاح على العالم حيث الأفكار تتجول بحرية عبر كل الكوكب وعبر كل الثقوب والبوابات التي فتحتها تكنولوجيا التواصل، ويتحدث عن التعليم ورهانات إخراج اللغة من الدوائر الضيقة والصراعات الأيديولوجية لجعلها تتلاقح مع اللغات الأخرى، دون عقدة أو تعقيد، ويرفض رفضا قاطعا ما يسمى بـ«الأمن اللغوي» أو «الأمن الفكري».

ما هي قراءتك للمشهد اللغوي في الجزائر حاليا؟

يبدو أن السياسة اللغوية التي انتهجتها الدولة منذ الاستقلال، قد وصلت إلى حدودها القصوى، وتواجه انسدادا واضحا، فبعد الاستقلال تم اعتماد سياسة تعريب ارتجالية أمام واقع لغوي معقّد جدا، لم تتوفر أدوات تحليله علميا. أقصد وجود هجنة من اللغات المحلية والمحكية تم تهميشها وإخراس المطالبين بها مؤقتا، كما ورثت نخبا مفرنسة تمّ التخلص منها تدريجيا، لصالح النخب المعرّبة المستقدمة في أغلب الأحيان من المشرق العربي، خاصة في مجال التعليم. لكن المطلب الأمازيغي بقي قائما حتى تم الاعتراف به في حكم الرئيس السابق بوتفليقة. والآن يتم الكلام عن مشروع تعليم اللغة الإنكليزية بدل الفرنسية، وكلها أوهام سياسية، حيث لا توجد في البلد نخب ناطقة بالإنكليزية، ولا كوادر إنكليزية اللغة لقيادة هذا التحول، وحتى إن حدث ذلك سنجد أنفسنا أمام أربع لغات تفرض نفسها مستقبلا وتتنافس في ما بينها، أي الإنكليزية والعربية الفصحى والفرنسية والأمازيغية، وربما اللغات المحكية.

كيف يمكن تحقيق المصالحة اللغوية الوطنية ـ إن صحّ التعبير- وهل يمكن تكريس التجديد اللغوي بدل الهجنة اللغوية؟

الحل الجذري والوحيد يبدأ أولا من المدرسة بكل أطوارها. فالتلميذ الجزائري حاليا يتعلّم لغته الأم، أي اللغة المحكية، أمازيغية أو عربية دارجة، إلى سن السادسة، ثم يجد نفسه مجبرا على تعلّم العربية الفصحى، وبعد سنوات تُضاف إليه الفرنسية ثمّ الإنكليزية، بالإضافة إلى المواد المعرفية المقررة في المنهاج الدراسي، وهذا كثير جدا، وفي النهاية لن يتقن أي لغة من هذه اللغات سوى اللغة الدارجة. فالحل يكمن أولا في التمييز بين لغة التعلّم ولغة العلم، لغة التعلم الوحيدة التي يتقنها التلميذ هي لغته الأم، أي الدارجة المحكية التي يجب أن يتعلم بها العلوم والمعارف الأولية بالإضافة إلى اللغة الإنكليزية بوصفها لغة العلوم واللغة العالمية الوحيدة التي سيحتاجها فعلا في مستقبله المهني والعلمي. أما بقية اللغات كالعربية الفصحى والفرنسية والأمازيغية المقعّدة، فيجب أن تتحول إلى تخصصات جامعية لمن يريد أن يتخصص فيها في مرحلة الجامعة.

ما هو في رأيك مستقبل اللغة الفرنسية في ظل الصراع بين التيار العروبي والتيار الأمازيغي؟

الصراع في الأساس هو بين التيار الفرنكفوني والتيار العروبي، أما مستقبل الصراع فتحسمه خيارات الدولة في التعليم. أما الفرنسية فلديها من يدافع عنها وهي متجذّرة مثل العربية في الإعلام والنخب والجامعات.

تقف الجزائر الآن على عتبة دخول مرحلة جديدة على المستوى اللغوي، ما موقع الإنكليزية؟ وهل ستكون اللغة الحيادية التي ستجمع ما فرّقته اللغات الأخرى المستعملة ( الأمازيغية، العربية والفرنسية)؟

لا نعرف إن كانت هذ المرحلة تقوم على استراتيجية تعليمية مدروسة، أم أنها مجرد سياسة ارتجالية. لا شكّ في أن الإنكليزية هي الآن لغة العلوم والتعليم عالميا، ولا مفرّ من تطويرها ابتداءً من فرض تعليمها منذ السنة الأولى في المدرسة، لكن ذلك تواجهه مشاكل تقنية ومشاكل أيديولوجية. تتمثل المشاكل التقنية في عدم تجذّر هذه اللغة في المجتمع، أو في التعاملات اليومية، كما أنها لا تمتلك أي صحافة أو إعلام يرّوج لها (لا توجد أي جريدة أو قناة إعلامية، أو موقع إلكتروني بالإنكليزية) بالإضافة إلى أن التعليم بالإنكليزية يحتاج إلى جيش من المعلمين والأساتذة والإطارات الذين يتقنون هذه اللغة، وهذا غير موجود، ولا يمكن تحضيره في مدة سنوات قصيرة إلا ابتداء بفرض هذه اللغة في الجامعات. أما العوائق الأيديولوجية التي تعترض هذا المشروع فهي أيضا معروفة للجميع، أولها أن المدرسة لا تعلّم اللغات بهدف تلقين التلاميذ لغات جديدة.

اللغة ليست أطروحة، بل هي المكان الذي تنفتح فيه الروح، وهي الماء الثقافي والوجودي الذي نسبح فيه جميعا، وهي الأفق الذي تظهر فيه أشياء العالم عبر التسمية منذ الطفولة، وأول ما يتعلمه الطفل هو تسمية الأشياء، ابتداءَ بتسمية الألم عبر البكاء وتسمية الفرح بالمناغاة، ولا شيء يوجد دون لغة، بما في ذلك نحن.

في رأيك، هل لدى الجزائريين لسان واضح، أم أن لهم لغة هجينة (تزاوج اللغات الأمازيغية والعربية والفرنسية وقريبا الإنكليزية)؟

الهجنة ليست عيبا في حد ذاتها، وكل اللغات هي لغات هجينة، وذلك دلالة على حياة لغة ما وتطوّرها اليومي، وتلاقحها مع اللغات الأخرى، ومثال ذلك الإنكليزية الأمريكية نفسها، كل يوم تكتسب عبارات جديدة من اللغات اللاتينية والصينية والهندية والعربية بحكم الثقافات المتنوعة التي تعيش فيها، واللغة التي ترفض التلاقح اليومي، واكتساب كلمات جديدة يوميا محكوم عليها بالموت، وهذا ربما ما يحدث مع العربية الفصحى، اللغات العربية المحكية التي تتطور كل يوم.

هل نحتاج إلى ضبط اللسان الجزائري في ظل العولمة وثورة مواقع التواصل الاجتماعي التي لا تعترف بقواعد اللغة؟

لا يحتاج أي «لسان» أي ضبط لساني بل يحتاج إلى أولا إلى الاعتراف به، وتطويره، والإبداع به، وما تسميه «لسانا» هو في الأساس لغة حية لها قواعدها الداخلية، كما كانت كل اللغات قبل التقعيد، فالمؤكد تاريخيا، أن الممارسة تسبق التنظير والتقعيد، العربية الفصحى نفسها كانت لغة غير مقعّدة نحويا قبل سيبويه لكن هذا لا ينفي عنها صفة اللغة أو أنها كانت تُنطق دون قواعد، وذلك ينسحب على كل اللغات الحالية.

ما مفهوم اللغة الحية الآن؟ وما هو موقع الفصحى في عصر السرعة والانفجار الرقمي والثورة العلمية؟

اللغة الحية هي اللغة التي تتطور يوميا، إما بواسطة الاستعمال اليومي في الشّارع، وإما عن طريق استعمال العلوم الحديثة لها بشكل مستمر، وإما بهما معا. وهذا ما لا يوجد في اللغة العربية الفصحى حاليا، فلا هي لغة شارع، ولا هي لغة علوم حديثة، رغم جهود الترجمة التي تبقى غير كافية، مقارنة بالتحديات التكنولوجية والرقمية التي ذكرتيها. والمشتغلون في الحقل العلمي والجامعي في العالم العربي كلهم يدركون ذلك، فما أن نترجم كتابا أو نظرية جديدة إلى العربية حتى يكون العلم قد تجاوزها بكتب كثيرة ونظريات أخرى. هذا لا يعني دعوة إلى التوقف عن الترجمة إلى هذه اللغة، بل يعني دعوة إلى تدريس العلوم في الجامعات باللغة الإنكليزية مع مضاعفة جهود الترجمة.

إذا سلّمنا أن اللغة تدخل بطريقة سلسة في الفكر والفعل، كيف يمكن لاعتماد الإنكليزية في الجزائر بطريقة فجائية وعشوائية أن تؤثر في المجتمع والمدرسة والجامعة؟

لا يوجد إنسان عاقل يدعو إلى الطريقة الفجائية والعشوائية في اتخاذ قرارات استراتيجية تخص مستقبل أجيال بأكملها. لقد دفعنا ما يكفي من ثمن القرارات الارتجالية التي اتخذت منذ الاستقلال. وعلى النخب، السياسية والثقافية، أن تعيد الآن مساءلة كل تلك السياسات الارتجالية، التي لم تستند إلى واقع موضوعي، ولا إلى رأي الخبراء والمتخصصين. ولهذا فإن إدخال الإنكليزية إلى التعليم، بكل أطواره، يجب أن يوكّل إلى المتخصصين والعلماء واللغويين، وخبراء التربية وليس إلى الأيديولوجيين.. ولا إلى السياسيين. كما يجب فتح نقاش وطني بعيدا عن نقاشات الهوية والأيديولوجيا.

قرأنا مؤخرا عن فتح نقاش في بعض الجامعات الجزائرية حول اللغة التي ستُستعمل في التدريس خارج اللغات الرسمية، ما تعليقك؟

هناك أولا خلط شائع، حتى بين النخب، وهو الخلط بين اللغة الرسمية، ولغة التعليم، هذه الأخيرة يجب أن لا تكون بالضرورة لغة رسمية، بل لغة العلم، كما يجب تحديد الهدف من التعليم: هل هو إنتاج الإطارات والعلماء والمتخصصين، أم قولبة مواطن خاضع لمعايير الخطاب الرسمي. أما حشو عقول التلاميذ والطلبة بأربع أو خمس لغات منذ الطفولة، فلن ينتج لنا سوى الملايين من المتعلمين الأميين، الذين لا يتقنون أي لغة إتقانا شاملا، وهذا هو الواقع اليوم، والحل كما قلت هو الاكتفاء بتعليم اللغة الإنكليزية منذ المراحل الأولى والقيام بذلك تدريجيا بواسطة الدارجة الخاصة بكل منطقة بما في ذلك اللغات الأمازيغية كلّ في منطقتها.

يقال إن كبرياء المجتمع من كبرياء لغته، هل حان الوقت للحديث عن الأمن اللغوي في الجزائر؟

لا أحد يتكلّم عن الكبرياء إلا من يعاني أزمة هوية مزمنة، أو عقدة نقص تجاه المختلف، وهذا حال معظم المجتمعات العربية، ولا وجود لشيء اسمه الأمن اللغوي، أو الأمن الفكري إلا في الدول الشمولية التي تريد أمننة كل شيء. وهذا مستحيل أصلا في عالم اليوم، حيث الأفكار تتجول بحرية عبر كل الكوكب وعبر كل الثقوب والبوابات التي فتحتها تكنولوجيا التواصل. مشكلة اللغة حاليا ترتبط أساسا بقضية التعليم، ورهانها هو تخرّج إطارات وباحثين بمستوى عالمي وبأي لغة، أما ارتباط اللغة بالمشاعر، فاللغة الحقيقية التي تعبّر عن مشاعر المجتمع، فهي اللغة التي يعبر بها الأفراد في حياتهم اليومية، وهي اللغة الدّارجة الحية، لغة الفنون، ولغة النكت، ولغة الضحك، لا يوجد عربي الآن تُضحكه نكتة تقال له بالعربية الفصحى، إلا إذا تكلّف الضحك وامتطى شخصية تراثية. ولا عربي يعبّر عن الحب والغضب والفرح والحزن بالعربية الفصحى، بل سيعبر عن ذلك بالمصرية أو اللبنانية أو المغربية كلّ بلغته الأم.

ما هو دور المثقفين الجزائريين في دحر فكرة «لغة المستعمر التي يجب التخلص منها حسب بعض الأصوات؟

لا وجود للغة المستعمر طالما لم يعد ثمة استعمار. الفرنسية لغة مثلها مثل بقية اللغات الأوروبية التي يجب تعلّمها واستثمار القاعدة الثقافية الموجودة في المجتمع، وهي مثل العربية الفصحى، ومثل بقية كل لغات العالم، يجب أن تتحول إلى تخصصات جامعية وتخرج من المدرسة في أطوارها الأولى. إنها لخديعة كبرى أن تعلّم الشباب لغة لن يجد بها أي وظيفة مستقبلا، ولن يستطيع الهجرة أو الانخراط في البحث العلمي إلا إذا تعلم لغة عالمية أخرى. أمّا المثقفون الجزائريون فمعظمهم تحوّل لمحاكم تفتيش ورقابة، أو إلى أبواق أيديولوجية، لهذه الجهة أو لتلك، عن وعي أو دون وعي، عن مصلحة أو عن تدجين سابق. مع بعض الاستثناء طبعا. والضحية الكبرى هي الحقيقة والرؤية العقلانية للأشياء.

هل اللغة أطروحة أيديولوجية أم معرفية؟ وكيف يمكن للبراغماتية أن توازن بين الأطروحتين؟

اللغة ليست أطروحة، بل هي المكان الذي تنفتح فيه الروح، وهي الماء الثقافي والوجودي الذي نسبح فيه جميعا، وهي الأفق الذي تظهر فيه أشياء العالم عبر التسمية منذ الطفولة، وأول ما يتعلمه الطفل هو تسمية الأشياء، ابتداءَ بتسمية الألم عبر البكاء وتسمية الفرح بالمناغاة، ولا شيء يوجد دون لغة، بما في ذلك نحن. لهذا فإن استبدال لغة الأم، بلغة أخرى في المدرسة، من شأنه أن يفكك شخصية الطفل ويحوّله إلى ممثل فيتخلى عن شخصيته الأصلية. فالطفل الذي تطلب منه أن يتكلم باللغة الفصحى، أو تجبره على ذلك، كما تفعل المدرسة، سيجد نفسه مجبرا على تقمّص دور ما، غير نفسه، دور التلميذ على حساب الطفل الحقيقي الذي يعبّر عن مشاعره الحقيقية بلغة أمّه. التمثيل هو أداة السلطة، وهي فن ممارسة الكهنوت الخاص بها. لكن تعميمه على كل المجتمع يؤدي إلى اضطرابات سيكولوجية تمس شخصية الفرد. ومن هنا يكون قد بدأ الانفصام في شخصية الإنسان العربي المعاصر، الذي نشهده في كل سلوكاته الأخرى.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي