الكاتبة الفلسطينية هيلانة الشيخ: المرأة تذرّع فشلها بذكورية المجتمع

2022-01-05

حوار: كه يلان محمد

تزايد الاهتمام بفن الرواية وأصبحَ مجالا متشعبا بثيماته المتعددة وبمكره في اختراق محمية المحرمات، وإثارة الأسئلة بشأنِ العقليات المُهيمنة والأهمُ في هذا السياق هو حضور المرأة الكاتبة في فضاء الإبداع الروائي، إذ تمكنتْ من كسر الحصار الذي ضربه الخطاب السائد حول اختياراتها الثقافية والفكرية، حول وظيفة الرواية، وما يمكن أن يقدمُه الروائي في معترك الحياة، وأفق تطور الإبداع بعد تراخي سلطة الرقيب الخارجي كان لنا حوار مع الكاتبة الفلسطينية هيلانة الشيخ.

هل توافقين كولن ولسون في رأيه أن الوظيفة الأولى للرواية هي المتعة؟

العجيب أن تخرج هذه المقولة من رجل حفر الصخر ليبلغ هذه الوظيفة كما يقول! فوالده كان عاملا في أحد مصانع الأحذية، ترك تعليمه مبكرا ليساعده، فكيف جمع كولن هذه التناقضات؟ بعد نجاح «اللامنتمي» هوجم من الصحافة والنقّاد واتهموه بالنفاق والتزييف. يقول فرانسيس بيكون: «القراءة تصنع إنسانا كاملا، والمشورة تصنع إنسانا مستعدا، والكتابة تصنع إنسانا دقيقا». بينما يقول كافكا: «الكتابة شكلٌ من أشكال الصلاة» لكل كاتب فلسفته التي يوظّفها من خلال أعماله الروائية، لا أتفق معه كون المتعة لها عدة مفاهيم لا تتحقق بالقدر ذاته في القراءة، الكاتب لا بد أن يكون صاحب موقفٍ قبل كل متعة يحققها. الحيادية ممتعة لمن يسيرون في الشوارع ولا يدركون متعة عامل النظافة عندما تتسخ يديه ليحقق معادلة النظافة. قلّة من يدركون الفارق بين لذة المعركة ولذة المشاهدة، بين متعة البناء ومتعة شراء منزل عصريٍّ مجهّز بالتكييف وأرضيات مرمرية. لماذا نحيّد أقلامنا ونطالب القراء بأن يكونوا منصفين لنا؟ علاقة مرضيّة تلغي لذة القراءة المتحررة وتفرض مبدأ؛ مع القطيع وضد من يخرجون عنه. والمؤسف بحق، أن الكاتب رغم يقينه بأن هؤلاء أتباعه يتناولون كتاباته كما يتناولون البرسيم، إلا أنه يعرف كيف ومتى يعلفهم. ومتى يدرك الكاتب أن بضاعته فسدت وإن حُصدت؟ يبقى السؤال: ولمن يعود الفضل؟

لا تنفصل بدايات فن الرواية عن واقع المهمشين والتعبير عن الرغبة لتقويض ثنائية النخبة والعامة، في رأيك هل نجحت الرواية العربية على هذا المستوى؟

إلى حدٍ ما، الرواية أخطر فنٍ تُبنى عليه فنون أخرى، فكل إنجاز يبدأ بفكرة، وكل فكرة لا بد من سردها على ورق، ثم نقلها إلى مساحة حيّة كخشبة مسرح أو مقطوعة صوتية أو مرئية. أنت تبني فِكرا لا بد أن تخاطب كل شريحة بما يتفق مع قدرتها، لا يمكنك كتابة رواية واحدة تستجيب لها جميع الفئات، الكتابة عن المهمشين لا تعني الكتابة لهم، فعندما نكتب عن قضايا الجوع والفقر والمرض واللجوء وأسرى الحرب، هل بربك هم قادرون على قراءة ما نكتبه؟ نحن نحاول بالكتابة نبش الواقع وتعريته لفئةٍ قادرة على التغيير، نكتب إلى جيلٍ يبحث عن فتيل ثورة كامنة داخله، نكتب لمن يبحثون عن قطرة ماء في جوف صحراء. لن تحدث طفرة برواية عربية، وإن حصدت جائزة عالمية، نصفق ونهلل وفي قرارة أنفسنا نعي أنها مجرد رواية للقراءة فقط، إن لم تتحول إلى فنٍ تالٍ كفيلم سينمائي لن تنجح في إحداث تغيير فعلي، وعلى سبيل الذكر لا الحصر- رواية «يعقوبيان» أو «ساق البامبو» التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني، حقق ضجة في الوسط الخليجي.

ما رأيك بشأن التيار النسوي.. هل تمكنت المرأة من التغريد خارج هموم الجنوسة في المجال الإبداعي؟

انتهى عصر الثورة النسوية، نحن نعاني في ما بعد النسوية، المرأة اليوم طغَت وتخلّت عن أجمل غرائزها أمومتها – لأجل مقعدٍ وزاري أو منصب سياسي. أنا ضد هذه التيارات النسوية التي تطالب بالمساواة، حققت المرأة بكينونتها الأنثوية في كل مجالات الإبداع، وتفوقت أيضا على غريمها – الرجل. ترأست دولا؛ ميركل المرأة التي نهضت بألمانيا في أعصب سنتيّ الجائحة. في الأدب كم امرأة حصدت نوبل عالميا؟ وكم كاتبة حصدت البوكر عربيا؟ نحن النساء نكتمل بالرجال ولا مفر لنا من جندرة الخانة، وعلى المرأة أن تتوقف عن تصدير المرأة كضحيّة في المجتمع. الإبداع النسوي إذا حقق كفاءة الطرح لن يقابل بالرجم، الأدب الرديء طغى على أغلبية الأقلام من رجال ونساء، لكن المرأة تتذرّع بذكورية المجتمع لتغطية فشلها. تمتلك المرأة بأنوثتها حاليا كل أسباب النجاح، ولا أعني بأنوثتها الجسد! سحر الاختلاف وسحر الصدق، التماهي مع الواقع ففي «لوليتا» و»آنا كارنينا» و»مدام بوفاري» غوستاف فلوبير تماهى مع بطلته إلى أن قال: «مدام بوفاري هي أنا». واللبيب بالاشارة يفهم.

ما دور وسائل التواصل الاجتماعي والوسائط المرئية في تلاشي النزعة الرومانسية في الكتابة الروائية؟

علينا عندما نكتب أن نحترم ذكاء جيلٍ يستخدم جميع وسائل التواصل، لم يعد الطفل ذلك الطفل الذي تخاطبه عبر مسلسل كرتوني كمسلسل «سندباد وجزيرة الكنز» فكيف تسرد له قصصا من الرومانسية المسطّحة وأنت تعي أنه لا يقرأ، ومن يقرؤون من جيل الشباب يتجهون نحو ما يسمى بأدب الرعب، انتهى زمن عنترة وامرؤ القيس، وأصبحت رومانسيات أحلام مستغانمي وجبة باردة بائتة لا يتناولها إلا المحنّطون من زمن انتهت صلاحيته. على الكاتب أن يواكب عقلية القارئ، التي تجاوزت سرعة الضوء، صعدنا القمر وشيدنا ناطحات سحاب، وما زال بعض الكتّاب مندثرين تحت رومانسية أقلام أكل عليها الدهر وشرب. لن تُرضيه بقصة حب مفرّغة من أبعاد فلسفية وانفعالات نفسية، أو مشاهدٍ ناريّة جريئة لتستطيع إشعال الركود فيه أولا ثم إشباعه أدبيا.

هل يصح الحديثُ عن مقص الرقيب الخارجي في العصر السيبراني وماذا عن تجربتك مع ثالوث المحرم في أعمالك الروائية؟

يصح الحديث عنه ولا يصح التيمّن به، الرقيب الوحيد عليك أنت، أنت محاصر بمفاهيمك المزروعة داخلك، إن لم تتخلص منها لن يخلصك أحد. هذه التكنولوجيا مجرد أداة نتبادل عبرها السلامات والمعايدات أكثر من تبادلنا الثقافات. تناولتُ في أعمالي لما يصطلحُ عليه بالمحظورات في المجتمع العربي، بدءا بالدين والتشريعات، كالجلد والرجم وقطع اليد في روايتي «امرأة أمسكت في ذات الفعل» وتطرقت لحوار الأديان الثلاثة في النزاع على الأرض – فلسطين- والغيبيات في روايتي «فما بكت عليهم الأرض» كما تطرقتُ للمثلية في «تبسمت جهنم» والعلاقات فيسبوكية. لافتة تغطية ظاهرة الوهابية في القصيم والبكيرية والتطرف الديني والعنصرية في حقبة الثمانينيات والتسعينيات، تضافرا مع قضية الأطفال اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، وتحديدا في مخيمات إربد، ومعاناة لجم الكاتب الحر في روايتي «البوكر». كذلك تطرقت للعنوسة وغشاء البكارة والحرمان وعوالم الكتابة والنشر في روايتي «بماذا أخبر الله».

هل الكتابة بالنسبة إليك تعويض لغياب الحب، أم أن تجربة الحب هي دافع للانخراط في العملية الإبداعية؟

عندما نفقد صوت الحقيقة ووجه الحاضر نعتكف في عزلةٍ عن الواقع القبيح، نرفض الصمت وننغمس في الخيال، نتنفسه كبديلٍ للهواء المسمَم الملوّث بدماء الأبرياء، أو دنسِ الجهل والظلم ومرارة الحرمان والفقر الذي تحول إلى كابوسٍ قاتل أو حلمٍ واهٍ. هكذا نطلق العنان لأوجاعنا وذكرياتنا حتى لا تتفشى كالأورامِ في دواخلنا وتقتلنا؛ نطلقها حسبما شاء القدر؛ نحن لا نختار هو من يختارنا ويختار لنا البطولات بانحيازٍ طاغٍ، يعبئُ بنا خاناته دون مراعاةٍ لما يتلاءم مع الأدوار والمساحات الخاوية. خبطٌ من العشوائيات يُجسد عملا روائيا يفرض نفسه عليك وتفرضه على ذاتك كي تكون أنتَ أنتَ لا سِواك. أنا أفترش نوباتي المجنونة بلونيّ الحزن والفرح/ العشق والكراهية/ الضعف والقوة/ الرغبة والرهبة/ الطُهر والعهر/ الجهل والمعرفة/ الحرية والعبودية/ الفقر والترف… أتلذذ بممارسة طقوسي على نص فيه من الرجم ما يؤلمني كفلسطينية، ويداويني كأنثى، وفيه من البوح ما يمنحني مساحات شاسعة من الحرية التي نقرُّ بها ولا نملكها، نسيج يشبه الدانتيل الرقيق في تفاصيله، ويشبه الكتان السميك في تماسكه ويشبه الإنسان في غلاظة عقله ومرونة قلبه.

ثمة خيط واهن بين الإيروتيكية والإباحية هل تمكن المبدع العربي من إمساك بهذه الشعرة أو قد خلط بين الأوراق؟

قلّة من يدركون هذه الشعرة الرقيقة، الكتابة الإباحية لون سهل من الكتابة، كل ما عليك فقط أن تصف مشهدا جنسيا إباحيا، دون أن تلتفت للبعد الفلسفي أو النفسي من وراء هذا الطرح، إنه نمط من السرد لتسليع الجسد فقط. بينما في الأدب كلمةِ إيروتيكيّة؛ آيروسيّة تعني إلهُ الحُبِ والخصوبة، الكتابة دون الابتذال من الأدبيات الصعبة. لا يمكن أن نسمي ما يكتبه العرب حاليا أدبا إيروتيكيا، فقديما تناولت بعض الثقافات مفهوم البطل الشهواني من خلال أحداث جنسية عبثية؛ فصُوّر أفروديت عمياء لاتبصر، أو بجناحين في سماء زرقاء، أو على ظهر دولفين كما صوّره الأقباط.

ولو راهنا على أكثر الأعمال جرأة لوجدنا «أصل الهوى» لحزامة حبايب، و»برهان العسل» لسلوى النعيمي، الأقرب لأدب الإيروتيك عربيا. بينما يقف الجميع على المحك بمن فيهم أنا.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي