
علي حسن الفواز
قد تبدو رواية خضير فليح الزيدي الجديدة «العمة زهاوي» الصادرة عن دار مصر العربية للنشر والتوزيع/ القاهرة 2020 رواية حدثٍ، أو سيرة شخصيات تتمركز حوله، لكنها سرعان ما تتمرد على هذا التوصيف، لتبدو أكثر تمثيلا لبنية الرواية المركبة، حيث تضع السيرة والتاريخ والشخصيات في صراع محتدم، وأمام لعبة سرد مفتوح، يتلمس من خلالها الروائي ما هو مخفي في دواخل شخصياتها من تشوهات، هي نظيرة لتشوه واقعها، و»هويتها المغيبة» و»ذاتها الاغترابية» إذ تجعلها تلك التشوهات أكثر اضطرابا وغموضا، وأكثر قلقا وخوفا، ولتجعل الرواية وكأنها رواية بوليسية، أو رواية خيال علمي..
الزيدي يراقب شخصياته، يضعها في دائرة معتمة، ويجعل من صراعها محكوما بإشارات سيميائية، يستلها المؤلف من الواقع والتاريخ والمقدّس، ورغم أنه يحجب شخصية العمة زهاوي في أكثر فصول الرواية، إلا أنه يجعلها بؤرتها المركزية، والمجال التناصي الذي يحرّك فيه الشخصيات الطفيلية التي تدور في عالمها، والتي تخضع إلى موجهات محتوى وصيتها الغرائبية، حيث تؤدي وظائفها عبر مرويات ناقصة وذرائع تمثيلية، على مستوى ترسيم علاقتها الشوهاء بسيرة العمة، وبعوالمها وسرائرها الغامضة، أو مستوى علاقتها بالمكان الذي صار دوستوبياً بعد موت العمة الغامض في المستشفى الأمريكي، حيث تتكشف أطماع تلك الشخصيات، وخياناتها وعلائقها المريبة، مثلما يتشظى المكان الدوستوبي ذاته إلى أمكنة مضادة، مسكونة بالغرائبية والشبق والأوهام، تتخفى فيها الشخصيات عبر أقنعتها، وعبر يومياتها النافرة، لاسيما بعد وصول الموافقة الحكومية على عرض المؤسسة لتشييد مشروع «جنة العراق» الفانتازي في الصحراء الغربية.
«إلى مؤسسة العمة: ننتظر قرار مساهمتكم في واحدة من لمسات إبداعاتكم لتصميم جنة أرضية ذكية تضاهي بعظمتها تصاميمكم العالمية، وتحاكي بعظمتها جنة الله. مؤسستكم هي مؤسسة كسر النمط والتخطي غير المألوف. علماً أن حكومتنا الموقرة خصصت أعلى ميزانية في تاريخ حكوماتها لهذا المشروع العملاق».
هذا المشروع الغرائبي ينطوي على فكرة لها مساس عميق ببنية الرواية السردية، إذ يتحول إلى مجال تخيلي، وإلى مسار وظيفي لتعزيز الرؤية السردية، ولإعطاء المتخيل السردي حافزه في التمثيل الواقعي والتاريخي، وفي «تزمين» منطق السرد، والكشف عن تعالقه بالواقع العراقي، فالروائي يضاعف من طاقته الدلالية، ليبدو السرد وكأنه نوع من الكوميديا السوداء، في سخريته، وفي استعارة تمثلاته للمكان المقدس، والمكان الجحيم، الذي تحمست له «العمة زهاوي» بوصفه مشروعا لجنة متخيلة، تستعيد معها رغباتها الجنينية المتخيلة للعودة إلى الرحم المكاني، مقابل رفضها القاطع لعرض تصميم فانتازي آخر لسجن أمريكي مقترح.
ما بين القبول والرفض تكشف الرواية عن إيحاءات، تنسحب إلى سردنة الواقع، والتاريخ والخيال، مثلما تؤشر الحمولات الرمزية لصراع الحيوات العراقية الصاخبة، مع أقنعتها، ومع الآخر، وعلى نحوٍ يجعل من تتبع حركتها وكأنه فعل مراقبة، وتقص، فيه من الفانتازيا، ما فيه من درامية الحبكة البوليسية، وفيه من المغامرة ما فيه من الغموض والمكر.
رواية «عمتى زهاوي» تفتح باب الطلسم، ليتبدى الواقع مشوها، عبر الكشف عن سير شخصياته المشوهة، حيث يتحكم الروائي بسردنة تلك الشخصيات، عبر إفاداتها واعترافاتها، وهي تتغول في خداعها وفي صراعها، وعبر أقنعتها، فقناع الشخصية الرئيسة المهندس «حسن العمة» يجعل فعل الحكي، موجها نحو تعرية علاقتها بشخصيات الرواية الأخرى، بدءا من شخصية «العمة» بوصفها «متناصة تبئيرية» تستجمع الأصوات، وتؤطر الحركات، وتجعل من «حسن العمة» المسكون بهوسه الجنسي وعقدته من أنفه الكبير وقصر قامته ورفض لميس الحموي له، أكثر تمردا، ليبدو شخصية أكثر عدائية وتشوهاً، وتعمل على تحفيز الموجهات القصدية في المجرى السردي، لاسيما بعد موت العمة، عبر إعادة صياغة الوصية، والتآمر لتنفيذ المشروع في صحراء العراق، والتخطيط للتخلص من أعدائه « الخبير الأمريكي يوهان، الشيخ زريق، حسن غناوي، لميس الحموي وزوجها الحاج صبري» وقناع حسن غناوي يكشف عن هشاشة شخصيته، وعن شبقه المؤجل، وقناع الشيخ زريق يُخفي مرجعياته الإرهابية، ونهمه في خداع العمة، وفي استغفالها، وقناع الشريك يوهان يفضح انحرافاته، وعن ارتباطاته المشبوهة مع صنّاع أفلام البورنو ونزعته للأمركة وأجهزتها المخابراتية، وحتى لميس الحموي تخفي تحت قناعها الأنثوي البراق تاريخا من الخداع والتورية الجنسية..
وصف الروائي لعالم الجنة الأرضية، ليس بعيدا عن الترميز بوصف غرائبية الصراعات التي تحوط المكان العراقي، بوصفها مكانا للنقائض، والفانتازيا، والأوهام والصراعات، التي تبدو غير مترابطة، لكنها تتكشف على خليط من الانتهاكات الرمزية، والتشوهات الأخلاقية، وحتى اختيار الصحراء لإقامة مشروع الجنة الأرضية يحمل رمزيته الدالة على عقم المكان.
إفادات سردية
خمسة أصوات تقدم إفاداتها السردية في الرواية، وعبر شهادات متقاطعة. ورغم تعدد هذه الإفادات، إلا أن صوت الراوي يظل مركزيا في إفادته، ليس في تأطير مساحته السردية وحسب، بل في ضبط موجهات سرد تلك الإفادات، وعبر ربطها ببؤرة الحدث المركزي، ليكون أكثر تمثيلا لتحولاته، ولغرائبية أحلام العمّة الثقافية والتاريخية والهندسية، وفي دلالة علاقتها الرمزية والنفسية بالمكان العراقي، وعبر رغبتها في إقامة تعالق ما بين فكرة مشروع «جنة العراق» مع حلم العمة بقصة الإسراء والمعراج، وكذلك باستيهاماتها مع أمكنة متخيلة أخرى، ليست بعيدة عن فانتازيا مكتبة بورخس ومكتبة مانغويل.
وضعنا الزيدي أمام إزاحة سردية، استخدم فيها كثيرا من التقانات المجاورة، حيث التحليل النفسي، والتحقيق البوليسي، وحيث توظيف تقانات الهندسة والجغرافيا لترسيم مخطط الرواية الرمزي، ولبناء أحداث تشتبك فيها مستويات سردية متعددة، تستجمعها بؤر نفسية، وإحالات غرائبية، في وصف «الجنة الأرضية» والدخول التطهيري إليها عبر التعري وارتداء ورقة التوت، وممارسة طقوس الاعتراف، وفي سردنة الوقائع بنوع من السخرية، وكأنها تقيم مقارنة افتراضية بين ما يجري في الجنة وما يجري في الواقع العراقي، وعبر شخصيات طارئة تتخلى عن سترها، لتجد وجودها أمام المفارقة، وأمام لعبة الإيهام بالخلاص، «بدأ برنامج المعايشة وفق المنهاج، وحسب التوازن المجتمعي بترضية المكونات كافة، وأصدرت وزارة التخطيط- بالتعاون مع إدارة الأوقاف – التعليمات اللازمة لهذا الغرض. أدخل الجميع حسب بطاقة التموين في الحواسيب العملاقة، ثم صدرت القوائم تباعا، وتم نشرها في الصحف الرسمية، كما استحدثت الحكومة «قناة المعايشة» لتهتم بإعلان القوائم لكل يوم من أيام السنة للمسؤولين المتدينيين والحكوميين على حد سواء».
وصف الروائي لعالم الجنة الأرضية، ليس بعيدا عن الترميز بوصف غرائبية الصراعات التي تحوط المكان العراقي، بوصفها مكانا للنقائض، والفانتازيا، والأوهام والصراعات، التي تبدو غير مترابطة، لكنها تتكشف على خليط من الانتهاكات الرمزية، والتشوهات الأخلاقية، وحتى اختيار الصحراء لإقامة مشروع الجنة الأرضية يحمل رمزيته الدالة على عقم المكان، وعلى أنه قريب من خطط التنظيم الإرهابي وأوهام «المجاهدين المهاجرين». التنظيم الإرهابي «أهل الجنة» وعلاقته بالمشروع، يدخل في المجرى السردي بوصفه «أسطرة للحدث» وإحالة إلى توجيهه، فخطة السيطرة على المشروع هو جزء من اللعبة التي اقترحها الشيخ زريق الذي كانت العمّة تموّل مؤسسته، بالتنسيق مع الشريك الأمريكي يوهان، ومع الإرهابي ابو عوف النيجيري، وكأن المؤلف يوحي بأن مرجعيات الإرهاب ليست مجهولة، وأن تمويلاته ليست بعيدة عن سرديات الجماعات التي تقف وراءه، والتي جعلت من سيطرتها على «الجنة الأرضية» ترميزا للسيطرة على المكان السياسي، وأن إيقاع شخوصه وتعريتهم واغتصابهم هو تمثيل لتعرية ما يجري في الواقع.
الهروب إلى السردي
تأطير الرواية بالعجائبي والغرائبي أتاح للروائي نوعا من الاحتيال على الواقع، إذ يتحول هذا الاحتيال، إلى وظائف خارقة للشخصيات، وإلى لعبة مفتوحة، لتحفيز الخيال الحكائي، ولتوسيع تشكيل ما هو عجائبي في الرواية لأداء وظيفة تأويلية، تعمل على تسيير مجراها السردي من جانب، وعلى تحويل إفادات الشخصيات إلى «وجهات نظر» مخاتلة تدور تبئيراتها حول تجليات ما هو غرائبي في «الجنة الأرضية» مقابل كشف الروح الشيطانية للشخصيات، تلك التي تتنافر أصواتها، لكنها تتوحد عند التعبير عن الحمولات الرمزية للصراع، ولما يتبدى عبره من مواقف فاضحة، بدءا من خيانة الوصية، وخيانة الجسد، وليس انتهاءً بغموض موت العمة، والبدء بـ»تصفير المؤسسة».
ما يمكن ملاحظاته في هذه الكشوفات هو محاولة الروائي للانفتاح على «مكامن سردية» أراد تعرية ما خفي في نسقها المضمر، وكأنه يعمد إلى مقاربة تعرية ما تخفيه المكامن العراقية، ولتبدو لعبتها في التعرية أكثر تمثيلا لحيوية «السارد الذاتي» الذي لبس قناعه المؤلف، في إدانته لشخصياته المشوهة، وحتى في الوضع التخيلي لمشروع العمّة المابعد حداثي، إذ بدا هذا المشروع وكأنه وهم كبير أمام الواقع الموحش والقاسي، وبما نجد في «السينوغرافيا السردية» التي اعتمدها الروائي تغذية للتخيل، وتنويع مجرى السرد في الرواية، ليس بوصفه الحكواتي، بل بصفته الإنشائية المسرحية التي يكمل فيها الروائي هيكل روايته الفانتازية، التي كشف عن وهم جنتها المهندس المقيم «حسن الجنة» عبر كشف وهم التشوه الذي يحدث في الواقع العراقي بقوله: «حدث الذي حدث» بسبب الخلافات الكبرى التي نشبت بين أطراف السلطات العراقية ولسبب واقعي حول هوية الأشخاص المرشحين ومكوناتهم العرقية والطائفية لإدارة المشروع ، فيما العالم كله ينتظر حلحلة الخلافات المحلية للدخول السياحي إلى الجنة مستقبلاً). التعالق ما بين السحري والواقعي هو حلقة التأليف السردي الفاعل في الرواية، وعبر جدّة المؤلف في التعاطي مع حدثٍ مفتوح على رمزيات وتأويلات واسعة، وعبر تقانة ماهرة في استراتيجية السرد من خلال المقاربة بين الواقع والخيال، وعبر استبدال الوظائف والوثائق، واختلاق شخصيات عائمة، لكنها تروي عبر أقنعتها أحداثا، وتصطنع تاريخا، تستثمر رمزية حساسة لـ«العمة زهاوي» لتنفذ من خلالها إلى صناعة مشروع زائف، وإلى ترحالات زائفة، وعبر شخصيات يمكن أسطرتها وتزييفها في واقع العراق الخيالي.
كاتب عراقي