كتاب «رومنطيقيو المشرق العربي»: من حجب الواقع إلى إغلاق الدائرة

2022-01-19

عمر كوش

مفاجئ أن يُطلق وصف الرومنطيقية على معظم تيارات الفكر السياسي، الذي ساد منطقة المشرق العربي بعد الحرب العالمية الثانية، كونه يحيل كمفهوم في أقلمته الأدبية إلى الرومانسية الحافلة بالمشاعر والعواطف والأهواء والخيالات وسواها. وصادم تقبل إطلاق وصف رومنطيقي على أي من طغاة المشرق، وما أكثرهم، أولئك الذين ما زلنا نكتوي بنار ممارساتهم وسياساتهم في بلداننا المشرقية، وأسسوا نظماً شمولية وقمعية، بالاستناد إلى شعوبية ناكرة للواقع وقافزة عليه.

غير أن حازم صاغية ينحو منحى مختلفاً في كتابه «رومنطيقيو المشرق العربي» دار الريس ـ بيروت ـ2021، حيث يتناول المفهوم في أقلماته الفكرية والسياسية، وما اعتراه من تغاير وأرضنة جديدة، الأمر الذي تطلب منه القيام بمسح شامل لمعاني مفهوم الرومنطيقية ومبانيه «في مهده ومساره الأوروبيين، وفي تناقضات المعاني وتوافقاتها» مستنداً إلى تراث معرفي ضخم لمجموعة كبيرة من المفكرين والباحثين الأوروبيين والعرب وسواهم، الذين وضعوا الرومنطيقية على مشرحة النقد أو ناصروها ودافعوا عنها، كي يقدم جردة حساب شديدة النقدية للتيار الرومنطيقي ورموزه في المشرق العربي، وتبيان ما فعلته الرومنطيقية لحجب الواقع الفعلي ومسائله الفعلية، عبر تناول تجسيدات المفهوم وتعيناته في تيارات الفكر والسياسة المشرقيّين، من خلال رصد «أسباب اللاواقعية وعلاماتها، المباشرة منها والمداورة، في التيارات السياسية والثقافية، التي طغت على فكر المشرق العربي، ووفرت الأساس المطلوب لتوطيد الطغيان وتفويت وعي المواطن العربي» منذ انتقال المفهوم في ترحاله من الغرب الأوروبي، عبر السلطة العثمانية في أواخر عهدها، ليصل إلى تيارات الفكر والسياسة والثقافة في الأقاليم العربية، خاصة المشرقية منها في مرحلة ما بعد الاستقلال، حيث وجد تجسيداته في مركبات وتعينات متعددة، ومحايثة، نهضت على مجافاة الواقع الموضوعي والانفصال عنه، باجتراحها نهج الإنكار وممارساته، «بوصفه رفضاً للاعتراف بواقعية ما هو واقع» الذي يتصاعد لدى بعضهم ليبلغ درجة الهذيان والاعتلال النفسي.

وعليه أراد صاغية تقديم مرافعة «عقلانية» مطولة «دفاعاً عن التطابق مع الواقع ومع العالم، والربط بين تغيرهما باتجاه أكثر ديمقراطية وحداثة وتقدماً وعدالة بالإمكانات والأدوات التي يوفرها الواقع والعالم».

وبالنظر إلى أن تجليات الرومنطيقية أوروبياً ليست متطابقة مع أقلمتها عربياً، وهو أمر يعيه تماماً مؤلف الكتاب، لذلك فإن الجهد الذي بذله انصبّ في البداية على تعقب الرومنطيقية في المجال الفكري والثقافي الأوروبي، وتحديد جوهرها الذي يقف على التضاد، مع كل ما عناه التنوير والرأسمالية، وتشكيلها نظاماً في الفكر، نهض على «عدم الاعتراف بالتطابق مع الواقع» وارتكزت محددات وعيه في «تغليب الأصلي والطبيعي، الذي قد يكون متوهماً، على المصنوع، وتغليب العاطفة على العقل، والثابت الماهوي افتراضاً على المتحول، والقرية على المدينة، والوحدة على التعدد، والجذور على الآفاق».

أراد صاغية تقديم مرافعة «عقلانية» مطولة «دفاعاً عن التطابق مع الواقع ومع العالم، والربط بين تغيرهما باتجاه أكثر ديمقراطية وحداثة وتقدماً وعدالة بالإمكانات والأدوات التي يوفرها الواقع والعالم».

أما في تيارات الفكر والسياسة والثقافة الرومنطيقية المشرقية، بمختلف تعيناتها القومية والماركسية والإسلامية (إسلاميي السنّة وإسلاميي الشيعة) وصولاً إلى «حداثة ضد الحداثة» و«جائحة نقد الاستشراق» والطائفية وسواها، فقد استبدل العقل والعلم والعالم بالقرية والريف والطبيعة والصوفية والقوة والأمة والجذور والذات وتمجيدها، وتوكيد معاناتها ومظلوميتها. وبات «الغرب» نفسه «الشيطان» الذي استهدفته الرومنطيقية في المشرق العربي، بالنظر إلى الحضور الاستعماري الأوروبي الشامل فيه، وجاء الرد عليه مشرقياً، «ولا يزال يجيء، في هيئة يكشفها معظم عناوين الفكر السياسي العربي في القرن العشرين: الوحدة، العودة، البعث، الأصالة، الإسلام إلخ».

ومفهوم الرومنطيقية، مثله مثل سائر المفاهيم الحديثة، غير المقيدة أو غير الصلبة، يصعب وضع تعريف جامع له، فقد نشأ في ميدان الأدب والفن، والشعر تحديداً، ثم انتقل إلى الفلسفة والفكر والثقافة، وعرف أقلمات كثيرة بانتقاله بين المجالات المعرفية، وعبر الأقاليم البشرية، فيما تعود بدايات تشكل المفهوم إلى نهاية القرن الثامن عشر، رداً على تسيد عقلانية التنوير وصعود الرأسمالية، ثم ترعرع ونما وتعرّض لتغيرات وتبدلات عديدة، حيث جرت أقلمته وفق التربة المعرفية ومجالات التداول في الإقليم والجماعة، على أن نفهم الإقليم ليس جغرافيا فقط، بل بشراً ومحيطاً وتربة مكتنفة. واندرج نقد عقلانية التنوير والرأسمالية، أوروبياً، في سياق مراجعة الحداثة غربياً، ونقد أسسها الأنوارية، في مجرى انعراجاتها وانزلاقاتها نحو العنف الداخلي والخارجي، حيث ركّز فلاسفة ومفكرون كثر على نقد عقل الأنوار، الذي قدم نفسه ممثلاً لسلطة العلم الطاردة للأوهام والأسطورة، على خلفية اعتبار العقل مفتاح الحقيقة، واعتبار العلم قائد أسطورة التقدم المطرد، الذي لا يخطئ سبيله، الأمر الذي أفضى إلى تحول العقل إلى عقل أداتي مع انتصار ملكة الفهم على العقل، وتاه هذا العقل في الحساب، متخلياً عن وظيفته النقدية، وراح يتطابق مع فعاليات السلطة، عندما طغى على فعاليات الحياة وأنماطها، وأخذ شكل الآلة أو الوسيلة القادرة على إضفاء الأهمية لكل فعل، وإليه يعود تقدير أهلية وجدوى كل نشاط، وإثبات المعقول واستبعاد اللامعقول.

 

ويقرّ حازم صاغية، أو ربما يشتكي، من ترامي أطراف مفهوم الرومنطيقية، كونه يضم «شبكة ضخمة من المعاني التي تتناقض أحيانا» لكنه يجد الجامع المشترك بينها في العداء الحاسم للرأسمالية وللتنوير، وبوصفهما أيضاً اقتصاد الحداثة وثقافتها» إضافة إلى «الحدّة التعبيرية، والصوت الخاص، وضعف الحفل بالواقع وممكناته، لمصلحة تصعيد الذات وطاقتها المفترضة، ثم الإفضاء إلى خلاصات قصوى، إن لم تكن عدمية». ولا يقتصر الأمر على كل ذلك، بل يتعداه إلى أن الرومنطيقي يميل إلى تمجيد الجذور والأبطال والمخلصين والمرسلين والأنبياء، ويعلي من مكانة الإرادة، ويعشق «تغليب الذاتي على الموضوعي» والانسحاب من الواقع، وهجر المكان، والتمسك بالماضي وتمجيده، «فضلاً عن الحرية المطلقة للإرادة المحيلة وتحقيق الذات». فضلاً عن النكوصية والطوباوية وارتفاع حدّة دعوات العودة إلى الماضي، والانفصال عن الواقع والميل إلى محاولات القبض عليه «بمبضع الأساطير».

ويجري التركيز على مراجعة المعنى الرومنطيقي الجديد للزعامة المشرقية بعد انهيار السلطنة العثمانية وولادة الدول العربية، ابتداء من ثلاثينيات القرن العشرين المنصرم، وحتى خمسينياته، حيث تحول كثير من الضباط والموظفين العثمانيين إلى حكام لبلدان المشرق.

ويذهب صاغية إلى تحميل الرومنطيقية حمولات وصفات متعددة ومركبة، شديدة العمومية أحياناً، معتبراً أن «مرجعية الماضي» هي «من القواسم المشتركة بين الدين والرومنطيقية» وأن «العلاقة بين الأسطوري، وكل من الديني والقومي، تبقى من العناصر التي لا تُفهم الحركة الرومنطيقية دونها» لذلك «تبقى العودة إلى الأسطورة رفيقاً يلازم العودة إلى الطبيعة، لتنتصب بالتالي كواحد من أعمق التوجهات الرومنطيقية» إضافة إلى إشكالية علاقة الرومنطيقية بالقومية، خاصة نسختها النازية، التي تطال علاقتها بمختلف الدعوات والتيارات القومية العربية المشرقية وسواها. غير أن ما يتم السكوت عنه هو أن «الحضور الغربي» في بلدان المشرق كان احتلالاً أجنبياً، أراد إخضاعها بالقوة لسطوته وسيطرته، ولم يكن نتيجة تطور داخلي مثلما كان أمر التنوير والرأسمالية في بلدان أوروبا الغربية، وبالتالي من المجحف وضع ردات الفعل المشرقية على الاحتلال والاستعمار، في باب النزعات غير العقلانية المجافية للواقع، أو القافزة عليه. ومع ذلك يجادل صاغية بأن العجز عن تعقل الحضور الأوروبي في بلدان المشرق العربي «داخل سياقه الكوني» أفضى إلى سيادة ثنائية «مستعمِر ومستعمَر، وقوي ضعيف وناهب ومنهوب» مع نمو «قابلية للارتداد إلى وعي تآمري يفسر تفوق الغرب» ليخلص إلى أن «العجز عن استيعاب أسباب ذلك التقدم هو ما مهد له وعي سلطاني مهزوم، ومكتئب بانهيار السلطنة، مصحوب برومنطيقية ذات طبيعة حرفية وأبرشية، ليدفعه إلى المدى الأبعد، ولو بالانقلاب عليه، وعي أتاتوركي حركي، سطحي وقمعي وعلمويّ». وعليه يجري اقتفاء أثر الرومنطيقية الألمانية في ترحالها المشرقي عبر تركيا، بوصفها جسر العبور إلى وجهتها المشرقية، بالنظر إلى التأثر التركي الواسع والمديد مع تجربة ضبّاط «الاتحاد والترقي» الذين قادوا انقلاب 1908، ومن بعدهم الكماليون ومصطفى كمال أتاتورك، الأمر الذي عنى سبر محطات عديدة من التاريخ العثماني والعربي طوال القرن الأخير من عهد السلطنة العثمانية، حيث كانت العلاقة بالغرب الأوروبي طاغية في مختلف المجالات العسكرية والسياسية والثقافية، التي شابها صراع من طبيعة رومنطيقية، وسلكت مساراً عسكرياً عبر الاتفاقيات التي عقدتها السلطنة مع ألمانيا، إلى جانب مسار ثقافي تجسد في «صلة معقدة ومرتبكة مع الأفكار والقيم الديمقراطية والليبرالية على اختلافها» حيث مهدت التنظيمات ما بين ثلاثينيات القرن التاسع عشر وأوائل سبعينياته، التي أملتها العلاقة غير المتكافئة مع الأوروبيين، لظهور تحولات كبرى في تاريخ السلطنة، مع انتشار القومية بين الأتراك والشعوب الخاضعة لها، وصولاً إلى نهايتها وتأسيس الجمهورية التركية التي بناها أتاتورك وفق عصبية قومية تركية، عملت على تتريك وقومنة الإسلام وإضعافه، آملاً في الولوج إلى تاريخ العالم الحديث، الذي عنى بالنسبة إليه اللحاق بالغرب، لذلك سعى جاهداً للعمل على أوربة المجتمع التركي، واستدعى ذلك «محاباة المسلمين الأتراك على حساب الأتراك غير المسلمين، لتدجين الإسلام نفسه وإدخاله مهزوماً في مصهر القومية التركية» لكن المحصلة «وفي مكابرة رومنطيقية على الواقع، أُريد لدولة يفترض أنها حديثة منبثقة من زمن انهيار الامبراطوريات وموتها، أن تتبنى وعياً وسلوكاً إمبراطوريين مستفحلين». فضلاً عن أن الأتاتوركية «أحدثت في بلدها نقلة نوعية في الاتجاه العنصري» لكن في المقابل، لم يملك «الارتداد العربي ضدها في جعبته إلا رداً من الطينة ذاتها، لاسيما وقد عززه لاحقاً، عام 1939 ضم لواء إسكندرونة السوري إلى تركيا».

ويجري التركيز على مراجعة المعنى الرومنطيقي الجديد للزعامة المشرقية بعد انهيار السلطنة العثمانية وولادة الدول العربية، ابتداء من ثلاثينيات القرن العشرين المنصرم، وحتى خمسينياته، حيث تحول كثير من الضباط والموظفين العثمانيين إلى حكام لبلدان المشرق، الذين زاد لديهم منسوب الحنين إلى الماضي العاطفي المتوارث عن العلاقة العثمانية الألمانية، وزاد كذلك افتتانهم بألمانيا بعد الشعور العربي بالخديعة البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى، وتكثيف الهجرات اليهودية إلى فلسطين، وبدا للعرب في ذلك الوقت أن النظام الألماني النازي يقدم لهم «ما يشبه البديل المحبب والمرغوب» إضافة إلى أن «رفض النخب القومية في المشرق لـ«دول التجزئة» التي أنشأها الانتدابان البريطاني والفرنسي إنما انطوى ضمناً على رفض لنظرة تسبيق الدولة على الأمة، المعروفة بـ«النظرية الفرنسية» والتجارب تالياً مع «النظرية الألمانية» في تسبيق الأمة على الدولة، وهو ما ستكون له نتائج كارثية».

ويعتبر صاغية أن «الطائفية ليست لوناً من إحكام ميتافيزيقي تفرضه علينا دائرة تنغلق من كل الجهات، ولا هي سمة ماهوية وجوهرية تلازم تاريخنا» لكنه يعزو زيادة الانقسام الطائفي إلى الدور الذي لعبته الأنظمة القومية الأمنية، وكرسته في كل من العراق وسوريا ولبنان ومصر، «بحيث بات الخروج منها يتطلب تطورات استثنائية جداً، ولا يتحقق إلا ببطء شديد، لكنه حاسم وحازم، قياساً بتراكمه التلقائي.

وتحضر المحطة الناصرية، بوصفها سيرة لأهم «سير الزعامات في المشرق العربي» لكن جهة أنها تشف عن «ملمح أساسي في الوطنيات المعهودة» من خلال «تعريها من كل آمر عقلاني» ذلك التعري الذي عنى «تحررها من كل مساءلة ديمقراطية، تُحِدّ من نزوعها إلى الاستبداد» حيث تولت الرومنطيقية في هذه السيرة، وفي سواها من سير الزعامات المشرقية، القيام بإحدى «أبرز وظائفها ودورها في صوغ شرعية النظام» بالاستناد إلى «رومنطيقية التغلب على الأقدار». والأمر نفسه يجري على الزعامات الانقلابية في كل من العراق وسوريا ومؤسسي حزب البعث، الذين كانوا من أكثر المثقفين العرب رومنطيقية، وأكثرهم انفصالاً عن الواقع، وقفزاً فوقه، وكانت رومنطيقيتهم مقطوعة عن السياسة والفكر السياسي، ثم تحضر القضية الفلسطينية من جهة استغلالها وتوظيفها بهدف تمكين الرومنطيقية في حياة أبناء المشرق وأفكاره وسياسته، «لاسيما وقد أُحلت في موقع مركزي من ثنائيتي الدين والقومية والاشتراكية». كما تحضر الرومنطيقية، أيضاً، في تمظهراتها الإسلامية السياسية، السنية والشيعية، وكذلك البصمات الرومنطيقية في الماركسية، إضافة إلى تجسيدات الرومنطيقية في الشعر والأدب ونقد الاستشراق ومخرجاته ولواحقه الكثيرة، مع التوسع في تناول الطائفية، وتبيان ذلك الميل الذي يميز مختلف الجماعات الراديكالية ومثقفيها إلى «إنكار الطائفية أو التخفيف من أثرها وحضورها، ودور ذلك في التطهير الذاتي وتبرئة الذات الجمعية». وتبرير ذلك يجد متحققه في أن الإقرار بوجود تأثيرها في مجتمعات مثل لبنان وسوريا والعراق، يضعف انتماء بلدانها أو دولها إلى العصر الحديث، ويشي بانقسام الشعب وتشرذم الهوية الوطنية، لذلك يجري إنكارها أو إحالتها إلى «مجرد نوع من العيب والقصور الأخلاقيين، خارجيي المصدر غالباً، أما الشكل الأخبث لهذا الإنكار فهو ما رفعه النظام القومي والأمني في سوريا والعراق إلى مصاف المهمة الأيديولوجية التأسيسية، بما في ذلك تقديم سرديات للماضي مبرأة تماماً من هذا «العيب».

ويعتبر حازم صاغية أن «الطائفية ليست لوناً من إحكام ميتافيزيقي تفرضه علينا دائرة تنغلق من كل الجهات، ولا هي سمة ماهوية وجوهرية تلازم تاريخنا» لكنه يعزو زيادة الانقسام الطائفي إلى الدور الذي لعبته الأنظمة القومية الأمنية، وكرسته في كل من العراق وسوريا ولبنان ومصر، «بحيث بات الخروج منها يتطلب تطورات استثنائية جداً، ولا يتحقق إلا ببطء شديد، لكنه حاسم وحازم، قياساً بتراكمه التلقائي.

ولعل من المحطات المهمة التي يتوقف عندها الكتاب هي الثورات العربية، التي اندلعت ابتداء من أواخر 2010، رفضاً لواقع لا يحتمل، من الاستبداد والظلم والمهانة، وفجّرت احتجاجات واسعة بوصفها «انتفاضاً على عالم من المفاهيم والممارسات ساد مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وجاءت في «ظرف تاريخي سجل انهيار الأحلام المتضخمة والأوهام الرومنطيقية القومية جميعاً» بغية إخراج المنطقة من أولوية القضايا الرومنطيقية إلى أولوية الواقع الوطني المعيش للناس، وتغيير منظومة الأفكار التي حكمت وعيهم من خروج بلدانه من عهد السلطنة العثمانية.

وتنتهي الفسحات الشاسعة التي يغطيها كتاب حازم صاغية الضخم، الذي يقع في نحو 560 صفحة، بتبيان حيثيات اكتمال الدائرة الرومنطيقية، وإغلاقها على الناس في المشرق العربي مع الانقضاض على الثورات العربية وإفشالها، والذي توّجه صعود تنظيم «داعش» بوصفه «ابتذالاً للقومية العربية الرومنطيقية بالمعنى الذي كانته النازية ابتذالاً للقومية الألمانية الرومنطيقية» وبالتالي ارتسمت «داعش بصفتها الابتذال الأعلى للرومنطيقية المشرقية، والنهاية الدموية لثورات الربيع العربي، التي أغلقت معها الدائرة على سكان المشرق العربي. وإن جاء زمن ما كي يكسر هذه الدائرة في مكان ما، فإن «أول شروطه أن ترحل الأنظمة السياسية وتصطحب معها عدداً هائلاً من الأفكار والقناعات والولاءات، التي تحكمت طويلاً في أهل هذه المنطقة».

كاتب سوري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي