أحمد مفدي عاشقا للوطن في «الوقوف في مرتفعات الصحو»

2022-01-16

محمد الديهاجي

لعل القارئ المتمعن في نصوص هذا الديوان «الوقوف في مرتفعات الصحو» أحمد مفدي، عيون المقالات، النجاح الجديدة 1990» يلفي نفسه أمام تشكلات تصويرية متنوعة، لا تستقيم إلا ببنائها في صورة مركبة وكلية، تستحوذ على مساحات النص كله، ما يجعل الحديث، في هذا السياق، عما سماه أحمد الطريسي إعراب بالصورة الرؤيا، حديثا نافلا.

إن بناء صورة الوطن (وهي بالمناسبة متعددة) في تضاعيف الديوان قيد الدراسة) عملية في غاية الصعوبة، ولن تكون ممكنة إلا بمعاودة بنائها مرة أخرى كما تجلت في وعي الشاعر التخييلي. وجدير بالإشارة إلى أن صورة الوطن عند أحمد مفدي تحضر كمعطى متناه يعيش ألفة في الكبر، ذلك أن الصورة كما يقول باشلار تنقل الشاعر من «خارج العالم المباشر إلى عالم يحمل سمة اللانهائية». ومقولة «المتناهي في الكبر» متصلة «بنوع من تمدد الوجود الذي تكبحه الحياة، ويعيقه الحذر». يقول الشاعر في قصيدة (الوقوف أمام بوابة الوحدة والضياع):

أسأل عن عينيك…

في خارطة الوطن

وعواطف جيدا بين الوادي

ومراسي القصر شمالا…

تتهادى ثغرا يصمد في وجه الأعداء

ما يخفق في القلب

ترسمه العينان حدائق زيتون وعنب

ونخيلا (الديوان)

العروبة.. الوطن الآتي

واللافت، في هذه الأضمومة، هو أن صورة الوطن تتمدّد وتتقلص، حسب الجملة المسترخية في جلّ قصائد الديوان، وحسب نوعية الخطاب الأيديولوجي المستحكم في الصورة. مضمون هذا الكلام أن الوطن يحضر في المتخيل الشعري للمجموعة بوجهين متداخلين: القطري والقومي- العروبي، لدرجة أن القارئ يجد صعوبة في الفصل بين حدّيهما. يقول إبراهيم السولامي: «تتحرك ملامح هذا الوعي في التجربة الشعرية لأحمد مفدي من خلال موضوعين بارزين هما: صورة الوطن المغربي، وصورة الوطن العربي أو قل إنه موضوع واحد يضيق في الدائرة المكانية تارة، ويتسع أخرى، لأن الوجدان الذي خفق لهما، وجدان مزج بينهما مزجا لإحساسه بالمصير المشترك والمعاناة الواحدة».

لعبة التمدد والتقلص هذه، تجعل الصورة الشعرية في القصيدة تتلبس بتفاصيل وجزئيات دقيقة، من شأنها أن تفي بالقصد، نعني أن هذه التفاصيل هي من يحدد صورة الوطن في الصورة، وسيكون تعويلنا عليها كبيرا.

المعروف عن الشاعر أحمد مفدي أنه مثقف ورجل سياسة، ذو ميول قومية – عروبية حدّ الهوس. يتجلى هذا واضحا في مدونات المتخيل الشعري لهذا الديوان. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نعثر في قصيدة (إشراقات الذات الأولى في صحائف الوجد) إشارات واضحة لعدد لا يستهان به من المدن والأماكن العربية التي تعكس بقوة رابطة الانتماء هذه: الأطلس – مراكش – جبل الشيخ – الجولان، كما نعثر على أسماء أماكن عربية أخرى منثورة هنا وهناك كبيروت والعرائش والقدس وسبتة ولوكوس…والجديد ها هنا، هو أن هذه الأمكنة قد تجلت في طيات قصائد الديوان، بصورة لا علاقة لها بالماضي. فالحاضر يطوّف فيه الهلع والمهلوع، في انفصال تام عن الماضي. يقول الشاعر:

الحزن الضاغط يكبر في كل الطرقات نخيلا..

لتموت سفائن من قاتل، والخيل زيم.. ما كان يشع من الآمال بعينيه

غزاله…

أمسى يندثر…

المدُّ تبدّى صوتا ينكسر…

والسوط بطاقة تعريف – في خارطة الشرق- تمطى صاعقة

والملأ المنكود على أرصفة الدّوّ رُكامٌ منهمر…(الديوان)

إن صورة الوطن، عند أحمد مفدي، تنماز بالتوتر والانقطاع في الزمن: الحاضر ( الهش) والماضي (القوي) يقول:

تسألك امرأة غارقة في أمواج الإفك، وغابات الدخان

الثابت في الأعماق…

ما يدريك إذا سمعوا ما سُجّل – من ماضينا- في خبب الأنواق…

ما يدريك إذا سمعوا قاموا من سكرتهم

ومشوا في كل الطرقات تراودهم فيها نبضات الريح

إذ تغمزهم ديدنة الأبواق

فلتنعطفي كالطائر إن كسرت شوكته، ومشى

ينتفض الليل على قدميه، يقاسمه الغم على الجرح كسيحا ولتنعطفي أشرطة

كي تنفتح الأبواب وينتصب التاريخ.

أما حظ الشاعر من كعكة التمزق هذه، كان هو التيه والشك كمنحنى استقوت به الآلية الشعرية في هذا الديوان:

يا وطني العربي المنسي رتاجا علقه الصمت القبليّ

على كل الأبواب..

قد أحرقك القاتل في علب بنفايات سجائره..

وأراق النهر العربي دماء نخيل الشرق وما في القلب

من الأشواق

الوطن المستباح/ الشهادة

لم يكن للحضور القوي للوطن المستباح، في تضاعيف هذا المنجز الشعري، سوى أن يُقوّي من عزيمة الشاعر، ويذكي جذوة أمله في الخلاص. وتأسيسا على ذلك، يمكن القول باطمئنان شديد إن القانون المستحكم في ناصية القول الشعري المُفدي هاهنا، هو قانون « الشهادة والاستشهاد». الشهادة على واقع وطن مستباح، والدعوة في الوقت نفسه، إلى التضحية من أجله مع إلهابه الحس الوطني لدى الشعوب العربية، ومنها الشعب المغربي. يقول الشاعر:

يا أمة من ضاعوا/وانكبوا على الوجه أذلة

تغتالهم في كل مواخير العالم آنية اللذة

لكن من يعشق أن يمسخ

ينسلخ الجلد عن الوجه ليبدو عارا

تعرّى

يُمسي الموقف منه شعارا

ومتى حرّرت الأوطان شعاراته، أو أمست نارا

والملاحظ أن صورة الوطن عند الشاعر مثقلة بالجراح والانكسارات. هي صورة يستحكم فيها الاندفاع الوجداني التغييري، في أفق هوية وطن محتملة، يُشدّدُ عليها ويؤمن بها ويغار عليها، رافضا بذلك صورة الوطن الحالي، تلك الصورة المصابة بالدنس والفداحة. يقول:

يا كان ما كان… وكانت رياح

كانت حكايا… وأقاصيص بلادي وقضايا

أمست بغايا ومخانيث تباح

في القلب آهات ورياح

تعوي وتعصف باجتياح

إعصار محتقر على الأرض الجراح

يروي إذا عاد الصباح:

قصة الماس والكنز المخبأ في الرمال

لقد تلوثت حكايات الوطن وقصصه، كما أن تاريخنا المجيد شُيّد على أرض من رمل، لدرجة أن الأطماع الأجنبية أصبحت تتربص بنا من كل حدب وصوب:

الليل الجاثم يا وطني

خلف سواحلك البيض

يتفرس في آمال الخجلى شرسا

يتنور في باريس/يغيظ

فتنة أحلام، تسقط من أيدي الجند سلاحا

وتطول ذؤابات الحرف هنا نفسا..

إن الشاعر أحمد مفدي، وعلى امتداد صفحات هذه الإضمامة، ظل يغمز بوطن مضمر، من خلال دعوته الصريحة للانفصال عن المعطى والسائد، مع تأجيجه لثورية قادرة على نقل الافتراضي إلى الواقعي، دون المس بماهية جذورنا وأصالتنا.

الوطن المنشود/ الاستشهاد

على الرُّغم من أن أحمد مفدي، وعبر امتداد قصائد الديوان، ظل يُدين صور البشاعة التي انتهى إليها الوطن بضلعيه: القومي والقطري، إلا أنه ظل يُصرّ على توليد صورة محتملة لهذا الوطن الجريح، مستقويا في ذلك، بالخيال على مستوى متخيله الشعري، وبنزعته التحريضية ـ في غير عسر أو افتعال – الموجهة للشرفاء والأحرار من أبناء هذا الوطن. يقول في قصيدة (معلقة الذكرى على بوابة الوطن):

يا ولدي

بين الإنسان المغروس هنا وكما بين الوطن

عقد تسقيه الأمشاج وتحميه الأسياف علامه

ما بين العاشق والمعشوق

عهد لا ينفصم، حيث لا ينخرم ورد وولايه

في الليل الحالك عبر قرون الزمن

تمتد يد السلطان على الوطن

قوس قزح

وظلاله شامة حي وساقيه.

إن النزعة الثورية عند أحمد مفدي لا تستقيم إلا بحب الوطن حيث يُمسي، هذا الأخير، السند والمسند. هي إذن تجربة حلول صوفية بين عاشق ومعشوق تفوق أي نظرة تنظر إلى الوطن كقضية فقط. إنه توثب حر في مقامات العشق الصوفي، باعتبارها طريقا سالكا إلى الفناء والتوحد بين العاشق والمعشوق:

يا وطني..

لو تدرك كيف تجيش ملاءاتك في القلب

إذ تلبسني فيك عواطف أمشاجا

يسكنني الموقف منها أن أعشق حتى النخب

أن أسم البارقة/ حتى أسنفها قاطرتي/ حتى أرقمها

من أجلك يا وطني..

أستكنه في الذات غموض بدايه..

أسأل من يشرح لي ما أشكل في الأشواق

من أجلك يا وطني أسأل من يفتح لي أبواب الآيه

إذ قال الحلاج وفي يده صحف الإطلاق…

يا ولدي: معرفة المعشوق ولايه

قلت سلاما..

فأنا المعشوق «يا سيدي العارف» والقلب رياض المعشوق

قلت سلاما

كنته إن حل لماما

خاطرة في جسدي

كنته إن صار غماما

كنته لو يمسي سندي.

نستخلص من هذا المقطع أن الذات الشاعرة تعشق الوطن بكل ما امتلكت من قدرة على التوحد، لأنه لا مناص بالنسبة إليها، أن المعشوق قد ارتقى إلى مرتبة الجوهر. إن الذات ها هنا تتوحد بالزمن والفضاء والكون ناشدة حقيقة حقيقتها. وكل أبناء الوطن العربي معنيون بهذا العشق، من الشيخ إلى الطفل، حتى إن كان المصير هو الفناء/ الفداء، كما في حالة فلسطين، سيدة الشرق الزاهية بعرسانها/شهدائها:

يا سيدة الشرق المثقل

برهان الملل المنحوله

ما أروع أن تقفي في الصبح على الأطلال..

كي يبعث أطفال الضفه

ما أمسى في القلب يبابا..

بالأمس تعالت زغردة في مقبرة الشهداء

وتهادى الشارع يرقص للأطفال…

هكذا تُطلُّ علينا تحريضية أحمد مفدي، في هذه الإضمامة، كخطاب مثخن بثورية صوفية، ديدنها الرفض المضمر والمعلن، الرفض المطمور بالغضب، والداعي للاستشهاد باعتبار الأخير هو الطريق الوحيد للتغيير والتطهير في أفق وطن منشود.

إن صورة الوطن التي اقتفينا ترسيماتها عند أحمد مفدي في هذه الإضمامة الباذخة والمترفة، هي صورة متقلبة ومتحولة، وصادرة عن ذات قلقة، ذات تنشد الخلاص طيلة رحلتها الإبداعية، من خلال توليدها لثورية صوفية تارة، وليوتوبيا رومانسية تارة أخرى. إننا في هذه الدراسة وقفنا عند شاعر يفنى في وطنه عبر جدلية الرفض والأمل. رفض الحاضر المعطوب، والأمل في مستقبل مأمول، قد يأتي لكن بشرط التضحية والاستشهاد، وقد لا يأتي.

لقد ظلت صورة الوطن الحقيقي هاجسا كبيرا استبد بالمتخيل الشعري لهذا الديوان، وانتصارا حقيقيا للمستقبل المرتهن بالاستشهاد والوفاء للوطن.

كاتب مغربي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي