رواية «لون آخر للغروب»: محاكاة غرائبيّة لحياة واقعيّة

2022-01-16

مجدي دعيبس

تتنقل بنا هيا صالح في روايتها «لون آخر للغروب» بين حكايتين؛ حكاية تُعاش وحكاية تُكتب، لكن الحكايتين تتقاطعان في لحظة ما، فكيف يمكن لهذا أن يحدث؛ عالم من لحم ودم وعالم من حبر وورق؟ تفرّ الشخصيات من عالمها إلى العالم المقابل. هل يمكن تبادل الأدوار بين الكاتب وبطلة روايته؟ هل تكتبنا الرواية أم نكتبها؟ أسئلة كثيرة تطرحها الشخصيات، وتقودنا من خلال حيرتها وتشتتها إلى الحدود الملتبسة بين الحلم والحقيقة. ما بين كاتب يشعر بالغرابة، بعد أن أجريت له عملية زراعة قلب، وممرضة تتمتع بقدرات خاصة، وزوجة تبحث عن حب قديم، ومحقق يشعر بالفقد ويفتش عن حقيقة لا تقدم ولا تؤخر، وصاحب دار نشر يحوّل أي شيء إلى بضاعة ما دام هناك زبون يدفع، تتشكّل بإيقاع متزن مُدخلات «لون آخر للغروب».

لن أقول إنّ «لون آخر للغروب» أول رواية تستخدم تقنية الرواية داخل الرواية، أو الرواية الخارجية والرواية الداخلية، إن جاز التعبير، فهذا غير صحيح، لكن ما أقوله إنّ بناء هذه الرواية يسعى لخلخلة المألوف، وخلخلة قناعات المتلقي، ودفعه للتفكير والتأمل، ولا تقبل به ساكنا أو محايدا؛ فهو متعاطف ويشعر بضعف الشخصية ويقبلها كما هي حينا، وتراه ممتعضا ومحتارا ومشكّكا حينا آخر، لأن شخصيات الرواية تكشف الأفكار والهواجس التي تراودنا دون أن نمتلك الجرأة للبوح بها.

عندما يسبق القارئ الكاتب ويصبح كل شيء مكشوفا أمامه ويتماشى مع أفق توقعه، ما الفائدة التي سيجنيها من متابعة القراءة؟ وهنا نتحدث عن عنصر المباغتة، سواء على مستوى الحدث أو التحليل النفسي، أو التقنية أو الموقف، أو حتى عبارة تأمّليّة تدفعنا لإعادة القراءة والتّفكر مثل كمال الحياة في نقصانها، أو الحرب والوطن خرجا من الرحم عينه. الرواية زاخرة بالأفكار الفلسفية أو الجدلية. وحتى نقف مع القارئ على درجة واحدة، لا بدّ من عرض الحكاية؛ فـ«نجيب» الذي أجريت له عملية زراعة قلب مؤخرا، كاتب يتكسّب من الكتابة للآخرين. يكتب مجموعة قصصية لزبون ما فتلاقي رواجا وصدى عند النقّاد والقرّاء، لكن ما يحدث لاحقا يربك الجميع، حيث يختفي هذا الزبون ذو الميول الأصولية، في ظروف غامضة، ثم يُقتل زبون آخر كان «نجيب» قد كتب له رواية من قِبل جماعة متطرفة، وتبدأ الشرطة التحقيق في القضيتين، وحينها يبدأ «نجيب» إدراك الورطة التي تجره إليها أوراقه.

جاء الروي في «لون آخر للغروب» بالجزء الأول الذي يتحدث عن الكاتب «نجيب» على لسان السارد العليم، وحمل هذا الجزء أرقاما متسلسلة من واحد إلى سبعة عشر، أما الجزء الثاني فكان الروي فيه على لسان السارد بضمير الأنا، وحمل هذا الجزء عناوين تُظهر الوقت أو الساعة. فما سر هذه الساعة التي بدأت عند الثانية عشرة في الفصل الأول، وانتهت عند الساعة الثالثة وست عشرة دقيقة في الفصل الأخير؟ الفصول المعنونة بالأرقام المتسلسلة هي الرواية الخارجية، أي رواية «نجيب» و«سلام» أمّا الفصول المعنونة بالوقت فهي الرواية الداخلية التي يكتبها «نجيب» عن الزوجة الخائنة «وفاء» وحبيبها «كريم». وأشّرت الساعة إلى زمن قراءة كل فصل من فصول الرواية التي يكتبها «نجيب»؛ «زمن التلقي». فالرواية مبنية على ما يقارب نظرية التلقي المعروفة في النقد، والتي تتكون من (كاتب، متن، قارئ) فكان الكاتب هو «نجيب» والمتن روايته التي يكتبها عن «وفاء» والقارئ «سلام» الممرضة التي تقترب من عوالم «نجيب» بشكل غرائبي.

جاءت النماذج النسوية في الرواية الدّاخليّة غنية وتشع منها طاقة كبيرة؛ هي نماذج متأثرة بالفعل، أو الحدث أكثر من كونها صانعة له، لكن على الرغم من كل هزائمهنّ وسقطاتهنّ وخساراتهن، استطاعت هؤلاء النسوة حمل الرواية إلى ضفاف سردية بارعة، وعوالم نفسية معقدة تشبه عوالمنا الخفيّة إلى أبعد حدّ.

لا شك في أنّ الحكاية هي العمود الفقري للرواية، لكنّه يبقى هيكلا جامدا ومتصلبا، إن لم نؤثث فيه الحياة التي نعرفها بمتناقضاتها ومسلّماتها، فتتنامى المشاعر وتتضح الملامح ويتحول الهيكل العظمي إلى إنسان من لحم ودم يتأثر بمحيطه ويتفاعل معه.

أتقنت هيا صالح لعبة الزمن في «لون آخر للغروب» دون إسفاف أو مغالاة، فجاء الماء في اللحظة المناسبة، قبل أن يشعر القارئ بجفاف فمه، فيشرب ولا يرتوي، وهذه حرفة العارفين وليست حرفة من قال: يا خسارة مات بعد أن تعوّد قلّة الشرب. علاقة «وفاء» مع «عماد» الزوج، و«كريم» الحبيب، والأب المتجبر، علاقة معقدة بامتياز. الحياة والحياة الموازية، حياة في العلن وأخرى في الظل تشابكتا لتشيدا بنيان الرواية الداخليّة بمزيج من القبول والنفور، الحب والكره، النفاق والصدق، التعايش والصدام وغير هذا من المتناقضات الشائكة. وظلت الشخصيات تبحث عن نقطة التوازن النفسي؛ «عماد» الذي يدرك برود مشاعر زوجته تجاهه، يبحث عن الحب مع الأخريات، الأب المتشدد يجمع ثروة في فترة قصيرة، ويختفي فجأة ليلتحق بإحدى الجماعات المتطرفة، «سعاد» الشقيقة التي تزوجت ولم تنجب، تبحث عن الأمومة في طفلي اختها. «كريم» الذي ظلّ يلح عليه الحنين حتى عاد إلى وطنه سوريا، يلقى حتفه في انفجار هناك. «وفاء» التي أُكرهت على زوجها وجدت في «كريم» الشريك الذي حلمت به، كما وجدت في «نضال» والد صديقتها «لينا» الأب الحنون والمتفهم الذي لا يشبه والدها بشيء.

اللعبة الغرائبيّة في الرواية تحقّقت من خلال كريم – أو ما يمثله من ضحايا التفجيرات والحروب – الذي زُرع قلبه في جسد «نجيب» فراح ينبض بحب «وفاء» بطلة روايته التي كانت على علاقة حب بكريم، فظهرت لـ«نجيب» على شكل امرأة أثيريّة.

جاءت النماذج النسوية في الرواية الدّاخليّة غنية وتشع منها طاقة كبيرة؛ هي نماذج متأثرة بالفعل، أو الحدث أكثر من كونها صانعة له، لكن على الرغم من كل هزائمهنّ وسقطاتهنّ وخساراتهن، استطاعت هؤلاء النسوة حمل الرواية إلى ضفاف سردية بارعة، وعوالم نفسية معقدة تشبه عوالمنا الخفيّة إلى أبعد حدّ. ولا ننسى الممرضة «سلام» في الرواية الخارجية التي بثتْ هالة من التجديد والقدرة على العطاء والتّكيف مع حياة متقلّبة وجامحة.

«لون آخر للغروب» هي مفاجآت الحياة التي لا تنتهي؛ عندما تستكين إلى روتينها، وتظنُّ أنّها كشفت لك جميع وجوهها ولم يبق لديها شيء جديد، يظهر أمامك قوس قزح بألوان سبعة لم ترها من قبل. هذه هي الحياة التي تتحدث عنها هيا صالح؛ غرائبية أكثر من حياة جريجور سامسا وواقعية أكثر من حياة سعيد مهران.

هيا صالح روائية أردنيّة؛ كتبت في النقد والمسرح والدراما وخصّت الطفل بالقصص المصورة والمسرحيات التي تخاطب عقله ومشاعره. في رصيدها العديد من الجوائز أهمها جائزة كتارا للرواية العربية عام 2018 عن رواية «لون آخر للغروب» وجائزة اتصالات عن «شقائق النعمان» وهي رواية للفتيان، كما منحت جائزة الدولة التشجيعية في مجال أدب الطفل، وصدر لها مؤخرا رواية بعنوان «جسر بضفة وحيدة».

كاتب من الأردن







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي