
حسن داوود
تبدو «فيلكا» الجزيرة القريبة من الشاطئ الكويتي، غير قابلة للتغيّر مع ما يأتيها من خارجها. أهلها ما زالوا مقيمين في عيش قديم، رغم أن سفن تجاراتهم دائمة التنقّل بين موانئ بلدان فارس والخليج والهند والحبشة إلخ. كما أنهم يبادلون بضائعهم مع السفن البريطانية، التي تبحر إلى بلدان أبعد. فيلكا، رغم ذلك، أشبه بقرية صغيرة منكفئة على أهلها القليلين، حسب ما يبدو حالهم في رواية منى الشمّري. لا يأتي من البلدان التي يقصدها التجار إلا أشياء لا تبدّل حياة أهلها: الحليّ والأقمشة التي يأتي بها التاجر الثري لزوجته، كي تتزيّن بها، أو تحفظها في صندوق حليّها. كما أن الزوار الكثيرين الذين يأتون لزيارة المقام القائم فيها، لا يلّون وجودهم حياة الجزيرة. لا يختلطون بأحد سوى بماريا، خادمة المقام ومحصّلة النذور التي تتركها الزائرات. أما البعثة الدانماركية المنقبة عن الآثار، فلم يحصل بين أفرادها وأهل الجزيرة إلا ذلك الانجذاب بين فهد، المتزوج غير المنجب، والحسناء المتعلّمة سوسن، مرافقة الدانماركيين.
ولأن السكان قليلون في الجزيرة -القرية ليس بين النساء إلا واحدة متمكّنة من قراءة الكتب. كما أن هناك امرأة واحدة يهودية أسقطت عليها كل ما يلصق من أوصاف شائعة عن طبائع اليهود وكيدهم في مِهَنهم. أما ماريا، خادمة المقام التي حرّرت نفسها من العبودية وراحت توقع بين النساء وتخيفهن، فهي الزنجية الوحيدة هناك.
رواية بلا سياسة، ما يوصف به الآخرون، الغرباء، مثل اليهودية والافريقية والإنكليز هو مما يتداوله الوعي الشائع المشترك في أوساط العائلات، والنساء من بينهم على وجه الخصوص. رواية بلا سياسة وبلا أيّ من الموضوعات التي تنتسب إلى ما يُكتب في روايات هذه الأيام. كان على الكاتبة منى الشمري أن ترجع إلى زمن قديم، وحياة قديمة، لتتمكن من نسج العلاقات بين شخصياتها. كأن زمن الرواية مأخوذ من حكايات عربية كانت شائعة في زمن قراءة سابق، ليس فيها ما قد يوصل إلى ما شهده البلد، والبلدان المجاورة له خصوصا، من أزمات وحروب ما زالت تتوإلى. ذهبت الكاتبة إلى زمن متخيّل وراكد في آن معا، ما يجعل واقعةً مثل العثور على جثة امرأة غارقة على الشاطئ مزلزلةً لحياة الجزيرة الراكدة. أما النساء اللواتي عثرن على الجثة، وهنّ خادمات المقام، فجعلن يتساءلن إن كانت الغريقة هي من نساء الجزيرة أو أن المياه جرفتها من بلدان أخرى مجاورة. ثم ما لبثن أن رأين أنها حامل بوليد ما زال حياّ في أحشائها. وقد أمكن لهنّ إنقاذه لتتبنّاه منيرة العاقر، وهي ستبقى عاقرا ما دام زوجها رفض أن يضمّ بيته ولدا ليس من صلبه.
لا تخبرنا رواية «خادمات المقام» شيئا عما نعيشه، وهذا ما بات نادرا في ما يكتب من روايات. كأننا، ونحن نقرأ، نستعيد ذكريات قراءة من تغريبة بني هلال أو من الحكايات المماثلة. غير أننا، مع ذلك، نقبل على ما نقرأ، مستعيدين «نشوة الزمان الجميل» حسب وصف ناقد، وُضعت عبارته هذه على صفحة الغلاف. هو الزمن الجميل، أو الزمن المتوهّم أو المتخيّل، ذاك الذي سعت الكاتبة إلى أن تُخرج منه كتابا يُقرأ، وإن ظل القارئ يتساءل إن كان ما يقرأه كافيا.
ذاك أن قصص الغرام، على غرار ما حصل بين عذبة وخالد، هنا في الرواية، لم تعد قادرة على حمل روائي كامل، ومثلها قصص الظلم العائلي، وانصراف الزوج عن امرأته وبيته. هي قصص كثيرة حكتها رواية منى الشمري في سعيها للعودة إلى ذلك الزمن الجميل. أما الجوهري الذي يمكن أن يستخلص من الرواية، أو من عيش شخصياتها، فأوكل للجاحظ، الذي حملت عذبة، القارئة، لواءه متحدّية به التقاليد البالية في الجزيرة، التي يمثّلها المقام. كانت عذبة تنتظر عودة حبيبها خالد حاملا لها، من البصرة، كتابا للجاحظ لم تقرأه بعد. في الحوار كثير ما ترد فقرات من أقواله، وكلما تقدّمت الرواية إلى الأمام في سردها راحت تلك المقتطفات تقدِّم للفصل الجديد، وهو فصل قصير، لا يزيد عدد صفحاته غالبا عن ثلاث صفحات أو أربع صفحات.
حِكَم الجاحظ تلك تبدو على الدوام محلّقة فوق المجريات التي استعين بها في التقديم له. في مرّات عديدة رحت أجري تدقيقا لتبيّن إن كانت هناك صلة بين المقتطف وما كان عنوانا له. هناك الكثير من الجاحظ في الرواية، لكن حضوره لا يتعدّى ما يستقى من عباراته وحكمه. لا جملة واحدة عنه أو عما ترى عذبة فيه، كأن الروائية جاءت به ليتكلّم هو عن نفسه، لنا نحن من نقرأ الرواية، وليس لشخصياتها من النساء.
فجأة، تُعلمنا سطور أعقبت خاتمة الرواية، أن مقام فيلكا كان قائما فعلا، وقد هدم مرتين، الأولى في ثلاثينيات القرن العشرين، ثم أعيد هدمه في 1976 بعد أن كان قد أعيد بناؤه مرّات.
رواية منى الشمري «خادمات المقام» صدرت عن دار الساقي في 205 صفحات- 2021.
كاتب لبناني