كيف تَتَحدّد ملامح نقد الترجمة؟

2022-01-15

عاطف محمد عبد المجيد*

 

لا يُنكر أحدٌ أهمية الترجمة وفضلها على شعوب الأرض قاطبة، أينما ووقتما كانت. إذ إضافة إلى ما تُحْدثه الترجمة من حِراكٍ فكري وثقافي، ينمو ويتكاثر في ظل وجودها، وما تثمره من روابط وعلاقات، وتبادل ثقافات وأفكار في ما بين الشعوب وبعضها، فإنها تؤدي، وبشكل ملموس، دورالشعلة التي تعمل على إذابة جبال سوء الفهم، أو التفاهم والشقاق الذي قد يحدث بين الشعوب وبعضها، وتُقرِّب بشكل أو بآخر في ما بينهم، كذلك تقوم مقام المصباح، الذي يُضيء المناطق المعتمة، بالنسبة للآخرين، سواء في حاضر الأمم أو في ماضيها. ودون وجود فعل الترجمة في مناخ مناسب، أو دون الاهتمام به كما ينبغي، كما يحدث في بلاد العالم الأول، فإن الخسارة تكون لا حد لها.

نقد الترجمة

في مدخله الافتتاحي لكتابه «نقد الترجمة العربية.. الترجمة ومستويات الصياغة» الذي صدر عن دار التنوير للنشر والتوزيع في القاهرة، يقول علي نجيب إبراهيم: لعلَّ علي نقد الترجمة، كي يحدد خطوطه الكبرى المستقاة من النصوص التي يتناولها، أن يعيد النظر في طبيعة هذا الفعل الذي لا يمكن أن يعني فقط مجرد نقل المعاني من لغة إلى أخرى، إذ أن الترجمة تتعدى النقل وإن تضمنته. إنها بالأحرى محاولة للإحاطة بالتفاعل الحي داخل نص أجنبي وتجسيده باللغة العربية. وإذا كان التفاعل الحي حضوراً لواقع معين في لحظة من لحظات حركته الدائبة، يتعيّن على النقد أن يتبين كيف تمثَّل المترجِم هذا الحضور، وأنصت إلى نبض حركته. هذا ويضيف المؤلف أن نقد الترجمة هو نقد سياقي أساسه التفسير الذي تنطوي عليه دلالة الفعل «ترجم» ما يعني أن الترجمة في جوهرها ابتكار يقتضي مؤهلات تبدو بسيطة، لكنها ترتكز في ما وراء التمكن اللغوي، على شرطين بالغي الدقة لا يتوفران دوماً بالصورة المرامة، هما الإلمام العميق بخصائص اللغة العربية واللغة الأجنبية المترجَم عنها بالدرجة الأولى، والإحاطة بالقدر الكافي من سياقاتها الصغرى والكبرى، أي اللغوية والثقافية، بالدرجة الثانية.

منظوران مترابطان

بعد ذلك يتساءل المؤلف فيقول: كيف تتحدد ملامح نقد الترجمة التي تجعل منه حقلاً مستقلاً؟ ومجيباً عن هذا التساؤل، يرى المؤلف أنه يمكن تحديد ملامح هذا النقد عبر منظورين مترابطين: المنظور العام الذي يرسم إطاره الثقافي، ويتلمَّس امتداداته إلى الحقول المعرفية المجاورة، كعلم اللغة والبلاغة والأسلوبية، وجماليات اللغة، ونظرية التلقي. والمنظور الخاص الذي يتناول النص المترجَم بوصفه موضوع دراسة نقدية تمتلك أدواتها التحليلية، وجهازها الاصطلاحي الفعَّال. ثم يستدرك قائلاً: لكن ألا تُعدّ جودة النص المترجَم واحدة من القضايا التي يصعب تناولها منهجياً، لأنها بالتحديد تتصل بالمترجِم، وبصميم فعل الترجمة الذي يزاوله؟ فهو، حين يتصدى لصياغة نص يترجمه، لا بد أن يضع في حسبانه قضيتين بالغتي الأثر، على الرغم مما تنطويان عليه من صعوبة الخيارات وموضوعيّتها: تتلخص الأولى بالحفاظ قدر الإمكان على طابع النص الأصلي والأجواء الشعورية التي تنبعث من قراءته بلغته، وذلك بمراعاة ميزاته الشكلية، ومرامي المؤلف التي عكسها من خلال مهارات تعبيرية، لا يُضحَّى بها في الصياغة العربية باسم الفصاحة والجزالة والصنعة الأسلوبية المُحكَمَة. أما القضية الثانية فتتمثل في أن يراعي الجمهور الذي سيقرأ نصه مراعاة نسبية، لكي يُكيِّف أسلوبه فييسّر تناوله على أوسع جمهور ممكن تتباين فيه المستويات الثقافية، ويختلف التحصيل العلمي، وتتنوع الأذواق. ويرى المؤلف أن حال المترجم هنا كحال الصائغ الذي يُكيّف الأشكال التي يبدعها مع نصيب كل فرد من خبرة التذوق الجمالي التي تسهم في تنميتها أسباب وشروط لا تقل تعقيداً عن أسباب التنشئة الاجتماعية للفرد وشروطها والعثرات التي تعترض سبيلها.

أساليب حديثة

ومتحدثاً عن خلفية الأساليب الحديثة، يقول المؤلف، لعل الملمح الأساسي للنقد الترجمي أن يكون تناوله لهذه الخلفية ذا طابع تاريخي، فينظر إلى اللغة من زاوية تطورها آخذاً في الحسبان العوامل الداخلية والخارجية، الظاهرة والباطنة التي تسهم في تنوع مستوياتها الأسلوبية، إضافة إلى ذلك يرى المؤلف أن الترجمة في جانب من جوانبها قد تكون أداة فعالة لسَبْر أجناس النصوص وإدراك خصائصها الأسلوبية. ويعود ذلك إلى أن دخولها في ثنايا النص يتيح إدراك وزوايا معتمة لا يبلغها التصنيف الإجمالي، الذي يعتمد الملامح العامة. ويضيف المؤلف إلى تساؤلاته تساؤلات أخرى فيقول: هل من الضروري حقاً الاهتمام بجنس النص الأجنبي قبل نقله إلى اللغة العربية؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل يكتفي المترجم بتكييف منهجه في الصياغة العربية حسب طبيعة كل نص، حتى يتمكن من تقديم صيغة عربية متميزة، أم أنه لا بد من المترجم المتخصص المؤهَّل لغوياً بما يجعله يحقق المعادلة الصعبة بين المعنى وطريقة التعبير عنه؟

عملية رصد

يؤكد المؤلف على أن نقد الترجمة عليه أن يقوم بعملية رصد شاملة لمراجعات النصوص المترجَمة إلى اللغة العربية، كي يميز غثَّها من ثمينها، ومن ثم يضع للجودة حداً متوسطاً يتناسب مع مختلف الأساليب. وليس هذا بمُستعصٍ إذا أضفنا في هذا الباب الترجمات المسبوقة بمقدمات تبين أهميتها، وموقعها، والمعضلات التي اعترضت إنجازها، والترجمات التي ينهض بها مترجمان خبيران، كترجمة إحسان عباس ومحمد يوسف نجم لكتاب ستانلي هايمن «النقد الأدبي ومدارسه الحديثة» إذ أن مثل هذه الترجمات مراجع ذات أهمية بالغة في تأسيس ما يمكن أن يكون تاريخ الترجمة العربية، الذي يغترف منه نقد الترجمة مادته المساعدة على اجتراح مفاهيمه ومصطلحاته. أما الطامة الكبرى فتبقى، مثلما يرى المؤلف، في تلك النصوص التي لا تحقق حتى الحد الأدنى من سلامة اللغة واستقامة التعبير. وبعد جولة نقدية عريضة في بعض النصوص المترجَمة، وبيان ما فيها من نواقص وعيوب ما كان لها أن تكون، يختتم المؤلف كتابه القيّم هذا فيقول: الترجمة هي عملية تحويل معقدة نتيجة التصاقها بالسياق الثقافي والفكري والأدبي. ولئن كانت الخبرة الفردية أكثر الخطوات حسماً في هذه العملية، فهي كاللقمة السائغة نتلذذ بتذوقها، دون أن نفكر بالجهود التي أسهمت في سلسلة تحويلاتها، قبل أن تصير على موائدنا. ثم يضيف أنه ليس على نقد الترجمة أن يكشف فقط عن تلك الجهود بدءاً من الحصَّادين، وانتهاءً بالخبازين، بل عليه أن يبحث في كيفية تَمَثُّل الأساليب المتنوعة التي هي ثمرة تراكم معرفي صنعته جهود جماعية متلاحقة. وقبل أن يضع المؤلف نقطة كتابه الأخيرة يقول، إنه من الثابت أن لا شيء يعوض كفاءة المترجم وخبرته وتمكنه من اللغة العربية، الذي يعكس استعداده الدائم لتعميق معارفه، لكن الاعتقاد بأن جودة النص المترجَم محصلة لا ضابط لها ولا منهج، اعتقاد خاطئ الترجمة هي حقاً صناعة جوهرها تحويل خلاق يُذكِّر بتحولات الشاعر الروماني أوفيد، التي افتتحها بقوله مخاطباً الآلهة: «رسمتُ لنفسي أن أتحدث عن تحولات الأجسام في أشكال جديدة، فيا أيتها الآلهة أعينيني في هذه المحاولة».

*كاتب مصري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي