فيلم «جريمة على قطار الشرق السريع»: مفهوم العدالة لدى أجاثا كريستي والسينما العالمية

2022-01-24

زيد خلدون جميل *

 

تعتبر شخصية «هركيول بوارو» التي قدمتها الكاتبة أجاثا كريستي، أشهر شخصية محقق بوليسي خاص في عالم السينما، إذ ظهرت في العديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية، وأشهرها فيلم «قطار الشرق السريع» الذي عرض عام 1974 محققا نجاحا كبيرا. لكن هذا لم يكن الصفة الوحيدة التي جعلت هذا الفيلم متميزا ومن رموز السينما البريطانية، فقد كانت هناك جوانب غامضة كثيرة، بالنسبة لعملية إنتاج الفيلم والمفاهيم التي قدمها، لم يلحظها النقاد.

أحداث الفيلم

تدور أحداث الفيلم عام 1935 حيث كان المحقق الخاص الشهير «هركيول بوارو» (الممثل البريطاني ألبيرت فيني) قد انهى مهمة في الأردن، وخطط للعودة إلى لندن، على متن «قطار الشرق السريع» الشهير المنطلق من إسطنبول. وقام أحد أصدقائه، الذي عمل مديرا في الشركة المالكة للقطار بتدبير الحجز اللازم له في عربة مع اثني عشر مسافرا من بلدان أوروبية مختلفة، وكذلك من الولايات المتحدة الأمريكية. وبعد انطلاق القطار طلب أحد المسافرين الأمريكيين ويدعى «راتشيت» (الممثل الأمريكي ريتشارد ويدمارك) من «بوارو» أن يعمل حارسا شخصيا له مقابل مبلغ كبير، فقد استلم تهديدات ضد حياته، لكن الأخير رفض الطلب الذي أثار فضوله. وسرعان ما توقف القطار في شرق «كرواتيا» (كانت جزءا من يوغسلافيا في تلك الفترة) بسبب تراكم الثلوج على السكة. وفي تلك الليلة استيقظ «بوارو» بسبب سماعه صرخة إحدى الراكبات، لكنه سرعان ما عاد للنوم، ليستيقظ في الصباح التالي ويكتشف مفاجأة لم تكن في الحسبان، اذ عُثِرَ على «راتشيت» مقتولا في غرفته، ما أثار دهشة «بوارو» فالعربة تكون مقفلة أثناء الليل، وهناك حارس تابع للشركة طوال الليل فيها. وكون القطار في منطقة منعزلة، قام صديق «بوارو» الذي عمل مديرا في الشركة المالكة، وكان مسافرا على متن عربة ثانية في القطار، بتكليف «بوارو» بالتحقيق في الأمر، وأبلغه طبيب كان يسافر على متن عربة أخرى أن القتيل توفي بسبب اثنتي عشرة طعنة اختلفت في شدتها ومكانها. وبدا «بوارو» بهذه المهمة وكان الاكتشاف الأول رسالة في غرفة القتيل تبين أنه في الحقيقة رجل العصابات «لانفرانكوكاسيتي» الذي قام قبل خمس سنوات بجريمة اختطاف طفلة كان والدها عقيدا طيارا شهيرا في الجيش البريطاني، أما والدتها فكانت أمريكية. وعلى الرغم من دفع العائلة للفدية، فقد عُثِرَ على الطفلة مقتولة، ما ادى إلى وفاة الأم بسبب تعرضها للإجهاض وانتحار الأب. كما تنتحر خادمة في منزل العائلة بسبب تزايد ضغط الشرطة عليها، لكن سرعان ما يكتشف الجميع أن هذه الخادمة كانت عديمة الصلة بالأمر.
تستمر تحقيقات «بوارو» بشكل حثيث، ويكتشف تدريجيا أن كل من كان في العربة قد شارك في عملية القتل، لأنهم كانوا جميعا على صلة بالعائلة المنكوبة، لكن «بوارو» لم يبلغ السلطات اليوغسلافية بالحقيقة، بل ادعى أن القاتل كان من عصابات المافيا تسلل إلى القطار عند توقفه وخرج هاربا وسط الثلوج. واحتفل القتلة بانتصارهم الكامل في تحقيق مأربهم بشرب نخب الانتصار. وهنا تنتهي أحداث الفيلم.

الرواية الأصلية

كانت قصة الفيلم مقتبسة من رواية الكاتبة الشهيرة أجاثا كريستي، التي نشرت عام 1934 ونالت نجاحا كبيرا. وقامت الكاتبة بالاعتماد على عدة عناصر واقعية لإثارة القراء وترويج الرواية بداية بمكان الجريمة، فـ«قطار الشرق السريع» كان أشهر قطار في العالم وعُرِفَ بكونه قطار المشاهير والساسة الكبار، ما جعله رمزا للطبقة العليا من المجتمع الأوروبي ومثار حديث الناس لاسيما في تلك الفترة. وعرفت أجاثا كريستي القطار جيدا، لأنها سافرت على متنه عام 1928 متوجهة نحو العراق، إذ كان زوجها عالم آثار يعمل في موقع «نينوى» الشهير، ولذلك استطاعت أن تنقل تفاصيل الحياة في القطار جيدا، ومن المرجح أن الشركة المالكة للقطار اعتبرت الرواية دعاية غير عادية لقطارهم الشهير. أما توقف القطار في الطريق بسبب الثلوج، فلم يكن غريبا كذلك، حيث حدث ذلك بالفعل عام 1929 عندما علق القطار في منطقة غير مأهولة في تركيا لمدة ستة أيام بسبب تراكم الثلوج على السكة. وعندما أرادت الكاتبة العودة إلى لندن على متن هذا القطار عام 1931 تأخر انطلاقه لمدة أربع وعشرين ساعة بسبب السيول، وكانت شخصيات الفيلم مأخوذة من أشخاص حقيقيين التقت بهم الكاتبة في تلك الرحلة بالذات، وكذلك حبكة الفيلم.

 

كانت جريمة الاختطاف في الفيلم مقتبسة من حادثة حقيقية جدا حدثت عام 1932 واعتبرت أشهر جريمة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، عندما اختطف طفل (حوالي سنتين من العمر) كان ابن أشهر طيار في العالم تشارلز لندبرغ من غرفته بطريقة جريئة، وكانت أم الطفل حاملا بطفلها الثاني. وقامت العائلة بدفع الفدية اللازمة، إلا أن جثة الطفل عُثِرَ عليها بعد عدة أسابيع، وكان من الواضح أن الطفل قد تعرض لضربات قوية على الرأس ادت إلى وفاته. وقامت الخادمة الفرنسية في منزل العائلة بالانتحار لعدم تحملها ضغط الشرطة عليها، التي اعتقدت خطأ بوجود علاقة لها بالجريمة. وجميع هذه التفاصيل موجودة كجزء أساسي في الرواية والفيلم. كان عدد القتلة في الفيلم اثني عشر شخصا، ويمثل هذا عدد أعضاء هيئة المحلفين في المحاكم البريطانية والأمريكية، ما يعطي الانطباع بأن أجاثا كريستي اعتبرت أن القتلة كان لديهم الحق في أن يكونوا سلطة قضائية وتنفيذية تمتلك حقا شرعيا في العثور على القاتل وتحديد عقابه، وبالتالي تنفيذه. وفي الواقع لا يملك أحد هذا الحق الذي ينحصر في الجهات القضائية، التي تعترف بها الدولة وتكتسب سلطتها منها، فالجريمة في هذا الفيلم وقعت فوق الأراضي اليوغسلافية، ما يجعل الأمر برمته خاضعا للسلطات والقوانين اليوغسلافية، لكن القتلة لم يعترفوا بشرعية تلك السلطة، معتبرين أنفسهم السلطة الوحيدة، بل إنهم لم يبلّغوا السلطات الأمريكية عندما اكتشفوا، قبل اشتراكهم في الرحلة، أن القتيل كان خاطف الطفل، فمن الواضح أنهم اكتشفوا حقيقته منذ فترة طويلة واتفقوا على الاشتراك في عملية تنفيذ الإعدام، وقد دعمهم في مسعاهم المحقق الخاص الشهير «هركيول بوارو» نفسه. وبذلك فإنهم لا يختلفون كثيرا عن المجرم الذي قتلوه، هذا إذا كان الاتهام صحيحا أصلا، ولذلك فإن هذه الرواية الشهيرة الي تحولت إلى فيلم شهير جدا، ليست سوى دعوة إلى القتل، وأخذ الثأر وكأننا في عالم الغاب، ضاربة عرض الحائط بجميع أشكال الحضارة والدولة، أو أن أجاثا كريستي، حاولت أن تقول إن الإنسان لم يتغير على مرّ العصور، مهما كانت درجة ثقافته ومنزلته الاجتماعية، إذ أنه يخالف القانون ويتصرف كمجرم خطير عندما تسنح له الفرصة، معطيا نفسه الشرعية اللازمة على أساس أن لديه الحق في ذلك، حسب تفسيره الشخصي. لكن أجاثا كريستي في هذا الفيلم قامت بأكثر من ذلك، حيث مجدت ما قام به القتلة، حتى أنهم احتفلوا في النهاية بشرب نخب الانتصار بسادية واضحة.
ومع ذلك، فإن قصص الأفلام السينمائية لا تختلف في أفكارها عن هذه الرواية، حيث أنها دعوة لتحول الإنسان إلى قانون مستقل وجلاد قائم بذاته، وكأنه فوق قانون الدولة، ويملك مناعة ضد العقاب، بل كان قوة إلهية تسنده حتى النهاية التي تتمثل في تحقيقه أهدافه بنجاح منقطع النظير وسط تصفيق المشاهدين، الذين دفعوا نقودا لمشاهدة هذا الانتقام الوحشي، فالسينما تقرر من هو الشرير، أو الطيب بغض النظر عن المنطق.

إنتاج الفيلم

كانت مشكلة إنتاج الفيلم الأولى الحصول على موافقة أجاثا كريستي، التي ادعت أنها لم تكن راضية عن محاولات سابقة لتحويل رواياتها إلى أفلام مما ناقض ما سبق وقالته عن تحويل رواية «شاهد للادعاء» Witness for the prosecution (1957) حيث أبدت إعجابها به، ولذلك اضطر المنتج اللجوء إلى والد زوجته اللورد ماونتباتن، الذي كان أحد أبرز العائلة المالكة في تلك الفترة. وكان ذلك التدخل ناجحا حيث قبلت الكاتبة بعد تردد، وقيل إن أحد الأسباب أنها أعجبت ببعض أفلام المنتج السابقة مثل «روميو وجولييت» (1968). لكن هناك احتمالا كبيرا أن السياسة لعبت دورا في إنتاج الفيلم وإن الطبقة السياسية البريطانية أعطته اهتماما خاصا كي يمثل صناعة السينما البريطانية في تلك الفترة، لاسيما وأن بريطانيا كانت تستعد للاحتفال بعيد ميلاد الملكة الخمسين. ونجد أن القصة من تأليف أشهر كاتبة بريطانية والتمويل بريطاني تماما والممثل الرئيسي بريطاني، وتم جمع عدد كبير من النجوم العالميين فيه. وكان أسلوب جمع هذا العدد الكبير من النجوم في فيلم واحد متبعا في السبعينيات، لاسيما في أفلام الكوارث والحروب مثل «مطار 75» Airport 75 و»الحريق العالي» The Towering Inferno و»جسر بعيد للغاية» A Bridge Too Far الذي ضم العدد الأكبر من مشاهير الممثلين. وهذا الأسلوب مفيد بالنسبة للفيلم، حيث أنه يضمن أكبر عدد من المشاهدين، وكذلك بالنسبة للممثلين، حيث إنهم سيظهرون في فيلم شهير مع زملاء كبار مثلهم.

كانت المشكلة الثانية جمع تلك المجموعة الكبيرة من مشاهير الممثلين للاشتراك في الفيلم، حيث إن ادوارهم جميعا، باستثناء دور «هركيول بوارو» كانت ثانوية، ما قد يثير حفيظة بعضهم. وكان الأول شون كونري، أشهر ممثل في بريطانيا آنذاك بسبب سلسلة أفلام «جيمس بوند» ولذلك طالب الممثل بنسبة من ريع الفيلم (اشتهر «شون كونري» بمطالب من هذا النوع). وسرعان ما قبل الآخرون، على الرغم من أن أغلبهم كانت له بعض المطالب، فلورين باكول أصرت على أن تكون أحذيتها مصنوعة في باريس، وطالب ألبرت فيني أن يكون أجره الأعلى، لأنه الأكثر ظهورا، حيث أنه مثل الشخصية الرئيسية، أي «هركيول بوارو» بينما استلم كل من الممثلين الآخرين مبلغ مئة ألف دولار، وقيل إن أحد أسباب قبولهم كان إعجابهم بالمخرج. وفاجأت أنغريد برغمان، صانعي الفيلم برفضها الدور الذي قُدّمَ لها مفضلة دورا أصغر، فقام المخرج بتغيير النص لتجميع بعض المشاهد المخصصة للشخصية التي مثلتها في مشهد واحد كان طوله حوالي خمس دقائق دون أن يسبب ذلك إزعاجها. أما النجمة البريطانية جاكلين بيسيت، فلم تطالب بأي شيء خاص، حيث قالت «لا يوجد دور صغير، لكن هناك ممثلين صغارا» واعتبرت دعوتها للتمثيل في الفيلم دليلا على مكانتها المرموقة.
تم تصوير الفيلم في ستوديو في بريطانيا، لكن المشاهد الخارجية صورت في فرنسا، وواجهت المخرج مشكلة مشهد تراكم الثلوج أمام القطار، مانعة إياه من التقدم، حيث لم تتساقط الثلوج، على الرغم من التوقعات. وبعد طول انتظار اضطر المخرج طلب جلب ثلوج من منطقة أخرى عن طريق الشاحنات. وكانت المفاجاة أن الثلوج تساقطت بكثافة في الليلة التي سبقت التصوير، ما أدى إلى انحشار الشاحنات وعدم جلبها للثلج المطلوب، لكن الحاجة لذلك الثلج كانت قد انتفت بسبب تراكم الثلج المتساقط على السكة، وأصبح المشهد طبيعيا جدا.
الغريب في الأمر أن النجوم الكثيرين في الفيلم كانوا على وفاق تام مع بعضهم بعضا، وقضوا جميعا وقتا ممتعا لاسيما النجم البريطاني جون غيلغوود، الذي كان الأكبر سنا والأكثر حديثا عن تجاربه الكثيرة. لكن فانيسا ريدغريف أثارت مشكلة مضحكة، إذ كانت مؤمنة بالأفكار الاشتراكية، وأخذت تلقي محاضرات على عمال مطعم الاستوديو الذين ضاقوا ذرعا بها وبمحاضراتها، فقدموا شكوى رسمية للمخرج لإجبارها على تركهم وشانهم.
كانت ميزانية الفيلم أربعة ملايين وخمسمئة ألف دولار، لكن نجاحه كان كبيرا حسب معايير تلك الفترة، حيث أصبح أحد أكثر أفلام عام 1974 نجاحا عالميا، ونالت أنغريد برغمان على جائزة الاوسكار كافضل ممثلة ثانوية، وربما كونها ممثلة اشتهرت منذ فترة طويلة وإصابتها بالسرطان كانا عاملين مهمين لحصولها على هذه الجائزة.
ما تزال العربة التي تم تصوير مشاهد الفيلم فيها موجودة في أحد المتاحف اليونانية، حيث توجد فكرة لإعادة إحياء فكرة «قطار الشرق السريع». وقد أعلِنَ مؤخرا أن هذا القطار سيعود إلى العمل عام 2023 رابطا العاصمة الإيطالية «روما» بباريس وإسطنبول.

 

*مؤرخ وباحث من العراق







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي