الكاتب السوري خطيب بدلة: السخرية أسلوب أدبي صِدامي يسعى للاشتباك مع الواقع لتغييره

2022-01-07

حوار: مصطفى الخليل

يُعد خطيب بدلة من كتاب الأدب الساخر في سوريا، وتكمن أهمية أدبه في كونه استطاع التعبير عن واقع وآلام الطبقة الشعبية في المجتمع السوري؛ يطرح على ألسنتهم مواضيع حساسة وإشكالية، بلغة مبسطة مفعمة بالسخرية اللاذعة، ولا يُعرف عن بدلة انحيازه للسلطات، بل يتماهى مع القضايا التي تؤرق السوريين، ويبرز هذا التماهي جليا بعد اشتعال الثورة السورية عام 2011، إذ يكرس قلمه لتعرية ممارسات الفصائل والكتائب المتطرفة، التي لا تقل عنفا وديكتاتورية عن النظام.

عن الأدب الساخر ووظيفته وعوالمه، والفرق ما بينه وبين النقد، كان هذا الحوار..

هل يكون الأديب الساخر على الورق إنسانا ساخرا في الواقع؟

الأمر الطبيعي أن يكون الكاتب الساخر منسجماً مع نفسه، شخصيته هي نفسها في الواقع وعلى الورق، لكن الكاتب يتجنب السخرية في الحديث اليومي لئلا يَجرح الآخرين. ثم إن القضايا التي نسخر منها في كتاباتنا قد لا تواجهنا في الحياة اليومية، بمعنى أننا نلتقي بالناس الطيبين الذين يشبهوننا، فكيف نسخر منهم؟!

السخرية ليست ترفا، بل هي تنفيس عن واقع مؤلم. ما رأيك؟

التنفيس أسلوب تتبعه السلطات الديكتاتورية لتضليل شعبها المتعطش للحرية، عبر أدواتها من الأدباء والفنانين. الأدب الساخر أرقى من ذلك بكثير، السخرية أسلوب أدبي صِدامي يسعى للاشتباك مع الواقع، ومقارعته وتغييره. مثال عن الأدب التنفيسي: أن تكتب قصة أو مسرحية أو رواية تتحدث فيها عن الفساد، وتجعل الناس كلهم يضحكون من الواقع الفاسد، ثم تأتي بخاتمة تجعل فيها حافظ الأسد أو صدام حسين نصيراً للمستضعفين، وأكبر محارب للفساد، والكل يعرف أنه أقام نظامه برمته على القتل والنهب والتسلط والسرقة والرشاوى.

هل مقولة شر البلية ما يضحك صحيحة؟ ولماذا اقترن الضحك في المخيال العربي بالشر رغم التضاد بين الحالتين؟

كل ما ورثناه من حكم وأمثال يحتاج إلى مراجعة. شر البلية ليس الضحك أو المُضحك أو النكات أو الطرائف. بالعكس هي أشياء رائعة، لكن الاستبداد الرابض على صدور الناس كالجدار هو الشر المطلق. كان الناس عبر العصور يخشون من كثرة الضحك، استناداً إلى تجارب يمرون بها. لأنهم، في يوم ما ضحكوا كثيراً وناموا، وفي منتصف الليل اقتحمت دارهم دورية أمنية مسلحة، شحطت ابنهم أو أباهم وغيبته سنين طويلة في السجون، عقابا له لأنه يتبنى رأيا مغايرا لرأي السلطة. لا شك في أن وجود الضحك في تلك الليلة كان مصادفة، وأما الاعتقال فتمارسه السلطة الديكتاتورية بشكل دائم. الناس الطيبون في هذه الحالة يقولون: الله يعطينا خير هذا الضحك. المشكلة ليست في الضحك، فالضحك هو النشاط الوحيد الذي يرمم أرواحنا وحتى أجسادنا، لأنه، كما أثبت العلم، مفيد للصحة أيضا.

تصوّر في غالبية ما تكتب شخصية الديكتاتور، بأنها غبية، حمقاء، ومثيرة للشفقة أحياناً، لكن المعضلة أننا لا نستطيع الضحك قبالتها، بل نتظاهر وندعي أنها شخصية فذة وعبقرية. يا ترى إلى مدى ساهم هذا التماهي مع الديكتاتور في تكريس الظلم؟ وهل الشعوب هي وحدها مَن تتحمل المسؤولية التاريخية والأخلاقية عن الظلم الذي حاق بها نتيجة صمتها؟

أولا.. لا أذكر أنني صورت ديكتاتورا مثيرا للشفقة، بل أصوره خبيثا، نذلا، متجبرا، تفوح القذارات من مفرق رأسه حتى أخمص قدميه. ثانيا، الأمر الطبيعي أننا لا نجرؤ على الاستهزاء من الشخصية الديكتاتورية بحضورها، أو حينما نكون في متناول يدها، فالديكتاتور قاتل وسفاح، ومخيف، لكن أن ندعي أن شخصية الديكتاتور فذة وعبقرية، هذه فيها خلاف، فالناس الذين تقع عليهم وطأة الاستبداد نوعان، نوع يتمكن من المحافظة على السكوت المشحون بالغضب والمعارضة، ونوع هش يضطر لأن يؤيد الديكتاتور (ظاهرياً فقط). ثالثا؛ الاستنتاج بأن (الشعوب هي وحدها من تتحمل المسؤولية التاريخية والأخلاقية عن الظلم) ليس دقيقاً. الشعوب تتحمل مسؤولية السكوت والطأطأة نسبيا، وأما مَن يتحمل المسؤولية الكبرى فهو الحاكم المستبد. لنتذكر أنه مدجج بكل أسلحة الدولة، بينما الشعب أعزل. رابعاً، وهذا هو الأهم، في الأدب لا يمكننا أن نفصل بين هذه الأمور مثلما فصلناها هنا. الأدب على العموم يختص بإثارة القضايا، وطرح الأسئلة الخطيرة التي يتجنب الحكام والناس الخائفون من مجرد التفكير بها. ولئن قسونا أحيانا على الشعب فلأننا نحبه، ويستحيل أن نكون إلا في صفه.

إلى أي مدى يساهم غياب النقد والمراجعة الذاتية لثورات الربيع العربي بتغول المتطرفين وتصدرهم المشهد السياسي؟ ومَن المسؤول عن ذلك؟

أتجنب أي حديث عن شيء اسمه (العربي) الربيع العربي، الأنظمة العربية، الاقتصاد العربي، التضامن العربي.. أرى أنها مفاهيم وُجدت أساسا لتمييع النقاش في أي أمر جدي. حين نقول، مثلا، ثورات الربيع العربي فإننا نحكي عن مفاهيم غير متجانسة، بدلالة السؤال الآتي: هل تجوز مقارنة ثورة 25 يناير/كانون الثاني، التي أدت إلى إقالة الرئيس المستبد حسني مبارك خلال أقل من عشرين يوماً، ولم يتجاوز عدد الضحايا المئات، بالثورة السورية التي مضى على انطلاقها إحدى عشرة سنة، وقتل خلالها مليون مواطن، وهجر سبعة ملايين من أبنائها، وهدمت نسبة عشرة إلى خمس عشرة في المئة من مبانيها فوق رؤوس ساكنيها؟ هل يمكن مقارنة ثورة 17 تشرين اللبنانية التي تقف فيها المرأة بجوار الرجل وهي ند له، بالثورة الليبية أو اليمنية أو حتى السورية؟ وبالنسبة للمراجعة أنا أرى أن السكوت والمداراة واللفلفة هي المصائب التي ستجعل انتصار ثورتنا يتأخر عشرين سنة أخرى، إن لم أقل أكثر، هذا إذا انتصرت. «الإسلام السياسي» الذي صعد على ظهر الثورة هو المسؤول طبعاً. وبالمناسبة؛ نفوذ الإخوان المسلمين والتنظيمات التي تفرعت عنهم في الثورة السورية أصبح كبيرا ومتمكنا، بما لا يقل عن نفوذ نظام الأسد في المناطق التابعة لحكمه. الفارق بين الطرفين هو أن نظام الأسد يركز آلية القمع الرهيبة التي يمتلكها على معارضيه فقط، ولا يهتم لما دون ذلك، بينما تمتلك التنظيمات الإسلامية سلمَ أولويات رهيباً في ما يتعلق بالأعداء. العدو الأول هو المرأة، الثاني هو الأديان والمذاهب الأخرى، الثالث هو الديمقراطية، الرابع هو المجتمع الدولي، والخامس – ربما – هو نظام الأسد.

وهل يستطيع الأدب الساخر أن يحل بديلاً عن النقد الممنهج؟ أم أن دوره يقتصر على الإمتاع؟

من قال إن الأدب الساخر يمكن أن يحل بديلاً عن النقد الممنهج؟ مستحيل. أنا أساساً لا أرى أن للأدب وظيفة محددة، وإن وجدت له وظيفة فهي لا تنحصر في التنبيه إلى انحرافات الثورة. الآن أنت تقرأ كتب المعلم الكبير أبي عثمان الجاحظ، فتتحقق لك المتعة أولاً، وربما لا تنتبه للمقاصد. حينما أقرأ كتاب «البخلاء» لا يهمني أن أعرف مَن يكون الأشخاص الذين يهجوهم أو ينتقص من قدرهم، فعملية الهجو عنده بحد ذاتها رائعة. الكتاب والأدباء والمفكرون السوريون لا ينقدون الثورة ولا يراجعونها، وإذا فعلوا ذلك تراهم يركزون على التذكير بجرائم النظام، وما أكثرها، وقلما تجد بينهم من ينتقد سجن العقاب الذي أحدثته جبهة «النصرة» أو يحتج على قيام المجرم التونسي «سفينة» بقتل رجال قرية قلب لوزة لأنهم دروز، ولا يشير إلا القليل منهم للضحايا الذين قتلوا على يد «داعش» و»النصرة» و»جند الأقصى» وهناك تنظيمات لا ينتقدها أحد تقريباً، مثل أحرار الشام وجيش الإسلام وما شابههما. قلما تقرأ لكاتب معارض سوري مقالاً يتضمن رؤية شاملة ومفصلة لمستقبل سوريا، خريطتها الجغرافية، شكل الحكم المنشود فيها، دين الدولة، دين رئيس الجمهورية، وضع الأكراد، تهجير المسيحيين والشيعة من مناطق سيطرة التنظيمات الإسلامية.

شخصياتك تشبهنا كثيرا ـ خاصة نحن السوريين ــ كيف تستطيع استجلاب الضحك من هذا الواقع الكئيب؟

السخرية لا تشترط الإضحاك، فإن وُجد تتحول السخرية إلى هزل، وهو أجمل وأرقى. في بداياتي، نعم، كنت أهتم بالإضحاك، وأهزل، وأما الآن فهو في آخر اهتماماتي. الضحك يحتاج إلى تنكيت، والأدب الساخر، كما يقول عنه بعض النقاد، هو ذروة الجد، ولاسيما حين يدخل في عمق السياسة والشأن العام وقضايا المجتمع، الذي يجري تدميره على نحو ممنهج. البديل للضحك هو ما سماه أستاذنا أبو حيان التوحيدي «الإمتاع والمؤانسة». وهذا يخفف من الآلام التي يتجرعها القارئ وهو يستقبل هذا الكم الكبير من الحديث عن الجرائم التي ترتكب بحق الإنسان السوري، تحت يافطات جذابة من قبيل: الوطن، الوحدة العربية، الوحدة الوطنية، حماية الدين، محاربة الإرهاب، محاربة الخوارج والمرتدين (ذبحونا ولم يسموا علينا).







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي