الفيلم الأمريكي «لا تنظر إلى أعلى»: حين نعجزُ عن الرّؤية… مقاربة سينمائية ساخرة

2022-01-09

بوستر الفيلم رامي أبو شهاب *


من الإنتاجات الحديثة لعام 2021 الفيلم الأمريكي «لا تنظر إلى الأعلى» الذي يُصنف ضمن دائرة الكوميديا الساخرة، بالتضافر مع طيف من الإثارة المتقنة درامياً، غير أن أهم ما يميز هذا الفيلم، قدرته على توصيف تهاوي المجتمع، وما يكمنُ فيه من نموذج شكلاني ينهض على التعلق بالتوافه، حيث لا يرقى الإنسان إلى مستوى الحدث، خاصة حين تستهلك القيم الجديدة واقعه لتحيله إلى أكبر قدر من التفاهة، لا على المستوى الفردي؛ إنما على المستوى الجمعي، والأهم من ذلك أن هذه التفاهة باتت جزءاً من تكوين النخب الحاكمة، كما يجسدها الفيلم عبر الرسم الكاريكاتيري لشخصية رئيس الولايات المتحدة، بأداء الممثلة القديرة ميريل ستريب، التي يتجاور حضورها الرائع مع نخبة مع أبرز نجوم السينما، ومنهم: ليونار دي كابريو، وجنيفر لورنس، وكيت بلانشيت، وروب مورغان، وجونا هيل، وغيرهم، أما الإخراج والكتابة فكانا لآدام مكاي.
في سؤال الباحث بيزلي ليفينجغستون عن قدرة السينما على أن تتفلسف، أو بعبارة أخرى أن تطرح إشكالية فلسفية، ومدى تحقق ذلك بين مؤيد ومعارض، ما يصرفنا إلى القول إن السينما ذات طابع متعدد الأدوات، حيث الحركة، واللغة، وباقي العناصر الأخرى تتأطر ضمن عامل البعد الجماهيري، مع بروز إشكاليتي الوضوح والمباشرة، اللتين يمكن أن تكبحا المعادلة الفلسفية، نتيجة تقديم محتوى ترفيهي، غير أن الإجابة تتحدد بفكرة ما الذي يجعل من قضية ما قضية فلسفية؟ الأمر يُناط بالأسئلة المطروحة، التي تتحدد بكون الفلسفة تُعنى في المقام الأول بالأسئلة التي نتجت عن نشأتها المبدئية، ومن أهم تلك الأسئلة ما الأخلاقي؟ كما يتصل الأمر بالمعالجة، فلا جرم أن تعدّ أفلام المخرج وودي ألين ذات طابع فلسفي، كونه يستعين بأسلوب المفارقة الكوميدية لنقد بعض الظواهر؛ من منطلق أن الضحك يثير فينا قدراً كبيراً من الأسئلة، ولاسيما حين نرى الواقع أقرب إلى مهزلة كونية، فتمسي الكوميديا أداة أو مخرجاً لتحقيق الهدف الفلسفي المنشود.

هذا النوع من الأفلام يسعى إلى تمكين مقصديّة عميقة لنقد الواقع، لكن تبقى السينما فعلاً جماهيرياً، ما يبرر صيغ التهكم والسخرية في تمكين السؤال الفلسفي، ومع ذلك يبقى هذا النوع من الأفلام أقل جاذبية لدى البعض، فلا جرم في أن يسعى الفيلم – الذي نحن بصدد تحليله ـ إلى توجيه الأنظار نحو أخطار التهديد البيئي، كما القيمي، والأخلاقي نتيجة الفراغ الذي نتج مع الثورة الصناعية الخامسة، مع بيان موقف المؤسسة الرسمية، كما الشعوب من عدم القدرة على إدراك الحقيقة نتيجة الغباء الناتج عن انحرافات قيمية، ومعرفية، وأخلاقية صاغتها المدنية الحديثة.

القدرة على الرؤية

يبدأ الفيلم بمشهد اكتشاف إحدى طالبات جامعة ميتشغان «كيت ديبيسكي» التي تؤدي دورها الممثلة جنيفر لورانس، مذنباً يتوجه إلى الأرض، ما يدعوها للاتصال بأستاذها البرفيسور «راندال ميندي» ليوناردو دي كابريو ليشرعا في مهمة احتساب موعد ارتطام المذنب بالأرض، والنواتج التي يمكن أن تتمخض عن ذلك، فيسارعان للاتصال بوكالة الفضاء الأمريكية ناسا، ومن ثم نقل الموضوع إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وهنا تتشكل إحدى الحيل المتقنة، عبر تمكين المفارقة على مستوى الفيلم، حيث
إن المشاهد يتوقع إثارة تنتج عن الاهتمام الرسمي، من خلال إعداد الخطط التي ستتخذها القيادة العليا لمواجهة هذا الخطر المحدق بالإنسانية جمعاء، غير أن المشاهد ينزاح إلى تكنيك سينمائي شديد الذكاء، حين ينتقل العالمان المغموران إلى البيت الأبيض بصحبة أحد المسؤولين، لكن المشهد يتأثث بسخرية مريرة، حين يضطر العلماء للانتظار دون مقابلة الرئيس، لانشغال الأخير بحملته الانتخابية، وتجاوز بعض الفضائح، فيؤجل الاجتماع ليوم آخر، في حين نواجه مشهداً مهماً، حين يقوم أحد قادة الجيش بإحضار وجبات خفيفة للأستاذ وطالبته، ويطالبهما بثمنها، لتكتشف الطالبة، في ما بعد، أن الوجبات مجانية في البيت الأبيض، فتستهجن فعل القائد الرفيع، ما يدفعها لطرح هذا التساؤل في غير موقع في الفيلم بسخرية تكاد تنسينا مشكلة المذنب، بغية توجيه رسالة واضحة لتهاوي النموذج القيمي لبعض القادة.
ولعل هذا يُعضد بعد سلسلة مشاهد – تؤديها باقتدار ميريل ستريب، الرئيس الأمريكي (أورليان) – حين تمارس الكذب والتشويه، وتضع الجميع في خدمة حملتها الانتخابية، فتشكك بوجود هذا المذنب لكونه يتعارض مع الحملة، ويشتت جهودها، فتقوم بالكذب على الشعب، وتنكر وجوده عبر إطلاق شعار (لا تنظر إلى أعلى)، أي باتجاه المذنب، في إشارة كنائية لمنطق الانحطاط، وهذا يتأتى عبر التشكيك بمستوى العالمين، اللذين اكتشفا المذنب لكونها لا ينتميان إلى إحدى الجامعات المرموقة، فيُسخر منهما، سواء عبر شكل جينيفر لورنس، وسنها المكسور، أو شعرها الأحمر، كما من أستاذها وهيئته، وهنا نلاحظ هيمنة نخبوية المرجعية في الحكم على الآخرين، لا عبر المنتج البحثي، فيضطر كلا العالمين للاستعانة بوسائل الإعلام، ومنها برنامج شهير، الذي يسخر هو الآخر من الضيفين، ويقدم على لقائهما المهم فقرة عن مغنية تنفصل عن حبيبها، في حين يؤجل اللقاء حول هذا الاكتشاف المهم…
وحين يبدأ الحوار، تبدأ السخرية من كل ما يتفوه به هذان العالمان، فلا أحد يكاد يستمع لهما من الجمهور، وهنا نلاحظ نقداً واضحاً لنسق الإعلام، والسخافة التي بات يتعامل فيها مع القضايا المصيرية، كونه ينشغل بالأخبار التافهة، والموضوعات القائمة على الفضائح، والشخصيات النكرات، وهنا يبرز الفيلم التّشديد على دور وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام في تمكين هذا النهج الذي بات نسقاً ثقافياً، يسمُ عصرنا الخاوي من أي معنى، وهذا يتعزز عبر حدث انحراف الأستاذ الجامعي (ليوناردو) حين يقيم علاقة مع إحدى المذيعات تؤدي دورها كيت بلانشيت، فيتخلى عن عائلته، وطالبته، وقضية المذنب، لكنه سرعان ما يستيقظ من غفلته، حين يدرك أن المصير بات أقرب للفناء مع اقتراب المذنب، وأهمية اتخاذ موقف.

النموذج الكنائي

يتخذ الفيلم عنوانه من حركة الاحتجاج التي نشأت بعد رفض المجتمع والقيادة لظاهرة المذنب، نتيجة عدم الاكتراث بالتهديدات التي تحدق بالوجود، والتشكيك بوجودها، عبر حملة مضادة شعارها (انظر إلى أعلى) كناية عن قدوم المذنب، وهذا ينشأ في مواجهة التعامي عن رؤية الحقائق، إذ يمكن أن نقرأ الشعار في إطار كنائي لا يتعلق فقط برؤية المذنب إنما بالدعوة إلى الارتقاء في التفكير، ورؤية الحقائق، والعناية بما له قيمة فعلياً، لا الانجرار وراء المظاهر، وهكذا ينشأ الانقسام بين هذين الفريقين إلى أن يظهر المذنب للجميع في السماء، وهو يقترب من الأرض، بحيث لا يمكن إنكار الحقيقة.
بعد إدراك الحكومة ممثلة برئيسها للخطر، ترسل أحد قادة الجيش السابقين من الموالين لها، والمعروف بأفكاره اليمينية المتطرفة من أجل الترويج الإعلامي، ودعم الحملة الانتخابية، إلا إن هذا القائد يفشل في مهمته الصاروخية لتدمير المذنب، وهنا نقرأ إحالة رمزية لفشل المؤسسة الحكومية أو الرسمية للتعامل مع هذا التهديد، خاصة مع وجود رئيسة فاسدة، تعين ابنها مديراً للأمن القومي، بينما تعين صديقتها مديرة لوكالة ناسا، في حين تجامل من يمولون حملتها، فيبدو الوضع أقرب إلى نموذج الدول المتخلفة.. وكأن الفيلم يتوقع هذا المصير للعالم، في ظل استمرار تدني النموذج القيمي الأخلاقي للحكام، ما يعني أن الفشل مبدأ يحكم أي خطوة تنتهجها الرئاسة؛ ما يضطر إلى تدخل القطاع الخاص ممثلاً برئيس إحدى أكبر شركات الهواتف الخلوية، ذات الطابع الرأسمالي، وهنا نرى إشارات لشخصيات تماثل نماذج ستيف جوبز، وألون ماسك، وبيل غيتس الذين يسعون دوما لتكوين ثروات عبر الترويج لمنتجهم بصورة ذكية، في حين يسخر من العلماء الحقيقيين، الذين اكتشفوا المذنب، وتُحيّد آراؤهم لتجاوز المشكلة.

الممثلة القديرة ميريل ستريب
وفي ظلال هذه الأحداث يخرج القطاع الخاص ممثلاً بمالك شركة الهواتف الخلوية، بفكرة تسعى للاستفادة من المذنب بشكل تجاري، ولاسيما المعادن الثمينة التي ينطوي عليها، بعد تفتيته عبر خطة خيالية، غير أن الخطة تفشل فشلاً ذريعاً، ما يؤدي إلى ارتطام المذنب بالأرض، وفناء البشر.
في مشهد ختامي نرى فيه فريق (انظر إلى أعلى) يتناولون العشاء في مواجهة أخيرة مع الحياة، قبل أن يتلاشى كل شيء، بينما النخب الحاكمة، ورجال الأعمال لديهم خطة بديلة للنجاة، تمثلت بصنع سفينة فضائية تحمل الرئيس وأعوانه، مع مجموعة من أصحاب المؤسسات ورؤوس الأموال، وهنا تتجلى السخرية في أوضح صورها، فبعد سنوات من دوران المركبة في الفضاء تنتهي على كوكب، وحين يخرج كل من نجا من فاسدي الأرض (عراة) دلالة على الإفلاس القيمي يلتهم أحد الكائنات الغريبة الرئيس الأمريكي (ميريل ستريب) في مشهد ساخر، ولا سيما حين نستدعي أحد الحوارات السابقة، التي تتعلق بخوارزمية ابتكرها مالك شركة الهواتف الخلوية تتوقع مصائر البشر، وهنا تعريض بقدرة الحواسيب والخوارزميات على تحليل البشر، وتوقع توجهاتهم… فالإنسان بات منتجاً سلعياً يمكن التحكم فيه، كما تفعل الشركات التي تفيد من المعلومات الخاصة بأعضائها، وهو نوع من الهجاء للنمط الذي يحكم فعل تسليع الإنسان، وتسخيره لخدمة رأس المال.
لا شك في أن المسلسل ينحو منحى تقديم جملة من الرسائل الواضحة على مستوى نقد النظم الفكرية والسياسية والاجتماعية، على أكثر من مستوى، كتلك التي تتصل بتقدير العلماء، وتقدير ما يمكن أن تتمخض عنه العقول، وأهمية ألا نخضعها لظاهرية مفهوم النخب، فما يحدد قيمة الإنسان عمله، لا شخصيته أو علاقته أو تكوينه أو تحالفاته، لكن الأهم نقد ما يمكن أن تحدثه الشعوب الجاهلة، والمخدوعة عبر انتخاب الأغبياء ليكونوا حكاماً يعتمدون في وجودهم على شبكة الولاءات والخداع، والأهم عدم امتلاك أي معرفة أو مهارة قيادية، سوى تقديم المصالح، وهذا يتحقق أيضا عبر نقد المؤسسة الإعلامية، وسذاجتها، وانشغالها بتوافه الأمور، وهو ما يبدو نهجاً فاسداً، أدى إلى تجهيل الشعوب، وإغراقها بالتوافه، وتسخيف عقولها تجاه كل شيء؛ فالجميع لا يريد أن يستمع، ولا يرى المشكلة، وهنا نلمح تعريضاً بفترة وجود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي كان قريب الصلة بهذه التوجهات، حين تخلى عن المنظومة القيمية، وكرس وجوده لشبكة مصالحه، وعلاقاته، فاعتمد مبدأ الصفقة من أجل الاستمرار بالحكم بأي صورة من الصور، والأهم من ذلك السخرية من القضايا البيئية والحقوقية والقيمية بالكلية.

 


 

*كاتب أردني فلسطيني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي